دور اللغة العربية فى الحياة اليومية للمجتمع الارتري ماضيا، حاضرا ومستقبلا

بقلم السفير الأستاذ: عبده بكري هیجي

الحديث عن دورة اللغة العربية فى الحياة اليومية للمجتمع الارتري - ماضيا، حاضرا ومستقبلا.

هو في حقيقة الأمر حديث قد يطول ويتشعب إذا ما عدنا إلى التأريخ القديم، وبحثنا بعمق وتفصيل عن منشأ هذه اللغة في إرتريا وتطورها وانتشارها حتى مرحلة أضحت فيها إحدي اللغات الوطنية الرسمية فى البلاد. وتفاديا للاطالة وتجنبا لتكرار ما ورد فى الورقة المعنونة "الخلفية التأريخية للغة العربية فى إرتريا" سنكتفي بتسليط الأضواء على أهم العوامل والمؤثرات التى ساعدت اللغة العربية على الانتشار والتداول الى أن أصبحت لغة مؤثرة فى الحياة اليومية لمجتمعنا. ونتطرق باسهاب وتفصيل الى واقع اللغة العربية إبان المراحل الاستعمارية المختلفة، ثم مرحلة الكفاح المسلح والدولة الارترية المستقلة.

ونخلص بالحديث عن مغزى تدريس اللغة العربية فى مختلف المراحل الدراسية، وأهمية هذه اللغة من منظور موقع إرتريا الاستراتيجي على البحر الاحمر، والرؤية الجيوبوليتكية للمنطقة، وما يمليه علينا الأمن القومي والمصلحة الوطنية الارترية من واجب ومسؤولية فى التعاطي مع هذه اللغة على كافة المستويات والصعد.

اللغة العربية ماضيا:

الحديث عن دور اللغة العربية فى المجتمع الارتري ماضيا، يقودنا إلى الحديث عن منشأ هذه اللغة وسبل انتشارها فى مجتمعنا. الحميرية هى أساس اللغة العربية وهى ما سميت فى منطقتنا بالجئز التى تعتبر مصدرا للغة التجرينية والتجري والامهرية. وتشير بعض الكتب التأريخية الى دخول اللغة العربية هذه المنطقة قبل دخول المسيحية اليها، والبعض منها يربط دخول اللغة العربية بوصول المبشريين المسيحيين من أرض الشام الى هذه المنطقة، بيد أن السواد الأعظم من كتب التأريخ القديم منها والحديث تجمع على أن وصول المهاجرين الأوائل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الى نجاشي الحبشة قبل هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) الى المدينة المنورة في عام 614 ميلادية أى قبل نحو 1400عام والتى ضمت الخليفة عثمان ابن عفان، وجعفر بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وما تلاها من الهجرات، كانت النواة الأولى لمنشأ اللغة العربية فى المساحة الجغرافية المعروفة اليوم بإرتريا.

ومع بدء الفتوحات الاسلامية، وما أفرزته هذه الفتوحات من خلافات وحروب وتشرد فى شبه الجزيرة العربية، إزدادت هجرة العديد من المسلمين ولجوء حتى القرشيين على حد سواء الى الضفة الاخرى من البحر الأحمر. إستوطن هؤلاء في بادئ الأمر في الشواطئ، ثم مع مرور الزمن زحفوا نحو الهضبة واختلطوا بالسكان، ثم تزاوجوا وتكاثروا.

وقد لعبت جزر دهلك بحكم قربها من شواطئ شبه الجزيرة العربية دورا هاما كنقطة تجمع وإنطلاق للهجرات العربية القديمة المتجهة صوب اليابسة باتجاه الشاطئ الارتري. وكان من بين المهاجرين علماء دين ومشائخ أتوا لنشر التعاليم الاسلامية عبر إنشاء خلاوي قرآنية، وبناء مساجد، وعقد حلقات مواعظ وتدريس اللغة العربية. ومن بين أقدم المساجد التى انشئت فى إرتريا مسجد الشافعي فى مصوع الذي بني فى عام 800 ميلادية، ومسجد الشيخ حمال الأنصاري الذي بني فى القرن الخامس عشر. وشهدت هذه الرقعة من الارض تغولا من الامبراطورية العثمانية فى بادئ الأمر، ثم أتى اليها المصريون ومكثوا فيها لفترة طويلة.

ورغم الحروب والغزوات المتبادلة التى كانت سائدة فيما تعرف اليوم بارتريا والمناطق المتاخمة لها، إلا أن السلطة الفعلية فى هذه الرقعة من الأرض كانت فى أيدي الزعماء المحلين مثل "كنتيباي" فى الساحل، و"دقلل" و"شوم" فى المنخفضات الغربية، و"نائب" فى سمهر، و"سلطان" فى المناطق العفرية، وكذلك "عد شيخ" و "عد سيدنا مصطفى" كواجهات دينية. وبحكم انتشار الإسلام، وإستمرار الهجرات من مناطق الحجاز واليمن، تبني هؤلاء الزعماء رعاية الخلاوي لحفظ القرآن الكريم. ومع مرور الزمن تم توسيع هذه الخلاوي بحيث أصبحت تعقد فيها حلقات دينية، ويدرس فيها الفقه الاسلامي واللغة العربية. ونتيجة لذلك بدأت اللغة العربية تنتشر ببطئ وبالتدريج كلغة دين بين الزعماء والحكام المحليين والواجهات الدينية ورعيتهم، وأصبحت اللغة العربية الى حد ما لغة للتبادل التجاري فى الشواطئ الارترية.

اللغة العربية إبان فترة الاستعمار الايطالي

انحصر تدريس اللغة العربية ابان فترة الاستعمار الايطالي فى الخلاوي، والمساجد فقط. حيث لم يكن الاستعمار الايطالي يسمح بانشاء المدارس حتى الدينية منها. لذلك إقتصر التعليم آنذاك على اللغة الايطالية، ولفئة قليلة من أبناء النخب. ولم يكن يسمح لهؤلاء إلا التعلم حتى الفصل الرابع الابتدائي. ونتيجة لذلك لم تحظ اللغة العربية كبقية اللغات الارترية بالرعاية ولا بالاهتمام من قبل الايطاليين.

بيد أن الطرق الصوفية مثل الختمية والشاذلية والأحمدية والقادرية لعبت دورا مؤثرا فى تلقين وتدريس اللغة العربية وتوسيع دائرة إستخدامها. وكان للأسر والبيوتات التى تبنت هذه الطرق مثل "عد شيخ محمود" و "عد شيخ حامد ود نافعوتاي" و "عد سيدنا مصطفى" و "عد درقى" و"عد معلم" وكذلك "ملحينا معين برا" فى مناطق الساهو وغيرها تأثير ودور فى رعاية الخلاوي الدينية التى تدرس اللغة العربية، مما جعل هذه اللغة تستمر وتتوسع بالتدريج كلغة دين، وتواصل فى آن واحد.

وبين حين وآخر كان يبرز من بين عامة الناس فقهاء يجيدون العربية، ويخاطبون بها جموع المسلمين فى المساجد والحلقات الدينية، وفي الافراح والاتراح، وفى مناسبات تحييها مختلف الطرق الصوفية. وهاجر العديد من خريجي الخلاوي للاستزادة من العلوم والمعارف الدينية الى كل من زبيد باليمن، والمدينة المنورة بأرض الحجاز، والأزهر الشريف بمصر. وعاد الكثيرون منهم ليعملوا كقضاة فى المحاكم الشرعية، ورجال دين يمارسون الخطابة فى المساجد، وتدريس التعاليم الدينية واللغة العربية. ومن بين العائدين الأوائل كان الشيخ إبراهيم المختار الذي عينته السلطات الايطالية مفتي الديار الارترية فى عام 1936 والذي بدوره سعى الى إنشاء المعاهد الدينية فى المدن الارترية.

وقد تم إنشاء أول معهد إسلامي فى مصوع وذلك فى عام 1938 وتبعه معهد مماثل فى كل من أسمرا وكرن. وفي ذات الاعوام حدث تدفق أعداد كبيرة من الجالية العربية تضم يمنيين وسعودييين من ابناء الحجاز بحثا عن العمل فى ميناء مصوع، ثم أتي مزارعون استوطنوا فى دوقلي ووقيرو وبسيس بشعب، وزحف البعض منهم نحو الهضبة وبدؤا يمارسون التجارة فى أسمرا وصولا الى صنعفى وعدي قيح جنوبا، وكرن وأغوردات وتسني وبارنتو وقلوج وأم حجر فى المديرية الغربية. وتوغل هؤلاء فيما بعد الى اثيوبيا مع الغزو الايطالي لها. ومن هنا نستطيع القول بأن الجالية العربية وخاصة اليمنية منها أسهمت الى حد ما فى توسيع دائرة استخدام اللغة العربية فى إرتريا.

فانتشار هذه الجالية فى أنحاء مختلفة من البلاد واختلاطها بالسكان ثم تمكنها من استحواذ الثروة والعقار، ساعد كثيرا على اتساع دور اللغة العربية فى المنخفضات بالدرجة الاولى والهضبة الارترية بشكل محدود. وفى مسعى منها للوصول الى القارئ بالعربية، سارعت الحكومة الايطالية الى إصدار ثلاث جرائد باللغة العربية وتوزيعها على الدوائر الحكومية والدينية وكذلك النخب المثقفة من الارتريين والجالية العربية. وهذه الجرائد هي "اليومية الارترية " التي بدأت بالصدور عام 1928، الجريدة العسكرية "سافويا" التى بدأت تصدر فى عام 1934، ثم جريدة "بريد الامبراطورية" فى عام 1936. وهذا إن دل على شيئ فانما يدل على أن اللغة العربية كانت قد بدأت دائرة استخدامها تتوسع بالتدريج الى درجة أن الايطاليين رغم عنصريتهم بدؤا الاهتمام بها، بغرض التواصل مع السكان والتقرب الى المسلميين، والوصول الى الجالية العربية والتأثير عليها.

اللغة العربية إبان فترة الإستعمار البريطاني:

إنتعشت اللغة العربية، وإنتشرت وتوسعت دائرة إستخدامها أكثر إبان فترة الاستعمار البريطاني. حيث منح الانجليز السكان حيزا من حرية التعبير والتعليم والتجمع وتشكيل الأحزاب وإدارة شؤون البلاد والعباد الى حد ما، مما أعطى اللغة العربية الفرصة أكثر من غيرها للتوسع والانتشار. ومنذ البداية سعى الانجليز الى إسترضاء المسلمين بالتواصل والحوار مع الزعماء المحليين ورجال الدين والنخب المثقفة وكذلك الجالية العربية فى إرتريا. ولهذا الغرض أنشأ الانجليز العديد من المدارس التى تدرس باللغة العربية، وجلبوا العشرات من المترجمين والمعلمين السودانيين الذين أسهموا بشكل مباشر فى توسيع نطاق إستخدام اللغة العربية على طول البلاد وعرضها.

وقد إستفاد الانجليز من الامكانات المالية للجالية العربية ونفوذها لاستمالة مواقف المسلميين وكسبهم الى جانبهم. وفى ذات الوقت سمح الانجليز للجالية العربية فى اسمرا باقامة مدارس أهلية خاصة بها. فانشأت مدرسة الجالية العربية فى 28 مارس عام 1942، وكانت تدرس الفترة الصباحية والمسائية وتستوعب نحو 1400 طالب حسب إحصائيات مدرسة الجالية العربية بأسمرا. ومنذ البداية كانت تدرس المنهج المصري. وأول من ساهم فى انشائها هم من الأغنياء العرب مثل نجيب يوسف جمبلاط وهو لبنابي الجنسية، وسعيد سالم باعقيل، ومحمد أبوبكر باخشب، وأحمد عبيد باجنيد واخيرا سالم باحبيشي. تولت إدارة المدرسة فى بادئ الامر بعثة سودانية، ثم اسندت الادارة فيما بعد الى بعثة الأزهر الشريف.

وساهمت الجالية العربية فيما بعد فى إقامة مدرسة إسلامية خيرية معروفة بـ"إسلامية" بالقرب من المقبرة الاسلامية والتى كانت مدرسة أكاديمية تدرس حتى المرحلة الاعدادية. كما سمح الانجليز للميسوريين من الجالية العربية بشراء الكثير من العقار لصالح الاوقاف الاسلامية فى أسمرا ومصوع وكرن وغيرها.

ومن هنا نقول ان أجواء الانفتاح النسبي والمناخ الحر الذي إتسم به العهد البريطاني أنذاك، أوجد أرضية مناسبة وخصبة للزعماء المحليين والأعيان ورجال الدين والنخب المثقفة من الارتريين المسلميين لجعل اللغة العربية لغة تواصل فيما بينهم، ولغة حوار ومخاطبة مع الادارة البريطانية، ولغة إتصال بالعالم الخارجي وخاصة العالم العربي والاسلامي. وذات الأجواء كانت دافعا لاقامة المزيد من الخلاوي والمعاهد الدينية، والمدارس الحكومية والأهلية التى تدرس اللغة العربية.

ورافق هذه المرحلة أجواء سياسية غاية فى الاهمية والتعقيد حيث ساد على طول البلاد وعرضها جدل سياسي حاد فيما يتعلق بمستقبل إرتريا ومصيرها. وهنا كان للغة العربية دور كبير فى تشكيل الوعي السياسي للمسلميين الارتريين بحكم انها كانت لغة دين وتواصل وحوار، ولغة أجادها زعماء تلك الفترة للتأثير بها على الصعيد المحلي ولإسماع صوت إرتريا وشعبها للعالم الخارجي. ولما كانت الادارة البريطانية تسعى جاهدة لإستقطاب المسلمين وإستمالتهم الى توجهاتها السياسية، فانها بدأت تطبع وتوزع ثلاث إصدارات باللغة العربية هى "الجريدة الارترية الأسبوعية" عام 1943، و"مجلة الشهر" عام 1944، و"الجريدة العربية الأسبوعية" عام 1945. وفى ذات الوقت بدأت الأحزاب الارترية التى انشئت إبان الانتداب البريطاني والتى كانت تتنافس بشكل حاد فيما بينها بدأت تصدر هى الاخري جرائد مختلفة لشرح أهدافها وتنوير القارئ بمستجدات الأحداث، وإقناعه بموقفها ثم كسبه الى جانبها.

وكانت للعديد من المؤسسات الخاصة وبعض التجمعات الثقافية إصدارات دورية باللغة العربية. ومن بين هذه الاصدارات "صوت الرابطة الاسلامية" لحزب الرابطة الاسلامية فى عام 1947، "الجريدة الاثيوبية" لحزب الانضمام فى عام 1947، "نور إرتريا" للحزب الموالي لايطاليا فى عام 1947، "إرتريا الحرة" لحزب إرتريا الجديدة فى عام 1949، "وحدة ارتريا" للكتلة الاستقلالية فى عام 1950، "مجلة أسمر الثقافية" لمحمود ربعة في 1947عام، "جريدة الغرفة التجارية الارترية" فى عام 1951، "المجلة الاقتصادية الارترية" لنوماديني الايطالى فى عام 1951، "مجلة المنار والثقافة" لصالح عبدالقادر بشير عام 1954. وكانت مجلة المنار الثقافية واسعة الانتشار فى ارتريا وخارجها، حيث كان لها قراء فى القاهرة، وبيروت، وبغداد آنذاك. وفى ذات الوقت كانت العديد من الجرائد والمجلات العربية الاسبوعية منها والشهرية متوفرة فى الأسواق والمكتبات الارترية مثل جريدة الاهرام، وآخر ساعة، وروز اليوسف، والمصور، ومجلة العربي وإلى حد ما مجلة السياسة الدولية وغيرها.

وإنتشرت فى تلك الفترة الأغاني السودانية فى المحلات التجارية والمقاهي وحتى داخل المنازل، وكان العديد من الفنانيين السودانيين مثل الفنان الكبير احمد المصطفى، والفنان محمد احمد سرور، والفنان حسن عطية، والفنان عثمان حسين وغيرهم يحيون الامسيات الغنائية فى أسمرا ومصوع وكرن. وكانت دور السينما فى أسمرا ومصوع وكرن تعرض بعض الأفلام المصرية على مدار العام. أما سينما إمبيرو فكانت تعرض فيلما مصريا أيام الجمعة، وأفلاما مصرية جديدة أيام العيد والمناسبات الدينية. وفى هذه الفترة بالذات إنتعشت السياحة فى إرتريا، وكان معظم السياح يأتون من السودان والسعودية لقضاء إجازاتهم، وفى الغالب لقضاء شهر العسل والاستجمام. ومن هنا نستنتج أن اللغة العربية إبان العهد البريطاني انتشرت إنتشارا واسعا، وتضاعف نطاق إستخدامها والاهتمام بتعلمها وسبر أغوارها حتى أضحت لغة هامة من حيث سعة نطاق التعامل والتواصل بها.

اللغة العربية إبان فترة الفيدرالية:

في الفترة الفيدرالية إستمرت وتيرة إستخدام اللغة العربية ودورها فى الحياة اليومية للمجتمع الارتري بحكم إنتشارها كلغة تواصل وتفاهم، وإتساع دائرة السجال السياسية بين مختلف الأحزاب والكتل السياسية والنقابية حول مستقبل ومصير إرتريا. وبذات المستوى إزداد الى حد ما إستخدام اللغة العربية فى الدوائر الحكومية والدوائر الخاصة والأهلية فى كافة انحاء البلاد. وكان للجالية العربية باع طويل فى تمويل بناء المزيد من المساجد والمعاهد والمدارس التى تدرس اللغة العربية، كما أخذت تدعو علماء ومدرسيين مصريين من الأزهر الشريف واليمن للعمل كخطباء فى المساجد ومدرسين فى المدارس والمعاهد المنتشرة في انحاء البلاد. وفى هذه المرحلة بالذات عاد العديد من علماء الدين الارتريين الذين تخرجوا من الأزهر الشريف، والمدينة المنورة وغيرها.

وقد عمل هؤلاء كمعلمين فى المعاهد والمدارس، وقضاة شرعيين فى المحاكم، ومترجمين، وكتاب فى الصحف اليومية. بيد أن أكثر ما تميزت به هذه الفترة هى المناقشات الحادة التى جرت فيما سمي انذاك بالبرلمان الارتري فيما يتعلق باللغة الرسمية للبلاد. فقد أجمعت كل الكتل والاحزاب السياسية على إختلاف توجهاتها وبرامجها السياسية عدا حزب "الاندنت" ان تكون اللغة العربية الى جانب لغة التجرينية لغة رسمية للبلاد، قد أقر البرلمان ذلك. وكان ذلك تأكيدا صريحا وواضحا بأن للغة العربية فى ارتريا دور مهم ومكانة كبيرة.

كل العوامل والمؤثرات المذكورة آنفا وخاصة المناخ السياسي الذي ساد البلاد إبان الانتداب البريطاني وحتى مرحلة الفيدرالية ساعدت كثيرا على جعل اللغة العربية إحدى لغات التواصل الأساسية، ولغة يعبر بها الناس عن مشاعرهم الدينية، وتوجهاتهم السياسية، ويسمعون بها صوتهم للعالم الخارجي، ويمارسون بها التجارة، ويتعاملون بها مع السياح، ويعبرون من خلالها عن مكنوناتهم الثقافية والوجدانية. ومن هنا نستطيع القول إن سنوات الانتداب البريطاني والفيدرالية كانت أكثر السنوات خصوبة بالنسبة للغة العربية بحيث أصبح لهذه اللغة دور مؤثر فى المجتمع وحياته اليومية.

اللغة العربية إبان فترة الاستعمار الاثيوبي:

حارب الاستعمار الاثيوبي منذ البداية اللغة العربية على أساس الاعتقاد بأنها لغة المسلمين المعارضين للفيدرالية ثم الضم، والرافضين للوجود الاثيوبي فى إرتريا، وأخيرا الداعمين للثورة الارترية. وبذات المستوى حارب الاستعمار الاثيوبي لغة التجرينية، ثم اٌقدم على احراق العديد من الكتب والوثائق المكتوبة بالعربية اولا ثم التجرينية لاحقا. ناصب المستعمرون الاثيوبيون منذ البداية وبصورة مكشوفة وعلنية العداء للغة العربية باعتبارها لغة معادية لتوجهاتهم ومصالحهم فى ارتريا. واعتبروا الدول العربية والاسلامية دولا تتدخل فى الشأن الاثيوبي لتعاطفها مع الحق الارتري، ولما تقدمه من دعم وتأييد للثورة الارترية، وما تمنحه من تسهيلات لزعماء الاحزاب السياسية فى بادئ الأمر ثم لقيادات الثورة الارترية لاحقا.

وكان الامبراطور هيلي سلاسي يدعي بأنه من سلالة اليهود، وانه مناصر للدولة اليهودية ومعاد لكل ما هوعربي فى الامبرطورية الاثيوبية. ونتيجة لذلك طرد الامبراطور فى الستينيات الألاف من أعضاء الجالية العربية فى ارتريا، ثم سحب رخص الألاف منهم حتى أجبر السواد الأعظم منهم على مغادرة البلاد باتجاه اليمن والسعودية ومصر وغيرها.

وفي ذات الوقت ألغى الامبراطوراللغتين العربية والتجرينية كلغتين رسميتين للبلاد، وفرض اللغة الامهرية كلغة رسمية، ولغة تدريس فى المرحلة الابتدائية على أن تدرس كلغة فى المرحلة الاعداية والثانوية، كما إشترط النجاح فيها للالتحاق بجامعة اديس ابابا. فمنذ إلغاء الفيدرالية فى عام 1962 وحتى اعلان الاستقلال فى عام 1991 عمل المستعمرون الاثيوبيون بكل طاقتهم على إجتثاث اللغة العربية من إرتريا عن عمد وسابق إصرار. ويمكن القول بأنهم نجحوا فى تحجيم دورها كلغة تتعامل بها الدوائر الحكومية، وإن كان فوق طاقتهم إلغاؤها كلية من داخل المجتمع الارتري.

اللغة العربية إبان مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال

عندما نشأت حركة التحرير الارترية فى 1958/11/2 سارت على نفس نهج الاحزاب والكتل السياسية الارترية. حيث جعلت اللغتين العربية والتجرينية لغتين أساسيتين فى التواصل، وأداة للتعبئة والاقناع، وإيصال خطابها السياسي وتوجهاتها وأهدافها لعامة الناس سواء بداخل الوطن أو خارجه. وكانت الحركة رغم سرية نشاطها وأجواء القمع والتعسف التى كانت سائدة آنذاك، تصدر بين حين وآخر بياناتها ومنشوراتها ودورياتها باللغتين وتوزعهما فى المدن الارترية والسودانية وبقية بلاد المهجر. ونجحت الحركة الى حد كبير فى إيصال رسالتها وإستقطاب الكثير من فئات المجتمع سواء أكان ذلك بالانضواء تحت لوائها أو التعاطف مع أهدافها وتوجهاتها. ومن بين أهم إصدارات الحركة من الكتب آنذاك نذكر "أحرار إرتريا يقدمون القضية الارترية" فى عام 1960، "إرتريا بين الماضي والحاضر والمستقبل" و"إرتريا ضحية المطامع" ثم "قصة الاستعمار الايطالي لارتريا". وكانت هناك إصدارات اخرى مثل مجلة "صوت إرتريا"، ونشرة "الحقيقة". فكانت اللغة العربية ملازمة لكافة نشاطات الحركة منذ نشأتها.

وبذات القدر استخدمت جبهة التحرير الارترية اللغتين العربية والتجرينية فى كافة تعاملاتها. وبحكم إفرازات النضال السياسي السلمي وما تمخض عنه من نتائج وآثار فى التركيبة الاجتماعية والسياسية للمجتمع الارتري، فقد سادت اللغة العربية داخل الجبهة أكثر من التجرينية. وكانت اللغة العربية داخل الجبهة لغة حية فى التواصل والسجال وحتى فى مناهج الجبهة التعبوية والتثقيفية والاعلامية. إستخدمت الجبهة اللغتين فى كل اجتماعاتها وسميناراتها وفى مؤتمراتها وكافة مراسلاتها الداخلية والخارجية. كما ألزمت المدارس التى أنشأتها فى الداخل وفى السودان ومعسكرات اللاجئين الى التدريس باللغتين العربية والتجرينية.

ونجحت الجبهة باستخدامها اللغة العربية فى إسماع صوت إرتريا وإستعطاف الشعوب العربية وحكوماتها مع القضية الارترية. حيث إهتمت العديد من الأوساط والصحافة العربية بتطورات الأحداث فى الساحة الارترية، وبدأت تنشر أخبار الثور، وتكتب مقالات تبرز عدالة القضية الارترية ومشروعية الكفاح المسلح، وتدحض الادعاءات الاثيوبية بأحقيتها فى ارتريا. وكانت لجبهة التحرير الارترية منشورات وأدبيات كثيرة باللغة العربية منها الثورة عام 1964، الجهاد 1966، الميدان عام 1970، ارتريا - الثائر الارتري - النضال الارتري فى 1972، أول سبتمبر فى عام 1976، المجلة الداخلية عام 1977، نشرة الاخبار الاسبوعية، ووكالة الانباء الارترية فى عام 1978 و كفاح ارتريا وغيرها كثير.

وحين انشقت قوات التحرير الشعبية عن الجبهة فى عام 1970 والتى تحولت فيما بعد الى الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا فى عام 1977 كانت اللغة العربية الى جانب التجرينية حاضرة فى كل خطاباتها وأدبياتها السياسية والتثقيفية والتعبوية والاعلامية. ولما كانت الجبهة الشعبية نتاج صراع مرير فى الساحة الارترية بين قوى التخلف والاعوجاج من جهة وقوى التقدم والمسار الصحيح من جهة اخرى وما أفرزه هذا الصراع من تركيبة جديدة أملتها ظروف تدفق آلاف الشباب من الهضبة الى الميدان، فان إستخدام اللغة العربية لم يكن سائدا بذات المستوى الذي كان فيه داخل الجبهة. ومع ذلك حرصت الجبهة الشعبية كل الحرص بل ألزمت نفسها على اصدار كافة أدبياتها من بيانات ومنشورات ودوريات ودراسات باللغتين التجرينية والعربية، وعقد كل سميناراتها واجتماعاتها الجماهيرية باللغتين العربية والتجرينية. وحتى حين بدأت صوت الجماهير الارترية بثها من الأراضي المحررة فى عام 1979 بدأت باللغتين العربية والتجرينية.

وكان للقسم العربي باذاعة صوت الجماهير الارترية أنذاك وحتى الاستقلال دور كبير فى بلورة فكر وممارسة الجبهة الشعبية وعكس كافة انجازاتها وعطاءاتها بل كافة انتصاراتها العسكرية. وكان لهذا القسم دور فى التحاق عشرات الالاف من الشباب الى الجبهة الشعبية. فضلا عن ذلك كانت اللغة العربية تدرس كلغة فى مدرسة الثورة وكل المدارس التى انشأتها الجبهة الشعبية بداخل الوطن او فى معسكرات اللجوء بالسودان.

وكانت هناك مسساعي حميمة لتدريس المقاتلين فى الميدان اللغة العربية. وأولت الجبهة الشعبية تماما كما فعلت الحركة والجبهة اهتماما بالمنطقة العربية، ونجحت من خلال إرسال وفودها وأدبياتها الى المنطقة من إقناع الكثير من الارتريين فى بلاد المهجر والقوى السياسية العربية المختلفة ببرنامجها وخطابها السياسي وتوجهاتها الفكرية. وقد إستخدمت الجبهة الشعبية اللغة العربية فى كافة مساعيها الهادفة الى التواصل مع الارتريين فى الداخل وفى بلاد المهجر. وكانت تصدر العديد من الادبيات باللغتين العربية والتجرينية. ومن بين هذه الادبيات نذكر "مرآة المناضل"، "المناضل"، "الطليعة" و"الشرارة" فى عام 1974، "صوت الشعب"، "بلاغات ارترية" عام 1976، "العمل"، "المليشيا الشعبية"، "شعاع الصحة" فى عام 1977، "الاحداث" فى 1978، "الحرية" فى عام 1981، "نشرة ارتريا" فى عام 1983، "عدوليس" فى عام 1984، "رسالة ارتريا" 1986، "المناضل" و "ساقم" 1987.

فضلا عن ما تقدم فان لجوء شعبنا خلال السنوات الخمسين الماضية الى دول الجوار مثل السودان والدول العربية الاخرى أدى الى تعلم عشرات الالاف من اللاجئيين فى المعسكرات والمغتربين فى الدول العربية المختلفة وكذلك أبنائهم الذين ولدوا وترعرعوا هناك تعلموا جميعا اللغة العربية وأجادوها وأصبحت لغة تواصل يومية بينهم، ولغة تعبر عن مكنوناتهم وثقافتهم المقرونة بعاداتهم وتقاليدهم الارترية الأصيلة.

وبعد تحرير كامل التراب الارتري استمرت الحكومة الاترية بنفس نهج الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا. إلا أن اللغة العربية وإنتشارها واجهت إشكاليات كثيرة أفرزها الواقع الجديد من ناحية، وقصور الفهم لأهمية هذه اللغة من منظور تأريخي ثقافي وجيوبوليتكي من ناحية اخرى. ومن المتوقع أن يناقش هذا المؤتمر بإسهاب وشرح وتفصيل هذه الاشكاليات والعوائق، ويضع لها حلولا واقعية وعلمية.

أهمية اللغة العربية فى إرتريا:

إرتريا هى دولة لا يتعدى سكانها الخمسة ملايين نسمة، وشعبها يدين المسيحية والاسلام. هذه الدولة الناشئة تحتل موقعا استراتيجيا هاما على البحر الاحمر ومحاطة بدول قديمة من الناحية التأريخية، وكبيرة من حيث المساحة والسكان والموارد الطبيعية. ففى الجنوب هناك إثيوبيا الكبيرة فى المساحة والموارد والسكان. إذ يقدر عدد سكانها بـ 80 مليون نسمة، وهذا العدد قابل لأن يتضاعف خلال السنوات الخمسين القادمة ليصل الى أكثر من 150 مليون نسمة. وفى الشمال، والشمال الغربي هناك السودان الذي يصل عدد سكانه اليوم نحو 40 مليون نسمة ومن المتوقع ان يتضاعف خلال العقود الثلاثة القادمة. وبحكم حجمه وموارده يعد هذا البلد مهما بالنسبة لإرتريا.

وعلى الرغم من التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهه اليوم، فهو بلا شك مقبل على طفرة إقتصادية كبيرة سيكون لها أثرها الايجابي على إرتريا وعلى المنطقة بشكل عام. وفوق ذلك يعد السودان عمقا استراتيجيا هاما لا يمكن لارتريا الاستغناء عنه او المساومة بشأنه على المدى القريب او البعيد. وعلى الضفة الشرقية للبحمر الاحمر، هناك اليمن الذي يقدر عدد سكانه بـ 23 مليون نسمة، وهو يعد أقرب البلدان العربية إلينا بعد السودان. إذ لا يفصله عنا إلا الممر المائي أى البحر الاحمر الذي يضيق كثيرا فى بوابته الجنوبية إلى درجة أن المسافة بين ميناء عصب وميناء مخأ لا تتعدى الساعة الواحدة بالقوارب التقليدية.

فتجاوز هذا البلد معضلات اليوم الداخلية والخارجية، واستقرار أمنه وتقدمه وإزدهاره يصب فى مصلحة ارتريا وأمنها حاضرا ومستقبلا. أما السعودية التى يقدرعدد سكانها بـ 28 مليون نسمة تتمتع بثقل إسلامي وسياسي وإقتصادي كبير فى منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. هذا الثقل سيستمر لفترة طويلة طالما استمرت المملكة كأكبر دولة مصدرة للنفط، وكقبلة لمسلمي العالم أجمع. والعلاقة القائمة بين ارتريا والمملكة اليوم هى علاقة مبنية على حسن الجوار والشراكة، وقائمة على تفاهم مشترك حول أهمية أمن الملاحة الدولية فى البحر الأحمر. وهذه العلاقة قابلة للتطور أكثر إذا ما استطعنا جذب المستثمرين، وجعلنا من المملكة سوقا لمنتجاتنا المختلفة. وإذا نظرنا لمنطقة الشرق الاوسط بشكل أوسع، فان عدد سكان المنطقة العربية المحيطة بنا يفوق الـ 200 مليون نسمة.

وبالنظر الى التأريخ القديم والحديث للمنطقة المحيطة بنا، ودراستها بتأني وروية، وبتحليل مستجداتها تحليلا علميا ثاقبا، والتعمق فى مصادر المهددات والمخاطر التى واجهت بلادنا، فاننا نستنتج بأنه وطوال الاربعمئة عام الماضية، وبدأ من أظي قبر دنقل فى عام 1598 ميلادية، ثم رأس ميكائيل سحول، ورأس وبي، ورأس ألولا على التوالي، ومرورا بـ هيلى سلاسي، والدرق، ثم أخيرا "الوياني" النظام الحالي فى اثيوبيا ظل الخطر المباشر والكامن الذي يتهدد الأمن القومي الارتري، والمصلحة الوطنية الارترية، يأتى من الجنوب. وسيظل هذا الخطر كامنا ومستمرا لعقود طويلة آتية. ولا شك بأن كل المهددات اليوم وفى المستقبل ستأتي من ذات المصدر، إن بشكل مباشر أوغير مباشر، وإن بذات الذرائع القديمة، او بحجج ومسببات حديثة مفبركة. وأي كانت الذرائع والمبررات، فانها بلا أدنى شك نابعة من نزعة التوسع والتغول والاستحواذ المعشعشة فى عقول حكام اثيوبيا. فضلا عن ما تقدم، فان إرتريا المقبلة على الاستفادة من ثرواتها الطبيعية الهائلة على المدى المنظور، ستواجه على طول حدودها الجنوبية تحديات كثيرة تطال أمنها وإستقرارها وحتى سيادتها الوطنية. وستتضاعف المهددات وستتبدل أشكالها وأسبابها ومسبباتها كلما انتعش الاقتصاد فى إرتريا، وكلما تقدمت وازدهرت البلاد. فالثروة الكامنة فى إرتريا الآن تقلق مضاجع أعداء الامس واليوم، وسوف لن يهدأ لهم بال إلا ويختلقون المزيد من الحيل والدسائس للنيل من قدراتنا على الاستفادة من مواردنا وثرواتنا الطبيعية. فالجنوب كان وسيبقى مصدر تهديد دائم لامننا واستقرارنا، وستزداد المهددات الآتية منه كلما ازدادت الثروة وانتعش الاقتصاد واستقر أمن البلاد والعباد.

وهناك فى الجانب الآخر المنطقة العربية المحيطة بنا والتى تعيش الآن حالة من الانتعاش الاقتصادي بسبب مواردها من البترول ومشتقاته، والتى فى ذات الوقت تتوجس كثيرا من ظاهرة التعصب والتطرف الديني، وبذات المستوى من الهيمنة الاجنبية الساعية الى استحواذ ثروات ومقدرات المنطقة. ومع ذلك فان هذه المنطقة أي المنطقة العربية رغم إنتعاشها الاقتصادي، والتحديات الداخلية والخارجية المحيطة بها، ورغم قلقها المستمر والدائم من الهيمنة الغربية، ستبقى من المنظور الاستراتيجي الجيوبوليتيكي المقرون بالمصلحة الوطنية الارترية، منطقة صديقة وحيوية بالنسبة لارتريا ومصالحها السياسية والاقتصادية وأمنها القومي سواء كان على المدى القصير او الطويل.

المنطقة العربية كانت وظلت منطقة صديقة ومتضامنة مع خياراتنا الماضية والراهنة. ولم تكن هذه المنطقة عبر التأريخ القديم والمعاصر معادية لتطلعاتنا فى ان نقرر مصيرنا بأنفسنا، ولم تشكل تهديدا لأمننا الوطني او لمصالحنا الاقتصادية وثرواتنا الطبيعية لا عشية الاستقلال ولا اليوم أيضا. بل ظلت طوال الخمسون عاما الماضية، مؤيدة لحقنا فى تقرير مصيرنا بأنفسنا، ثم داعمة لاستقلالنا واستقرارنا، ومساهمة فى برامجنا التنموية الهادفة الى إنعاش اقتصادنا. وفوق ذلك، فان ما نعمله ونقوم به اليوم جاهدين لصون استقلالية خياراتنا وقراراتنا، يتطابق مع ما تسعى اليه هي حتى وإن لم يكن فى العلن الى امتلاك قرارها المستقل والتخلص من التعصب والتطرف الديني من جانب، والهيمنة الغربية من جانب آخر.

ومن هنا نخلص الى القول بأنه وبالنظر الى المستقبل بأفاق رحبة ورؤية ثاقبة وواقعية بعيدا عن واقع حال اليوم وتعقيداته النابعة من التدخلات الاجنبية فان ارتريا بتأريخها وموقعها وتركيبتها السكانية وتعدد ثقافاتها ودياناتها وفوق ذلك موقعها الاستراتيجي الهام ونظامها العلماني، ستبقى جسرا متينا للتواصل والتفاعل بين الجنوب بكل مكوناته التأريخية والثقافية والوجدانية، والعالم العربي بكل تفاعلاته السياسية والاقتصادية والثقافية والعقائدية. تعزيز هذا الجسر وتمتينه خيار تمليه علينا مصالحنا الاستراتيجية وأمننا القومي، وتفرضه علينا أهمية ديمومة تفاعل المنطقة بأسرها واستقرارها وإزدهارها. فضلا عن ذلك، فان المنطقة العربية ستظل واحة آمنة، ومنطقة حيوية داعمة لأمننا وتنمية اقتصادنا. وستبقى هذه المنطقة على المدى القريب والبعيد سوقا لمنتجاتنا، ومصدرا أساسيا للسياح والزوار الآتون منها الى بلادنا، وتعد أيضا سياجا يخدم حماية مصالحنا وأمننا القومي من الأطماع التى تتهددنا دوما من الجنوب.

فاذا كان الامر كذلك فانه من الضرورة بمكان التفكير جليا للعمل بجدية وبخطة مدروسة بعيدة المدى على معرفة المنطقة المحيطة بنا معرفة عميقة، والتعاطي مع واقعها ومستجداتها وهمومها وكل ما يحيط بها من مهددات داخلية وخارجية بالمعرفة والعلم والرؤية الثاقبة، وكذلك بقراءة تأريخها قراءة صحيحة، والنظر اليها لا من منطلقات عاطفية آنية وضيقة للغاية، بل من الناحية الاستراتيجية المقرونة بأمننا القومي ومصالحنا الوطنية الخالصة. لذلك، فانه يتوجب علينا أن نعلم أبناءنا اللغة العربية كإحدى اللغات الارترية الهامة، ولارتباط هذه اللغة بمصالحنا الاقتصادية والتجارية وأمننا القومي على المدى القريب والبعيد.

فسياسة الحكومة الارترية بجعل اللغة العربية إلزامية من المرحلة الابتدائية حتى الاعدادية اولا ثم الثانوية فى وقت لاحق، هي بلا أدنى شك خطوة متقدمة تصب فى هذا الاتجاه. ودون أن نكتفي بذلك يتطلب منا إقامة معاهد متخصصة لتدريس اللغة العربية، واقامة قسم متخصص باللغة العربية فى معاهدنا وجامعاتنا. ونعمل على تخريج شباب متخصص فى تاريخ وثقافة المنطقة، صراعاتها ونزاعاتها، نجاحاتها وكبواتها، همومها وأولوياتها، فرصها الاستثمارية والتجارية. ونسعى من ناحية اخرى الى الاستفادة من هذه اللغة كلغة ومصدر للعلوم والبحوث الأكاديمية الهامة. وكلما زادت معرفتنا بللغة العربية توسعت مداركنا بشأنها، وتبلورت قدرتنا على التعاطي مع شعوبها وبلدانها سياسيا واقتصاديا وأمنيا، فضلا عن الارتقاء بتحليلاتنا لمستجداتها المؤثر بشكل مباشر او غير مباشر على منطقتنا بشكل عام، ومصلحتنا وأمننا القومي بشكل خاص.

Top
X

Right Click

No Right Click