بقلم الأستاذ: أحمد فايد - كاتب وناشط سياسي ارتري

الإحتفالات الرسمية، الأوقاف يبادر والثوار يؤجلون:

في ملمح حضاري قلما تجد مثله، وفي حالة من الحكم الشعبي المفتوح والمنضبط

بأخلاقيات الإنسان الإرتري؛ كانت حركة الحياة منظمة في اسمرا وفي كل أرجاء ارتريا، وكانت النشاطات الشعبية في ذروتها والإحتفالات في كل مكان، والمبادرات تأتي تباعاً.

حالفني الحظ أن أكون ضمن الفرق العاملة في احدى تلك المبادرات حين قامت هيئة الأوقاف في أسمرا بتبني لوائها معلنة عن تنظيم مسيرات ضخمة احتفاءً باكتمال التحرير والخروج من ظلام الإستعمار ببزوغ فجر الحرية تماشيا مع شعار المرحلة حينها "وأكتمل الشروق".

بدأ العمل للقيام بمظاهرة شعبية عارمة تكون أكثر تنظيماً بعيدا عن العفوية والإرتجال الذي ساد الأنشطة السابقة، وتم اتخاذ قرار أن تنطلق المظاهرة في يوم الجمعة 31 مايو 1991 بعد أسبوع واحد من جمعة التحرير.

كان ضغط عملية الاعداد مكثفاً حيث تمكنت ورش العمل التي كانت في ثلاث مقرات رئيسية، من إعداد كميات هائلة من اللافتات الصغيرة بأحجام 2A التي يرفعها الأفراد ولافتات كبيرة تحملها الجماعات، وأخرى ضخمة ربما بعرض الشارع لتسير في مقدمة الصفوف. كما تم طباعة العلم الإرتري في نسختيه الورقية والأخرى المطبوعة والمرسومة على القماش.

التـــــــــــــــأجيل:

وبعد اكتمال عناصر الخطة واستكمال الإستعدادات اللازمة لتنفيذها، تم إبلاغ الثوار بالإستعداد للإنطلاق، فأشار الثوار إلى هيئة الأوقاف بأن الشركاء الآخرين لم يقوموا باستعداداتهم وأنه يفترض أن يقوم الجميع بهذه المهمة في تناغم يعبر عن مضامين الوطن وأنهم، أي الثوار، سيبلغون الأوقاف بجاهزية الجميع. ومن أجل ذلك تم تحديد قنوات تواصل بعينها من الثوار يمكن التنسيق معها.

ظلت تلك القنوات تؤجل الأمر أسبوعا بعد آخر حتى تم السماح بأن يكون هذا اليوم المشهود، وهذه التظاهرة الضخمة احتفاءً بتحرير كامل التراب الإرتري، يوم الخميس الموافق لتاريخ 20 يونيو. وتم تحديد المسارات لكل تظاهرة حتى الوصول إلى نقاط الإلتقاء لتكوين المسيرات الموحدة الكبرى.

تغيير المســـــــــــار:

ما أن تصل المسيرات إلى نقاط الإلتقاء، كان الجنود بانتظارها لتولي مهمة قيادتها وتحديد اتجاهات سيرها النهائية ويقومون بضبط النظام فيها.

عبرنا المسارات التي حددوها وقادونا إليها جنبا إلى جنب مع شركائنا في الوطن، الذين لم يكن إعدادهم لليوم واضحا حيث لم يحملوا أية شعارات سياسية تعبر عن المسيرة. ولكن كان من الجيد أن يأتوا بألوانهم الزاهية إلى المشاركة في المسيرة مما أضفى إليها رونقاً وجمالاً. كما أنه كان من الرئع أن يسير الجميع في وجود شعاراتنا التي كانت تكفي وتفيض.

سرنا مبتهجين فرحين بتحرير أرضنا إلى أن قادنا الجنود الذين أوكلت إليهم مهمة تحديد الإتجاهات إلى الملعب الرئيسي في أسمرا المعروف "تشيتشيرو". وهناك التقينا لأول مرة بقادة العمل التحرري وضيوفهم من دول الجوار.

مهرجان احتفالات التحرير يتحول:

بدأ مهرجان الخطابة حيث تصدره رأس الثوار حينها، "الرفيق إساياس أفورقي" (بحسب نص التقديم المتعارف عليه حينها) ليصعد إلى المنصة ويرحب بالجمع الوطني الغفير ويباراك لهم التحرير، ويعلن عن أن هذا الجمع الغفير أتى ليشهد إحياء يوم الشهيد الإرتري (20 يونيو) وأعلن عن سقوط أكثر من 50 ألف شهيد في مسيرة النضال التحرري.

نعم، تم اختطاف تظاهرتنا العظيمة حيث ذهبنا للإحتفال بالتحرير وانتظرنا كمين يوم الشهيد في "إستاد اسمرا"، وتم الإعلان عن تظاهراتنا على أنها تظاهرات يوم الشهيد. وللإطلاع والتأكد مما جرى ومقارنته بما سردت أعلاه وتم الإعلان عنه من قبل الثوار حينها، يرجى متابعة تسجيلات هذا اليوم وقراءة شعاراته والتدقيق في تفاصيل تحركاته؛ هذا عوضا عن اللافتات المفصولة عن النسق الجماهيري التي تم إدراجها وحشرها حشرا في التسجيلات والأخرى التي جلبها الثوار.

وللعلم فإن مجريات الأحداث حينها تختلف تماما عما سارت عليه لاحقاً وآلت إليه الآن، فالحكم لمعطيات اللحظة. ويمكنني القول هنا بأننا في ذلك الوقت لم نع ما كان يجرى حولنا بقدر ابتهاجنا بالتجمع الضخم الذي كنا جزءً منه ومحركا أساسيا له. كما أن فزعنا من أعداد الشهداء المعلنة كان كبيراً. وللأمانة لا بد ان نستثني من ذلك بعض الكبار الذين كانوا في حالة استغراب لعدم الشفافية وإخراج المسيرة من مضمونها، وأنه كان من الطبيعي إبلاغ المنظمين والمحركين الأساسيين للمسيرة بما سيحدث!!

في ذات المهرجان الذي شهد استعراضا لقوة الثورة العسكرية، أعلن إساياس عن البدء في حملات إعادة البناء بذات وتيرة وحماس النضال التحرري. كما تم الإشارة إلى مشاريع حملات الخدمة الصيفية المعروفة بـ ክረምታዊ ማእቶት التي كانت ستبدأ على الفور.

هذه الخدمة كانت فرصة سانحة للحركة والتعرف على البلاد، بالمجان، وذلك بعد حياة كانت كلها إغلاق ومنع للحركة والتواصل خارج مدينتك أو قريتك. هذه الحياة يعرف تفاصيلها من عاش في إرتريا إبان الإستعمار الإثيوبي وفترات تمدده وانكماشه المتتابعة. وأذكر هنا مثالاً لا حصراً بأن حركة التنقل من أسمرا إلى كرن في نهاية الثمانينيات وحتى اكتمال التحرير، كانت تستغرق قرابة الـ12 ساعة كلها رعب في نقاط التفتيش بالرغم من وجود تصاريح مرور الأفراد التي يتم التصديق عليها من القبلي (إدارة الحي) والكفتنيا (الإدارة العليا للأحياء) ومركز الشرطة (الأمن) وهيئة الأركان (الجيش).

وأختم قولي بالحديث عن الحالة العاطفية التي كانت بعيدة كل البعد عن مجريات الأحداث الراهنة، وعليه كان من الطبيعي أن تجد الجميع مبتهجاً بمشروع الخدمة الصيفية والتعرف على البلاد للاستمتاع بالحرية التي أتت بعد طول انتظار.

وتحقيقاً لأحلام التجوال في ربوع الوطن كان الجميع على استعداد للمشاركة. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى الاثر الذي أحدثته الطفرة الثقافية المفاجئة والوقع الذي أستحدثته في مجتمع مغسول الدماغ عبر عقود من الغزو الثقافي والتجهيل المنهجي بالانتماء للوطن الارتري ثم النقلة الفنية التي أتت دون مقدمات، والتي نذكر منها موضوع حلقتنا القدمة أغنية أخليلو تفنو ዙራሞ ሃገርካ.

نواصل بإذن الله... في الجزء القادم

• السابق
• التالي