الإسياسية: من حلم إقامة دولة أكسوم وحكم الدولتين إلي انهيار الخيال وحكم الفرد - الحلقة الأولى
بقلم الأستاذ: الحسين علي كرار
كيف بدأت وكيف نشأت وهيمنت ؟ كيف أقصت أطراف قوات التحرير وجبهة التحرير وانفردت ؟ كيف استفادت من الصراع الدولي
وحكمت ؟
كيف انهار خيال دولة أكسوم وانكسرت ؟ ما هي طبيعة جذورها التاريخية ؟ ما هي وسائلها التنفيذية ؟ ما هي التحديات التي فرضتها ؟ كيف يتم التصدي لتحدياتها ؟ ما هو الأمثل لرؤية المستقبل في شكل الدولة ونظام الحكم ؟
احدي عشرة حلقة سوف أكتبها تبعا للأسئلة المطروحة والاسياسية هي نسبة للرئيس افورقي وفرقت بين الجبهة الشعبية كتنظيم سياسي يضم قوي ذات الرؤيا الإيديولوجية المشتركة والإسياسية كنظام طائفي إيديولوجي داخل التنظيم فالإسياسية أشمل لأنها تنظيم سري داخل التنظيم وما يفعله التنظيم هو ما تريده وما ينفذه التنظيم هو ما أقرته فالشعبية بدون الإسياسية هي ماء بلا إناء أو إناء بلا ماء كذلك ذكر الخلاف الديني صراحة ليس هي دعوة للطائفية والتفرقة ولكنه بحث لعلاج مسار الإسياسية المنحرف الذي جعلت من الخط الطائفي المسار الإجباري، ولهذا وجب التنويه.
بداية الاسياسية:
مرت الثورة الارترية في بدايتها بمعانات كثيرة منها الكادر البشري المؤهل وخاصة العسكري إذ كانت قيادات البداية من أفراد الجيش السوداني وأفراد الشرطة الذين انضموا للثورة وكلما توسعت كلما كانت حاجتها للكادر العسكري المدرب خاصة بعد معركة تقوربا التي دخل فيها الجيش الأثيوبي النظامي بعتاده وعدته ولهذا كان علي قيادات الثورة تأهيل الكادر العسكري عن طريق التدريب في كليات أكاديمية وبمساعدة الدول الصديقة بدأ إبتعاث الطلبة من القاهرة إلي سوريا وفي مرحلة لاحقة إلي كوبا والصين والعراق. تلك الفترة كانت في غاية الصعوبة والدقة فهناك كان عدو غاشم طامع لا يرحم وشعب ثائر واقعه فقر وجهل وعالم تتقاذفه قوتان عظميان تحطم كل واحدة منهما من يقف أمام نفوذها بغض النظر عن عدالة القضية التي يحملها وهنا كانت تكمن صعوبة التعامل مع هذه القوي فإما أن تكون معها وتعادي الأخرى وإما أن تعصف بك الرياح وكان المعسكر الغربي هو معسكر الإمبراطورية الأثيوبية فلجأت الثورة إلي المعسكر الشرقي.
عاد طلاب الكليات العسكرية إلي الميدان لتطوير العمل العسكري ولكن وللأسف قدموا ومعهم إيديولوجيات الدول التي ذهبوا إليها وزلزلوا الساحة الارترية بالانشقاقات الإيديولوجية وأدموها بدماء غزيرة في مجتمع متخلف لا يدرك كنه إيديولوجياتهم كانت قاعدته الأساسية الدين والإقليم والقبيلة فتخندقوا بإيديولوجياتهم خلف الطائفة والإقليم والقبيلة لتحقيق إيديولوجياتهم التي فقدت القبول لدي الشعب الارتري وبذلك خلقوا مزيجا من المرارة الفظيعة بالأحقاد والضغائن وسط المجتمع الاريتري البسيط.
كان إسياس أفورقي طالبا في جامعة أديس أبابا التي كانت تعسف التقدمية الاشتراكية بطلابها مثل جميع جامعات العالم وخاصة جامعات العالم الثالث وكان اسياس احد هؤلاء الذين كانت تعصف بهم هذه النظرية في الوسط الطلابي، وجاءته فجأة فرصة الإبتعاث إلي الصين الشعبية من الميدان وهو بعيد عنه ولم تطأ قدمه ساحة القتال كعضو مرشح من المنطقة الخامسة التي كانت تعيش في وضع خاص مضطرب وصل العاصمة الارترية أسمرا ويروى أحد أعضاء الخلايا السرية في مدينة تسني في تلك الفترة تم الاتصال بهم من أسمرا من الخلايا السرية هناك عبر أكواد سرية متعارف عليها في التعامل بينهم بأن يستقبلوا في الباصات القادمة من أسمرا الطالب اسياس افورقي ويؤمّنوا له السفر إلي مدينة كسلا وتسليمه للقيادة الثورية بأمان فاستقبله أحد الأعضاء وأمّنوا له السكن في حلة قاضي وهو من أشهر الأحياء في مدينة تسني - وللأسف استبدل اسم الحي اليوم باسم ناعم محبوب حي الثورة من ضمن مشروع الإسياسية لطمس هوية معالم المدن الإسلامية وتاريخها بينما أبا شاول في اسمرا لم تصله الثورة بعد - مكث هناك أيام حتى يؤمّنوا له الدليل وكان رجل اسمه همد حسب من قرية عد حسان التي تبعد سبعة كيلو متر من تسني وحرروا له خطابا للقيادة الثورية ونقله الرجل علي ظهر الجمل وسط غابات أشجار الدوم علي ضفاف نهر القاش إلي الحدود السودانية، ولم يكن ببال هذا الرجل المسكين أن هذا الطالب الذي ينقله سيكون أول رئيس لدولة اريتريا وأنه سيزيد من تعاستهم ومآسيهم ونزوحهم وإبعادهم عن أرضهم التي ورثوها عن آبائهم في ضفاف القاش.
وصل مدينة كسلا وهناك التقي ببقية أفراد البعثة الذين كانوا يمثلون المناطق كان بينهم رفيق دربه رمضان محمد نور الذي تركه وأحاله المعاش عند بوابة الاستقلال، وعندما كان اسياس افورقي يزدري جبهة التحرير الاريترية كان محقا في ذلك لأنه وصل القيادة دون عناء وهو خارجها عن طريق الإبتعاث ثم انتخابه عضو قيادة الوحدة الثلاثية ثم عضوا في القيادة العامة لجبهة التحرير الارترية كل ذلك خلال ثلاثة سنوات أو أقل ولهذا أدرك خطورة الاختراق ووضع الشروط المغلظة في تنظيمه الشعبية للصعود في قيادات الحزب أو التنظيم كان معيارها تجاوز فترة زمنية يتضح فيها ولاء الكادر له ذهب أعضاء البعثة 1966م وهم خمسة أفراد وعندما عادوا عام 1967م كان سادسهم الفكر الذي جلبوه معهم وتم توجيههم في مناطقهم وذهب اسياس مفوض سياسي للمنطقة الخامسة التي تم ترشيحه من قبلها.
يحكي أحد الجنود القدماء أن جبهة التحرير الارترية كانت مستأجرة منزل لضيافة الجنود في مدينة كسلا وعندما عاد اسياس افورقي من الصين نزل في هذا المنزل وكانت معه كتب أتي بها من الصين وكانت موضوعة في كراتين داخل الغرفة وكان الحوش والصالة مكتظ بعدد كبيرمن الجنود في تلك الليلة التي نزلت فيها أمطار غزيرة واضطر الجنود الدخول إلي الغرفة التي لم تسعهم فأخرجوا كراتين الكتب خارج الغرفة ويقول وقتها غضب اسياس غضبا شديدا يصل حد البكاء والمشاجرة مع الجنود الذين كانت لا تعنيهم كتبه أكثر مما تهمهم نجاتهم من المطر الغزير والنوم قد تكون الواقعة صحيحة وقد لا تكون ولكن ذكرتها للاستدلال بها بمدى شغف اسياس للقراءة والمعرفة وأنه عندما وصل من أديس أبابا لم يكن يعرف اللغة العربية فكانت معرفته بها في الصين حيث كانت لغة التفاهم بينهم كما قال احدهم ولكنه أجادها في فترة قصيرة ومن أحسن المتحدثين بها اليوم.
في تلك الفترة أتصوره أو هكذا كان شابا ثوريا متحمسا يؤمن بأفكار الاشتراكية وكذلك ذهابه للصين أعطاه دفعة قوية في هذا الطريق ولكن عندما دخل الميدان أصيب بصدمة قوية كما أصيب بها قبله من الذين لا يطيقون الثقافة العربية في اريتريا انقلب تفكيره رأسا علي عقب فهذا المجتمع الذي يراه هو ليس ما ألفه ونشأ عليه فهذا عالم عربي إسلامي بخلاف عالمه المسيحي فهو نشأ في أسمرا ثم أديس أبابا ما يعرفه هو حضارة أكسوم وحضارة الحبشة وما يراه هو عالم لا يستطيع أن يفهمه ويدافع عنه ويحميه فهذا غزو لا يطيقه فأصيب بهزة نفسية قوية وصدمة هائلة أثرت في كيانه وأطاح تأثيرها وبدون تأخير بكل الأفكار الملوثة التي يحملها عن التقدمية والاشتراكية هذه الثقافة العربية السائدة في ساحة القتال حتى التدريب العسكري جعلت من الفتي اليساري قسيسا مسيحيا متعصبا يكن الكراهية للغة العربية ومن يعرفونه في الميدان في تلك الفترة يقولون إنه كان صراحة يعبر عن ذلك ويقولون كان ملازما الصمت والانعزال والانطواء حتي جاءت الصراعات والانشقاقات داخل جسد الجبهة فانتهز تلك الفترة وأخذ مجموعته القليلة من المسيحيين وصعد جبال عالا وهناك استفاد من وضع أهدافه لحماية وثقافة أحفاد دولة أكسوم المهددة من العربية وثقافتها الغازية وجعل لسان حاله يقول كما كان يقولها قبله المتشددون من أنصار حزب الإندنت (من المعلوم جدا أنهم يشكلون كيانا واحدا - تجرنية تجراي واريتريا - مع سكان أثيوبيا من ناحية الأصل العرقي والديني والثقافي والعادات والتراث والتعليم ولا يجوز لشعب التقراي أن ينقسم إلي قسمين لأنه هو الشعب الذي يجلب لكل أثيوبيا القوة والعزة والتقدم والنظام إن ضم المرتفعات وشبه المرتفعات إلي شمال أثيوبيا الذين يتحدثون التجرنية يشكلون أمة ودولة واحدة - من كتاب لم نفترق - الم سقد تسفاي).
ومن هنا انطلق لرؤية المستقبل ووضع دليل نحن وأهدافنا وأدار ظهره لإخوته في الوطن الذين استمرأ دينهم وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم كما استمرأها قبله الوحدويون مع إثيوبيا ومد يده إلي إخوانه في التقراي ليجعل من الكيانين كيانا واحدا يهيمن به علي أثيوبيا وإقامة دولة الحلم دولة أكسوم وسلك ذلك الطريق.