إريتريا إشكاليات بناء الدولة والتفاعل مع بيئة إقليمية مضطربة 1-2

بقلم الدكتور: أيمن السيد عبد الوهاب المصدر: المركز العربي للبحوث والدراسات

إريتريا دولة حديثة حملت رقم 53 من دول القارة الأفريقية الـ 54، ومرت بالعديد من مراحل الكفاح الوطني لمواجهة الاستعمار

والأطماع الدولية والإقليمية، وكان استقلالها عام 1993 مرآة عاكسة للعديد من التشابكات الدولية والإقليمية التي أخذت سبيلها نحو

خريطة إرتريا

خريطة القوى والتفاعلات في منطقة حوض النيل والبحيرات العظمى، وتغير موازين القوى في تلك المنطقة، وترسيخًا لجملة من التفاعلات العاكسة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة ودفعًا لرؤية أحادية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية نحو نظام عالمي جديد.

وبالتبعية فقد فرضت معطيات مرحلة النضال من أجل الاستقلال نفسها على المرحلة التالية الخاصة بالاستعداد للاستقلال، وبالقدر الذي انعكس على شكل الدولة، وهو ما يمكن تلمسه بوضوح في طبيعة النخبة الحاكمة والجماعة السياسية من ناحية، وتفاعل المكونات الاجتماعية والتقليدية مع المكونات الحديثة للدولة من ناحية ثانية، وبناء وتعزيز مقومات الدولة من ناحية ثالثة، وتحديد طبيعة التفاعلات والتحالفات الإقليمية والدولية من ناحية رابعة.

فقد فرضت مرحلة بناء الدولة أجندة من القضايا المتشابكة والمعقدة التي تفرضها متطلبات المحافظة على الاستقلال وتحقيق التنمية، وهو ما انعكس بوضوح في شبكة التفاعلات الدولية التي أحاطت بمسارات وتحالفات الدولة الناشئة، ومكانتها الإقليمية ومواقفها تجاه العديد من القضايا الدولية. وهنا يمكن الإشارة إلى مقابلة واضحة بين مسار التفاعلات الإريترية على المستويين الإقليمي والدولي، ورؤية القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة لدور إريتريا في المنطقة، وعلاقة ذلك بتباين هذه الرؤية عبر فترات زمنية وانعكاسها على مستوى الدعم المقدم للدولة الناشئة ومساندتها ودعم مطالبها في نزاعها مع إثيوبيا على سبيل المثال.

ولدراسة هذه الدولة الحديثة التي لا يزيد عمرها على عشرين عامًا، لا بد من الأخذ في الاعتبار مجموعة من المقومات الخاصة بالتاريخ والجغرافيا والسكان والموقع كمحددات لتحديد ميزان القوى في بيئة إقليمية تموج بالصراعات والأنماط التنافسية وفي ظل تنافس دولي على موارد تلك المنطقة الجيوإستراتيجية (شرق القارة الأفريقية). تفرض هذه المقومات في مجموعها أهمية الـتأكيد على عدد من الاعتبارات الخاصة بأهمية موضوع الدراسة استنادًا لمحورية ومكانة إريتريا، نذكر منها:-

أسهم الموقع في بلورة الشخصية الإريترية من خلال الهجرات البشرية المتعاقبة منذ التاريخ القديم، حيث بدت إريتريا ساحة للتواصل والتعايش بين العديد من الأعراق والثقافات

الاعتبار الأول: يرتبط بدراسة حالة للنضال من أجل الاستقلال والسيادة عبر تجربة إنسانية ممتدة ونضال سياسي ومجتمعي لمناهضة الاستعمار، حيث تعددت خلالها أشكال المقاومة والكفاح ( سلمي ومسلح)، سواء تحت الاحتلال الإيطالي، أو أثناء انضمامها إلى إثيوبيا في اتحاد فيدرالي (بينهما عام 1952) وحتى استقلالها عام 1993.

الاعتبار الثاني: يستند إلى أهمية الموقع ودلالاته الإستراتيجية في ظل تغير المناخ الدولي وتفاعلاته، وتباين أساليب الاحتواء والسيطرة من جانب القوى الدولية والإقليمية. فمن الواضح أن إريتريا افتقدت الكثير من الاهتمام الدولي لصالح إثيوبيا بعد فترة من استقلالها، رغم امتلاكها للعديد من مقومات الجذب الدولي وفي مقدمتها الموقع. فقد أسهم موقع إريتريا عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر في اكتسابها مكانة إستراتيجية جعلتها مطمعًا لقوى إقليمية ودولية، وهو ما يثير التساؤل حول الوزن النسبي للموقع الجغرافي وعلاقته بالقوة الشاملة للدولة وفاعليتها ودلالاته في ظل بيئة إقليمية تموج بالمتغيرات والأنماط الصراعية.

الاعتبار الثالث: يرتبط بهدف هذه الدراسة المعرفية، لإحدى دول القارة الأفريقية التي شكلت حلقة اتصال تجاري وحضاري ومعبرًا لهجرات بشرية متعاقبة منذ التاريخ القديم بين أفريقيا وشبة الجزيرة العربية، ومحاولة إبراز القواسم المشتركة بين دول القارة وأهميتها لمصر، فهي إحدى دول الشرق الأفريقي (*) وإحدى دول حوض النيل (*) وبالتالي هي تمثل إحدى نقاط العمق الإستراتيجي لمصر، فضلًا عن توفير قدرًا من المعرفة الضرورية لتحقيق التواصل العلمي والبشري بين مصر وجيرانها وتقديمها للرأي العام المصري وتنشيط الذاكرة الأكاديمية للتأكيد على أهمية الاعتماد المتبادل لتحقيق التنمية المشتركة وتجاوز العديد من الحساسيات والرواسب التقليدية.

الاعتبار الرابع: يتعلق بقضية بناء الدولة الحديثة كما تعكسها التجربة الإريترية، أخذًا في الاعتبار مجموعة من المحددات المرتبطة بعملية بناء الدولة، مثل: حدود التطور السياسي والاجتماعي، ومدى اقترابه من الحد الذي يسمح بوجود دائم للسلطة السياسية، بمعنى الوقوف على حدود تطور النظام السياسي ووعي النخبة السياسية والثقافية بمسئولياتها في تجنب الصراعات الاجتماعية والبناء المؤسسي ودورها في ترسيخ منظومة القيم الديمقراطية، بالإضافة لتناول الموارد والقدرات الاقتصادية وعمليات الإصلاح الاقتصادي، جنبًا إلى جنب مع تناول الخصائص الاجتماعية والثقافية المميزة للمجتمع الإريتري، وحدود انعكاس ذلك على درجة تماسك الدولة وقوتها.

الاعتبار الخامس: يستند إلى دراسة حركة المجتمع ودوره في عملية بناء الدولة، وحدود ارتباط ذلك بتوافر مساحات وآليات وقوى دافعة تساعد على تحديد طبيعة العلاقة الحاكمة بين الدولة والمجتمع، لاسيما مع تزايد الاهتمام العالمي بإعطاء مسئوليات وأدوار حقيقة لمنظمات المجتمع المدني في عمليات البناء السياسي والإصلاح وتحقيق التنمية. وتظهر أهمية هذا العامل مع كون إريتريا بلدا متعددا الثقافات والأعراق، حيث تسود فيها سمات المجتمع القبلي والتقليدي بروابطه التقليدية والعرقية والإثنية.

اتساقًا مع الاعتبارات والدوافع السابقة، تتناول هذا الدراسة عبر محاورها الخمسة تجربة بناء الدولة الإريترية والمحافظة على هويتها وخصوصيتها المجتمعية عبر تجربة امتدت معاناتها مابين الحكم الاستعماري والثورة المسلحة من أجل التحرر والاستقلال، وفي هذا السياق، يتناول المحور الأول: تاريخ إريتريا مع التركيز على خصوصية التركيبة السكانية ومكونات الهوية كالدين والثقافة واللغة.

والمحور الثاني: يركز على المحطات الرئيسية لمرحلة المقاومة والاستقلال. والمحور الثالث، يتناول عملية بناء الدولة من خلال تحليل النظام السياسي وتحديد طبيعة الأدوار التي يقوم بها الفاعلون الرئيسيون (حكومة ومعارضة)، واستعراض مقومات الدولة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. والمحور الرابع، يركز على طبيعة المشكلات والقضايا التي واجهت الدولة الجديدة وسط بيئة إقليمية يغلب عليها الطابع الصراعي والتنافسي وتدخلات دولية كبيرة. وأخيرًا يشير المحور الخامس، إلى قضية المياه والعلاقة مع مصر كإحدى دول حوض النيل.

• دول الشرق الأفريقي هي: إثيوبيا، الصومال، أوغندا، كينيا، تنزانيا، سيشل، جيبوتي، بالإضافة إلى إريتريا.
• دول حوض النيل، هي: مصر، السودان، جنوب السودان، إثيوبيا، تنزانيا، كينيا، أوغندا، الكونغو، بوروندي، رواندا، إريتريا.

ويتوزع سكان إريترية تاريخيًا بين ثلاث مجموعات لغوية، هي: الحامية والسامية والنيلية

أولا - إريتريا.. الجغرافيا والتاريخ:

تقع إريتريا في منطقة القرن الأفريقي في الجنوب الشرقي لقارة أفريقيا قبالة شبه الجزيرة من الناحية الجنوبية، تجاورها من الشمال والغرب جمهورية السودان، ومن الجنوب جمهورية إثيوبيا، وجيبوتي من الجنوب الشرقي. كما تطل على البحر الأحمر شرقًا ويبلغ طول الساحل 1000 كم، وتمتلك ميناءي "عصب" و"مصوع". وتوجد في نقطة حاكمة عند مدخله الجنوبي وعلى مقربة من مضيق باب المندب ذي الأهمية الإستراتيجية؛ فهي تشبه مثلثًا محصورًا بين إثيوبيا والسودان وجيبوتي.

وتتبع إريتريا (126) جزيرة، أهمها أرخبيل دهلك وبه نحو 25 جزيرة، وتبرز من الناحية الإستراتيجية جزيرتا "فاطمة" و"حالب"، كما يوفر مواقعها أهمية إضافية بحكم المسافة الرابطة بين أقرب وأقصر طرق الملاحة بين المحيط الهندي والبحر المتوسط مما يجعلها تشكل حلقة وصل بين القارات الكبرى الثلاث آسيا وأفريقيا وأوربا، وهي قريبة من المناطق المقدسة في شبه الجزيرة العربية ومن مناطق إنتاج النفط في الخليج العربي ودول شرق أفريقيا(1). ولذا حرصت العديد من القوى الإقليمية والدولية على السيطرة على الجزر الإريترية كنقاط ارتكاز وتحكم لها في المنطقة(2).

1. الجغرافيا:
أسهم الموقع الجغرافي في تحديد اسم الدولة، فقد سميت إرتريا وهو اسم مشتق من التسمية اليونانية للبحر الأحمر سينوس إرِتريوم (Sinns Erythreum) وتعني البحر الأحمر، وقد أطلق اليونانيون ذلك الاسم على إرتريا في القرن الثالث ق.م. تخليدًا لاسم جزيرة في اليونان تحمل اسم إرتريا، وتقع في الشاطئ الشرقي لبلاد الإغريق، كما أطلق الرومان نفس الاسم على البحر الأحمر عندما خضعت لهم ميناء عدوليس التاريخية. وعندما احتل الإيطاليون إريتريا أطلقوا عليها اسم إريتريا تجديدًا للتسمية القديمة، وذلك بالمرسوم الذي أصدره الملك همبرت الأول ملك إيطاليا في الأول من يناير (كانون الثاني) 1890م. كما أطلق المؤرخون المسلمون على الإقليم قديمًا أسماء مثل بلاد الزيلع وبلاد الجبرته، وقال عنها ابن حوقل: بلاد آل إريتريا، وذكر أن بها كثيرًا من المسلمين وعليها ملك عظيم(3).

كما أسهم الموقع في بلورة الشخصية الإريترية من خلال الهجرات البشرية المتعاقبة منذ التاريخ القديم، حيث بدت إريتريا ساحة للتواصل والتعايش بين العديد من الأعراق والثقافات. وهو ما سيتجلى لاحقًا عند تحليل التركيبة السكانية، بل يمكن القول أن الموقع الجغرافي والتضاريس والمناخ قد أسهمت بوضوح في تشكيل هذه الدولة الحديثة وفي تحديد حركة السكان وتماسكه المجتمعىي. فهي من الدول صغيرة الحجم والمساحة، إذا تبلغ مساحتها نحو 121320كم 2 بما في ذلك جزر دهلك، وتقسم إداريًا إلى 3 أقاليم.

2. التركيبة السكانية:

بحكم الموقع الجغرافي والإستراتيجي لإريتريا فقد شكلت نقطة التقاء ومساحة عبور لموجات متتالية من الهجرات البشرية، سامية - حامية - زنجية، ومن ثم فإن سكان إريتريا هم مزيج من هذه التزاوجات التاريخية، لذلك تتسم إريتريا بالتنوع والتعدد الإثني والعرقي واللغوي، حيث يشير الدكتور رجب حراز في كتابه "إريتريا الحديثة" إلى "أن هذه الهجرات والغزوات البشرية قد تركت بصماتها على الكيان الإريتري الأنثروبولوجي، فصار متباينًا، بحيث تكاد تستقر كل مجموعة بشرية منه إقليما جغرافيًا مميزًا، ويشترك أفراد المجموعة البشرية الواحدة في صفات معينة، كاللغة والدين والطرق المعيشية"(4).

ويتوزع سكان إريترية تاريخيًا بين ثلاث مجموعات لغوية، هي: الحامية والسامية والنيلية. فالجماعات التي تنتمي إلى الحامية أو السامية ترتبط بقبائل البجة في منطقة القاش، وقبائل الأسورتا والساهو في محافظتي إكلي قوزاي والبحر الأحمر، وقبائل البلين في محافظة كرن، وقبائل الماريا في أگوردات وكرن، وقبائل الدناقيل في سهل الدناقيل، وقبائل الحباب في نقفة وتغري، وقبائل منسع حول كرن، والقبائل النصرانية في حماسين، ولا يكاد يوجد أثر للسمات الزنجية المعروفة بين هذه القبائل باستثناء لون البشرة الأسمر الداكن الذي يجعلهم أقرب إلى قبائل السودان. أما النيليون أو أنصاف الحاميين فلا يتجاوز مجموعهم بضعة آلاف نسمة، وتمثلهم قبائل الكوناما أو البازا وقبائل الباريا وينتشرون في مناطق مختلفة من القاش وستيت، وإلى جانب هذا التعدد يوجد في الوقت نفسه امتزاج سلالي يتعذر تحديد فواصله لمرور زمن طويل من المصاهرة والمجاورة. ومن الهجرات العربية المبكرة إلى المنطقة قبل ظهور الدعوة الإسلامية بطون من بني حمير عرفوا بقبيلة "البلو" وقد صاهرت البجة وحكمت بعض الإمارات البجاوية في إريترية. وقد وفد إلى المنطقة في أزمنة لاحقة قبائل من ربيعة وأخرى من القحطانية والجهنية. وتعد قبيلة الرشايدة آخر الهجرات العربية إلى إريترية، وقد توافدت إليها عن طريق السودان منذ سنة 1846م وانتشرت على الشريط الساحلي من مصوع حتى حدود السودان(5).

وبالإضافة لتعدد اللغات والقومية هناك تعدد آخر يرتبط بالديانة، فسكان إريتريا الذين يشكلون نحو خمسة ملايين نسمة يقسمون (وفقًا لتقديرات غير رسمية) إلى 55% مسلمين و 30% من المسيحيين الأرثوذكس و10% مسيحيين كاثوليك و3% مسيحيين بروتستانت، و2% الباقية ديانات تقليدية محلية.

فالتركيبة السكانية (الديموغرافية) الغنية بتنوعها وتعددها العاكسة لغلبة الطابع التقليدى وانتشار الثقافة التقليدية في المجتمع توضح إلى حد كبير تأثير الخريطة العرقية والإثنية في إريتريا وارتباطها باللغة، وهو ما أكدت علية العديد من الدراسات الخاصة بتحليل المجتمع الإريتري(6).

في 15 سبتمبر 1952 أقدمت بريطانيا على الانسحاب من إريتريا ليتولى الجيش الإثيوبي إدارة كل الممتلكات الإريترية، حيث بدا هيلاسلاسي سريعًا في تنفيذ سياسته الاستعمارية“.

ثانيا - مرحلة المقاومة والاستقلال:

تمثل هذه المرحلة مرآة عاكسة لمدى الإصرار والتضحية التي دفعها أبناء إريتريا للحصول على الاستقلال وحكم أنفسهم وبناء دولتهم، فهذه المرحلة بامتداداتها التاريخية وتعدد القوى الاستعمارية تشير إلى عدد من المحطات التاريخية وما فرضته كل محطة من تفاعلات وتأثيرات مباشرة وغير مباشرة على خبرة مقاومة الاحتلال وبناء الدولة.

1. الخبرة التاريخية لاستقلال إريتريا:

رسخت معاهدة Ucciali المبرمة بين إمبراطور الحبشة (مينليك) والحكومة الإيطالية السيطرة الإيطالية على إريتريا في عام 1889(7)، ولكن بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية عام 1941 أصبحت إريتريا محمية إنجليزية حتى عام 1952 والذي تحولت فيه إلى دولة متحدة فيدراليًا مع إثيوبيا، ثم استقلت عن الحكم الإثيوبي بعد استيلاء الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا على العاصمة أسمرا بقيادة أسياسي أفورقي عام 1991، ثم حصلت إريتريا على الاستقلال رسميًا بموجب استفتاء تقرير المصير عام 1993(8).
يشير هذا التسلسل الزمني لمعارك التحرر والاستقلال بدوره إلى ضرورة رصد المراحل التاريخية المتعاقبة من الاحتلال والوقوف على حدود الخصوصية والتباين بين القوى الاستعمارية التي اتفقت على استغلال موارد تلك البلد واستغلال موقعها في تلك المنطقة الإستراتيجية لخدمة مشاريعها وأطماعها الاستعمارية التوسعية.

أـ مرحلة الاستعمار:

نجحت إيطاليا من خلال دور القس جيوزيب سابيتو التبشيري في منطقة تيجراي الحبشية عام 1838 وشركة روباتينو الإيطالية للملاحة في الحصول على موافقة شيوخ القبائل لاستئجار مساحات واسعة من الأرض حول خليج عصب باسم الشركة، وفى عام 1882 أعلنت هذه المنطقة مستعمرة إيطالية ومع استمرار الرغبة في توسيع هذه المستعمرة، لا سيما بعد انسحاب المصريين منها عام 1885 تم الإعلان في عام 1890 عن توحيد الممتلكات الإيطالية على ساحل البحر الأحمر في مستعمرة واحدة باسم إريتريا(9).

ومع استمرار التنافس الثلاثي بين فرنسا وإيطاليا وبريطانيا على هذه المنطقة لأهميتها الإستراتيجية، وجدت إريتريا نفسها تحت الوصاية الدولية بعد أن نجحت قوات التحالف في هزيمة قوات المحور لتخسر إيطاليا مستعمراتها. وتطوي صفحة الاستعمار الإيطالي (60 عامًا) وتبدأ صفحة أخرى من الأطماع الدولية في إريتريا فأقامت بريطانيا إدارة عسكرية بها، وأخذت في دعم الأطماع الإثيوبية بعد عودة الإمبراطور الحبشي هيلاسلاسي إلى الحكم في بلاده بمساعدة الإنجليز (بعدما طرده الإيطاليون)، حيث نجحت إثيوبيا عبر الدعم البريطاني والأمريكي والاتصال ببعض رجال الكنيسة في إريتريا وإثارة النعرات الدينية والقبلية، في إيجاد تيار داعم للارتباط بإثيوبيا، تم معه رفع شعار "إثيوبيا أو الموت"، حيث دعا الحزب الاتحادي أو حزب الرابطة الوطنية لاتحاد إريتريا وإثيوبيا المنبثق عن جمعية حب الوطن، إلى إقامة اتحاد غير مشروط بين البلدين ورفض فكرة التقسيم أو الوصاية الدولية على إريتريا.

في المقابل تباينت الآراء داخل حزب الرابطة الإسلامية الذي نشأ عام 1946م ما بين رؤى خاصة باستمرار الإدارة البريطانية أو المطالبة بالاستقلال أو المطالبة بعودة الوصاية الإيطالية أو مطالبة بوصاية دولية غير بريطانية، ولكن في نهاية الأمر سلمت الإدارة البريطانية السلطة رسميًا إلى الحكومتين الإريترية والإثيوبية في سبتمبر 1952م ليبدأ النظام الفيدرالي بين البلدين منذ ذلك التاريخ(10).

وتتجلى هذه الصورة بوضوح في تقرير لجنة الاستطلاع التي شكلتها الأمم المتحدة بعد عرض القضية الإريترية على الجمعية العامة، حيث خرجت اللجنة بآراء متعددة، منها ضم إريتريا إلى إثيوبيا، وهو اتجاه دعمته الولايات المتحدة، وأمام الضغط الأمريكي وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة (في ديسمبر 1950م) على أن تكون إريتريا تحت سيادة التاج الإثيوبي في اتحاد فيدرالي مع تمتعها بالحكم الذاتي، كما تم تعيين مندوب للأمم المتحدة يكفل تنفيذ قرارها، وبذلك حصلت إثيوبيا على منفذ لها على البحر الأحمر.

وقد شهدت تلك الفترة صراعات سياسية حادة، نشأت خلالها عدة أحزاب لها ارتباطات خارجية، تبنى بعضها سياسة الاغتيالات مثل حزب الاتحاد مع إثيوبيا الذي أنشأ ميليشيا إرهابية عرفت باسم "الشفتا" اغتالت عددًا من القيادات الوطنية. مما أدى للكثير من الانشقاقات السياسية والحزبية.

إن التباينات الفكرية والإيديولوجية داخل جبهة التحرير الإريترية، كانت لها انعكاساتها الواضحة على مدى تماسك أركان المقاومة المسلحة وتشكيل جبهة سياسية رافضة للاستعمار الإثيوبي

1. الاستعمار الإثيوبي:

مع تشكيل جمعية تشريعية منتخبة في إريتريا تم أقرار دستور، وعلم خاص بها، وسلطات قضائية وتشريعية، واعتمدت اللغتين العربية والتجرينية لغتين رسميتين لإريتريا، وقد صادق الإمبراطور هيلاسلاسي على الدستور الإريتري الجديد (في أغسطس 1952م) ثم صادق على القانون الفيدرالي.

وبهذه الإجراءات تم إحكام سيطرة إثيوبيا على الأراضي الإريترية، لا سيما مع مباركة القوى الدولية لهذه الإجراءات، حيث أقدمت بريطانيا على الانسحاب من إريتريا (في 15 من سبتمبر 1952م) ليتولى الجيش الإثيوبي إدارة كل الممتلكات الإريترية من موانئ ومطارات ووسائل مواصلات، ورغم تشكيل أول حكومة برئاسة "تدلا بايرو" السكرتير العام لحزب الاتحاد مع إثيوبيا، فإنها لم تمتلك أي سلطات يمكن أن تؤسس لدولتها الوليدة، حيث بدا هيلاسلاسي سريعًا في تنفيذ سياسته الاستعمارية، فقد أصدر في نفس العام قرارًا يقضي بتطبيق القوانين والنظم الإثيوبية على إريتريا، كما حرص على إزكاء روح الفرقة بين القوى السياسية الإريترية، وكان لرفض البرلمان لسياسة إثيوبيا والتلويح بطلب تدخل الأمم المتحدة، أثره الواضح في اتخاذ جملة من الإجراءات التصعيدية الهادفة لمزيد من السيطرة على الأوضاع في إريتريا، فتم تعيين حكومة جديدة برئاسة إسفهاولد ميكائيل التي لجأت لأساليب قمعية وإلغاء الأحزاب وصياغة نظام اقتصادي قائم على الإقطاع. فضلًا عن تعديل الدستور الذي جاء بناء على اقتراح حكومي (عام 1956م) تم خلاله إلغاء اللغتان الرسميتان العربية والتجرينية، وحلت مكانهما اللغة الأمهرية، وألغي العلم الإريتري، ونص التعديل الجديد أن يعين رئيس الوزراء الإريتري من قِبل الإمبراطور مباشرة.

واتساقًا مع هذه الإجراءات حرص هيلاسلاسى على توفير الدعم الدولى والقبول بأطماعه من خلال التنسيق مع الولايات المتحدة حيث تم توقيع معاهدة ثنائية (مايو 1953م) حصلت بموجبها واشنطن على حق إقامة قواعد ومنشآت عسكرية على أراضي إريتريا.

واتساقًا مع النتائج السابقة، يمكن تفهم امتداد حرب تحرير إريتريا لكي تكون أطول حرب تحرير في القارة الأفريقية في القرن المنصرم لامتدادها ما يقرب من ثلاثين عامًا من الكفاح المسلح في ظل تجاهل واضح من القوى الدولية بخصوص تلك القضية، فالقضية الإريترية لم يتم عرضها على الأمم المتحدة إلا من زاوية الترتيبات اللازمة لمساعدة اللاجئين الفارين من الحرب المشتعلة مع النظام الإثيوبي وحماية حقوق الإنسان(11).

2. حركة التحرير الإريترية:

مع تنامي الأطماع الإثيوبية تزايدت حركة المقاومة الإريترية، لتأخذ المقاومة أشكالًا منظمة، فظهرت حركة تحرير إريتريا التي تأسست في السودان عام 1958م، واعتمدت على العمال المهاجرون قبل أن تنتقل إلى الداخل وتبنى تنظيمها السري من خلايا تتكون من سبعة أفراد، حيث مثلت هذه الحركة أول تنظيم سياسي إريتري يسعى لتحرير البلاد من الاحتلال الإثيوبي وتحقيق الاستقلال الوطني، وكان أسلوب عملها يقوم على العمل السياسي دون العسكري، وكان أبرز قادتها محمد سعيد نادو، وكان شعارها العنف الثوري هو الطريق الوحيد للاستقلال.

كما نشأت جبهة التحرير الإريترية (عام 1960م) بزعامة حامد إدريس عواتي الذي أعلن الثورة المسلحة للحصول على الاستقلال التام (في سبتمبر 1961م)، وقد نجحت الجبهة في توسيع نطاق الثورة لتغطي معظم مساحات إريتريا، وذلك رغم غياب التنسيق مع حركة تحرير إريتريا حيث بدت العلاقة تنافسية وربما صراعية في كثير من الأحيان، ولكن كان لقدرة جبهة التحرير على تحويل مقاومتها إلى حرب قومية في كل الأقاليم؛ أثره الواضح في اشتداد المقاومة الأمر الذي دعا الإمبراطور هيلاسلاسي إلى إصدار قرارًا (في 14 من نوفمبر 1962م) تم بموجبه إلغاء الاتحاد الفيدرالي، وإعلان ضم إريتريا إلى إثيوبيا نهائيًا، وجعلها الولاية الرابعة عشر لإثيوبيا.

وكان هذا القرار بمثابة بداية مرحلة جديدة من حرب التحرير التي خاضها الشعب الإريتري ضد إثيوبيا لمواجهة كل سبل الاحتواء والسيطرة التي لجأ إليها الإمبراطور هيلاسلاسي للقضاء على الثورة الإريترية المسلحة.
وهنا يمكن الإشارة، إلى تطور أساليب الثورة المسلحة وارتباطها بجهود سياسية ودبلوماسية داعمة لحقوق الإريتريين، لا سيما مع انتهاج إثيوبيا لسياسة الأرض المحروقة للقضاء على المحصولات الزراعية وقتل المواشي، وإبادة المواطنين بالجملة من دون تمييز، كما حدث في حملات 1967 و1970 و1974 و1975 على التوالي فشردت أعدادًا كبيرة من الإريتريين في الصحاري والغابات، وعبرت أعداد أخرى الحدود إلى السودان، الأمر الذي أدى إلى نشوء مشكلة اللاجئين الإريتريين هناك، وقد اتسمت هذه المرحلة بحالة من الكر والفر حيث سيطرة الجبهة خلالها على معظم الريف الإريتري، بل وتحرير بعض المدن، كما كان سقوط نظام الإمبراطور هيلاسيلاسي، في عام 1974م، فرصة مواتية للثورة الإريترية، حاولت استغلالها في تصعيد أساليب المقاومة، لاسيما على المستوى الإعلامي وتحقيق بعض المكاسب على الأرض.

والحقيقة الواضحة أن التباينات الفكرية والإيديولوجية داخل جبهة التحرير الإريترية، كانت لها انعكاساتها الواضحة على مدى تماسك أركان المقاومة المسلحة وتشكيل جبهة سياسية رافضة للاستعمار الإثيوبي، حيث لعبت الانشقاقات والصراع الداخلي في منتصف ستينيات القرن الماضي في بروز تيار الإصلاح الذي تكون من عدد كبير من المحاربين المثقفين، ولا سيما من قبل مواطني المنخفضات الشرقية، ليتبلور أخيرًا ويكون قوات التحرير الشعبية the Popular Liberation Forces (EPLF) في عام 1977.

وقد تميزت تلك الحركة بدرجة عالية من التنظيم والانضباط والقدرة على وضع أطر سياسية وهياكل عسكرية أسهمت في تحقيق قدر كبير من المركزية في صنع القرار، وذلك على عكس الهياكل المكونة للجبهة القديمة(12) وقد نجحت قوات التحرير الشعبية في السيطرة على شمال وغرب إريتريا، ثم سيطرت على العاصمة أسمرا بحلول عام 1991.

ثالثا - الدول الإريترية.. الاستقلال وتثبيت أركان الدولة:

لا تمثل حالة إريتريا استثناء فيما يتعلق بعملية بناء الدولة وترسيخ أركانها، فقد شهدت هذه العملية ولا تزال العديد من المشكلات الممتدة التي أفرزتها مرحلة مقاومة الاحتلال وتعكسها طبيعة وخصوصية إريتريا السكانية والجغرافية، فضلًا عن رؤية القوى الإقليمية والدولية لدور الدولة الجديدة وما تمتلكه من مقومات. وهنا يمكن التأكيد على مجموعة من القضايا الأساسية التي مثلت القاعدة التي تم على أساسها تشييد أركان الدولة، نذكر منها:-

1. قضية الاستقلال:

فرضت هذه القضية نفسها بوضوح على الساحة السياسية الإريترية عبر جملة من التفاعلات والتشابكات السياسية التي بدت أنها تهدد مستقبل الدولة وتماسكها، وتظهر قدرة نخبتها على إدارة المرحلة الانتقالية، فعلى مدى عامين (الإعلان عن الاستقلال عام 1991، والحصول علية عام 1993)، بدا أن هناك الكثير من التهديدات الداخلية والضغوط والخارجية التي تهدد تلك المرحلة الانتقالية. فقد شهدت الساحة الإريترية صراعات داخلية أفرزتها التعددية السياسية في بنية حركة التحرر، ولكن كان الوعي بمخاطر استمرار هذا الصراع وتفهم أهمية وأولوية التأكيد على الوحدة الوطنية واستيعاب العديد من دروس التاريخ المريرة، قد أسهمت جميعها في إعلاء قيمة الدولة، كما ساعد على دخول مرحلة البناء سيطرة فصيل الجبهة الشعبية لتحرير إريترية على الحكم، وتشكيلها للحكومة الإريترية المؤقتة برئاسة الأمين العام للجبهة "أسياسي أفورقي".

وقد حرصت الجبهة الشعبية على تبني أجندة وطنية واسعة أسهمت في إجراء الاستفتاء العام في الفترة بين 23 ـ 25 أبريل 1993م، لتأتي النتيجة، لصالح الاستقلال بنسبة 99.8%، ويتم إعلان إريتريا، دولة مستقلة ذات سيادة، والعضو رقم 183 في الأمم المتحدة(13).

وفور إعلان الاستقلال انتخبت الجمعية الوطنية الانتقالية أسياسي أفورقي رئيسًا لإريتريا، وكان من المقرر أن تقوم الجمعية الوطنية في ديسمبر 2001 بإجراء انتخابات رئاسية، إلا أن ذلك لم يحدث، وظل أفورقي هو الرئيس الإريتري الأوحد في تاريخ إريتريا منذ استقلالها وحتى الآن.

وهنا يمكن الإشارة إلى أهمية ربط عامل الاستقرار وتطور النظام السياسي نحو مزيد من الديمقراطية وبناء المؤسسات وبين توتر السياق الإقليمي والدولي الذي يعتصر إريتريا منذ حصولها على الاستقرار والذي لعب دورا أساسيًا. كما سيتجلى لاحقًا في تشتت جهود التنمية والقدرة على الإصلاح السياسي وتذبذب توجهات السياسية الخارجية للدولة الجديدة وميولها الإقليمية.

حرصت الجبهة الشعبية على تبنى أجندة وطنية واسعة أسهمت في إجراء الاستفتاء العام في أبريل 1993، لتأتى النتيجة، لصالح الاستقلال بنسبة 99.8%، ويتم إعلان إريتريا، دولة مستقلة ذات سيادة

2. بناء النظام السياسي:

إريتريا دولة جمهورية تأخذ بالنظام الرئاسي القائم على التعددية الحزبية الشكلية، ووفقًا للدستور فإن الرئيس هو رئيس الدولة والحكومة في ذات الوقت وينتخبه المجلس الوطني بأغلبية ثلثي الأعضاء لمدة خمسة أعوام وإذا انتهك الرئيس الدستور أو ارتكب جرمًا يضر بمصالح البلاد يقوم المجلس الوطني بتنحيته بموافقة ثلاثة أرباع الأعضاء، ويقوم الرئيس بتعيين مجلس الوزراء بعد موافقة المجلس الوطني عليه ويمكن أن يكون الوزراء أعضاء في المجلس الوطني، وإذا عجز الرئيس عن العمل بسبب المرض أو لأي سبب آخر يحل محله رئيس المجلس الوطني لحين عودته أو لحين انتخاب رئيس جديد(14).

ويؤكد الدستور الإريتري على مبدأ استقلالية القضاء، كما يشير إلى مكونات السلطة القضائية من المحكمة العليا التي تقوم بتفسير القوانين والنظر في مدى دستوريتها والمحاكم الأخرى التي تعمل تحت إمرتها. وتجدر الإشارة إلى أن الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة تتولى حاكم البلاد منذ الاستقلال، ورغم صدور قانون يناير 2001 من جانب اللجنة التشريعية الوطنية تقر بالتعددية الحزبية فإنه لم تتم المصادقة عليه ودخوله حيز النفاذ(15).

أـ المعارضة الإريترية:

تشكل قضية التعددية السياسية وعلاقتها بواقع المعارضة السياسية وحرية تأسيس الأحزاب واحد من التحديات التي تفرض نفسها على قدرة النظام السياسي على استيعاب المتغيرات والتطورات السياسية بعد نحو عشرين عاما من الاستقلال. فهناك العديد من فصائل المعارضة تطالب بالمزيد من الحرية وتقليل القيود المفروضة على الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، كما أن رعاية واحتضان بعض فصائل المعارضة هذه من قبل قوى إقليمية، مثل: إثيوبيا يثير بدوره العديد من الحساسيات ويزيد من تعقيد العلاقة بين النظام الحاكم وبعض أشكال وقوى المعارضة.

فتوازنات البعد الإقليمي وسياسات التدخل في الشئون الداخلية للدول وتبني المجتمع الدولي لقضايا الحريات وحقوق الإنسان (مع الإقرار بوجود ازدواجية دولية ترتبط بمصالح ورؤى القوى الدولية) أسهمت بدورها في توظيف ورقة المعارضة الإريترية والضغط بها على النظام السياسي، للمطالبة بإعطاء مساحات للمعارضة ولحركة المجتمع. وقد لجأت المعارضة الإريترية إلى دول الجوار لعقد مؤتمراتها وتنظيم صفوفها ومحاولة اكتساب دعم سياسي، وكان احتضان النظام الإثيوبي (مليس زيناوي) المعارضة الإريترية بسبب الصراع السياسي بين الدولتين والخلاف على الحدود وعداء نظام إثيوبيا للنظام في إريتريا مدعاة إلى استضافة أديس أبابا مؤتمر الحوار الوطني الإريتري في أواسا جنوب إثيوبيا في نوفمبر من عام 2011.

وتجدر الإشارة إلى أن فكرة مؤتمر الحوار الوطني الإريتري يتبناها التحالف الديمقراطي الإريتري المعارض لنظام أفورقي الذي تأسس في مارس 1999م، والذي سعى لتجميع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الإريترية المعارضة حول ثوابت وطنية تشكل ميثاق عمل لمواجهة الخلافات التاريخية والراهنة. ولكن من الواضح أن محاولات لم الشمل وتجميع القوى السياسية المعارضة قد استنزفت الكثير من الجهد، فقد قدم التحالف الديمقراطي الإريتري مبادرة لعقد مؤتمر حوار وطني جامع. وقد تمكن من تحقيق ذلك في يوليو-أغسطس 2010 حيث عُقد ملتقى الحوار من أجل التغيير الديمقراطي بمشاركة طائفة عريضة من القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الإريتري في المهجر، والذي انبثقت عنه مفوضية تمثل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني أُسند إليها مهمة الإعداد لعقد مؤتمر وطني جامع. ومع انعقاد المؤتمر ومحاولة بناء شراكة بين القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني ظلت فعاليات المؤتمر قاصرة على إيجاد آليات واضحة للتأثير والفعالية، وهو ما يمكن قراءته في خلال البيان الختامي لمؤتمره العام (عقد 11-14 مارس 2011) الذي لا يزال يؤكد على أهمية الحوار وتجميع الفصائل الإريترية(16).

من الواضح أن المعارضة في الخارج تمثل المنهاج الأساسي الذي تستند إليه العديد من الأحزاب السياسية الإريترية، ومن هذه الأحزاب يبرز حزب الشعب الديمقراطي الإريتري الذي يدعو إلى إسقاط نظام الحكم لأسياسي أفورقي، وتبني مبدأ تقسيم السلطة والثروة، ووضع دستور يتبنى حقوق الإنسان، وسيادة مبدأ المواطنة، وتشجيع إقامة منظمات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية، وتنحية السلطة الدينية عن التدخل في شئون السلطة السياسية، والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال اتخاذ إجراءات اقتصادية تقلل من الفوارق بين الطبقات، والاهتمام بالتعليم، وأن تكون اللغتان العربية والتجرينية لغتي التعليم في مرحلة الأساس واللغة الإنجليزية في المراحل الدراسية التالية، وعلي أن يستمر تدريس اللغتين العربية والتجرينية كمادتين دراسيتين فقط(17).

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن تيار الإسلام السياسي في إريتريا يستند إلى تيار المعارضة من الإسلاميين الذين يرون أن هناك تهميشا متعمدا لهم من قبل الحكومة والنظام السياسي بالقدر الذي يمس حقوقهم كمواطنين، و يأتي حزب العدالة والتنمية الإريتري على رأس هذا التيار الإسلامي المعارض في إريتريا، حيث يدعو لإرساء دعائم السلام والعدل والتنمية استنادًا لمرجعية إسلامية معتدلة والدعوة إلى المحافظة على المصلحة العليا لكافة الشعب الإريتري ووحدته الوطنية وأعرافه الاجتماعية(18). كما يتبنى رؤية بديلة للدستور الإريتري الحالي الذي يدعو إلى تغييره: إقرار النظام البرلماني كنظام للحكم، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، كفالة الدولة الحريات الخاصة والعامة، وإقرار التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة، وإنشاء محكمة دستورية عليا، وتفعيل اللامركزية لحكم الأقاليم باعتباره أنجح طريقة لتحقيق التطور السياسي والتنمية الشاملة والرضا الشعبي. ومراعاة القوانين الدولية التي لا تتصادم مع قيم ومصالح الشعب الإريتري.

ب ـ المجتمع المدني:

يعاني المجتمع المدني الإريتري من مشكلات مرحلة التكوين، فهو لا يزال في مرحلة النشأة والتبلور، وهو ما توضحه طبيعة علاقته بالدولة، فلا تزال هذه العلاقة في مرحلة تحديد الأدوار والمسئوليات وتشهد الكثير من حالات الشد والجذب التي تعتصر قوى المجتمع وعدم تبلوره في إطار ما هو متعارف عليه في الأدبيات العلمية من تعريف للمجتمع المدني.

فمن الواضح أن مرحلة تثبيت أركان الدولة وتناحر العديد من القوى السياسية والمجتمعية قد انعكست بوضوح في تشكيل البيئة المحيطة بالعمل الأهلي الإريتري وفي طبيعة وتشكيل المنظمات غير الحكومية بالقدر الذي لم يساعد على أن تكون هذه البيئة داعمة أو محفزة لبناء مجتمع مدني قادر على تفعيل أنماط المشاركة المجتمعية وتبني أجندة تنموية وحقوقية تسهم في دفع عجلة التحول الديمقراطي في إريتريا، أو على الأقل تسهم في نقل الأنماط التقليدية من العمل الأهلي ومؤسساته إلى مستوى أوسع باتجاه مكونات حديثة تدعم المجتمع المدني.

ومن الواضح أيضًا أن علاقة الشد والجذب بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني الإريتري، قد حكمها مجموعة من العوامل المتشابكة التي أسهمت في حصار دور المجتمع المدني في مجالات محددة وأدوار بسيطة، نذكر منها: الخوف من تنامي الدور السياسي للمجتمع وتزايد علاقته الارتباطية مع القوى السياسية من ناحية، وتنامي علاقة الارتباط بين منظمات المجتمع المدني الإريتري ومنظمات المجتمع المدني العالمي من ناحية ثانية، والنفاذ والضغط على النظام السياسي من خلال بوابة المجتمع المدني، لا سيما ما يتعلق بسلوكها تجاه مراعاتها للنهج الحقوقي وما قد يترتب عليه من تدخل دولي في الشئون الإريترية من ناحية ثالثة.

ويؤكد الدستور الإريتري على مبدأ استقلالية القضاء، والمحكمة العليا هي التي تقوم بتفسير القوانين والنظر في مدى دستوريتها والمحاكم الأخرى التي تعمل تحت إمرتها

فقد أسهمت المرحلة الأولى في عملية بناء الدولة في بروز العديد من القيود والعقبات التي عكستها الساحتان السياسية والاجتماعية في مرحلة تالية، فكان توجه القيادة الإريترية للتأكيد على علمانية الدولة سبيلًا للخلاف والصدام مع الكنيسة الأرثوذكسية التي عانت كثيرًا خلال حقبة الاحتلال الإثيوبي وقتل عدد كبير من رجال الدين، كما أن مخاوف المرحلة الأولى ومحاولة تثبيت أركان الدولة دفع الحكومة لفرض سيطرتها على القوى المجتمعية من خلال تقييد حركة منظمات المجتمع المدني وجماعات المصالح(19).

بمعنى أن القيود الداخلية والضغوط الإقليمية والدولية قد لعبت دورًا واضحًا في انكماش دور المجتمع المدني في عملية التنمية والمشاركة السياسية في الداخل، وبرز دورها السياسي والحقوقي في إطار المعارضة الخارجية، وذلك من خلال إقدام شخصيات معارضة تستند لأدوارها في حرب التحرير في تأسيس العديد من المنظمات غير الحكومية في الدول الغربية، وهو ما يتجلى على سبيل المثال في مشاركة العديد من المنظمات غير الحكومية في مؤتمرات الحوار الوطني الذي ينظمه التحالف الديمقراطي الإريتري المعارض.

كذلك يبرز نموذج آخر لتفاعل البعد الدولي مع قضايا الداخل، ففي عام 2005 أقدمت منظمة "الإريتريون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان" والتي تتخذ من المملكة المتحدة مقرًا لها على عقد مؤتمر موسع حضره ممثل عن وزارة الخارجية البريطانية، ومنظمات دولية لحقوق الإنسان (منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومن رايتس وتش) وبعض الصحفيين والطلاب وأعداد من الجالية الإريترية، وقد شهد المؤتمر الذي عقد تحت عنوان منتدى أوضاع حقوق الإنسان العديد من الأوراق البحثية والتقارير الحقوقية المتعلقة بحقوق المسلمين والديمقراطية وحقوق الأقليات الدينية والإعلام(20). وقد أسهم هذا المؤتمر وغيره من الأنشطة في تسليط الأضواء على ملفات حقوق الإنسان في إريتريا.

الحقيقة البارزة هنا أن إريتريا لا تمثل حالة استثنائية في ربط ملف حقوق الإنسان بالتدخل الدولي في شئون الدول تحت دعاوى عولمة القضايا الإنسانية، فهذا الربط أصبح سمة من سمات النظام الدولي وتفاعلاته، وبعيدًا عن مدى نزاهة هذا الربط ومدى ارتباطه بمصالح الدول والقوى الدولية التي تحرص على ربط المنهج الأخلاقي بسياسات وتفاعلات لا تتعارض مع مصالحها، فإن قضايا حقوق الإنسان أصبحت واحدة من الملفات الدولية الشائكة التي ترتبط بملفات أخرى مثل تقديم المساعدات الدولية وتحديد مكانة الدولة على الساحة الدولية وداخل المنظمات الدولية غير الحكومية.

واتساقًا مع هذه الرؤية، فقد حرصت حكومة إريتريا على عدم تشجيع وتدعم المجتمع المدني الإريتري، فضلًا عن قصر دور المنظمات الدولية غير الحكومية على أنشطة الإغاثة وإعادة التأهيل وفقًا للقرار الحكومي 145/2005، حيث لا يُسمح لها بالعمل مع المجتمعات المحلية على نحو مستقل عن الحكومة، فضلًا عن فرض قيودًا عن حرية التنقل والأنشطة(21).

فالحكومة الإريترية ترى أن المنظمات الدولية تلعب دورًا سلبيًا من خلال انتقادها أداء الحكومة الدائم فيما يتعلق بحالة حقوق الإنسان الأمر الذي يسهم في تنامي الاحتجاجات الشعبية، وأن هذه المنظمات واجهة ومظلة لأجهزة الاستخبارات(22).

وهكذا، تبدو أن علاقة الشد والجذب التي تحكم علاقة النظام الحاكم بالمجتمع المدني ستظل مرتبطة باستمرار العديد من الرواسب والحساسيات والمخاوف التي تركتها معركة التحرير وموقع العديد من القوى فيها وطبيعة التحالفات التي حكمت تلك المرحلة فضلًا عن استمرار محاولات العديد من القوى الدولية والإقليمية التأثير على توازنات القوى السياسية القائمة وأخيرًا عدم قدرة النظام على استيعاب المتغيرات وإيجاد مجتمع مدني قوي قادر على صهر التعددية القبلية والعرقية والطائفية القائمة، فلا تزال سمات التنافس والصراع حاكمة للعديد من التفاعلات بين الأطراف والقوى المجتمعية فيما بينها وبين السلطة.

3. إريتريا.. قضايا التنمية ومقومات الدولة ومواردها:

إريتريا دولة غنية بالموارد الطبيعية، ولكنها لم تنجح حتى الآن في استغلال مواردها بالقدر الذي يحقق تنمية مستدامة وبشرية مرتفعة، فقد فرضت حالة الصراع السياسي الداخلي وعدم الاستقرار والدخول في الكثير من الصراعات والخلافات الإقليمية قيودًا على حركة التنمية، ووقف عجلة التصنيع في الدولة.

أولًا - السياسات التنموية:
أدت عملية التباطؤ في تنفيذ السياسات التنموية والإصلاحية الاقتصادية، إلى إضعاف قدرة الدولة على النفاذ والتأثير في المجتمع المحلي بكل أطيافه وتشكيلاته، فحالة المجتمع التعددي التي تفرض نفسها على المجتمع الإريتري تتطلب قدرات وموارد وإدارة نافذة لهذه التعددية بحيث تتحول إلى مزايا لا أن تظل قيد. وهنا تجدر الإشارة لبعض المؤشرات الدولية الخاصة بقياس قدرات الدول وتحديد مكانتها على المستوى الدولي، إذ يشير مقياس الدول الفاشلة التابع لصندوق السلام في واشنطن إلى احتلال إريتريا المركز 36، واستمرار تدهور حالاتها حيث قفزت ثمانية مراكز منذ عام 2008(23) والمعروف أن هناك العديد من المؤشرات التي يستند إليها هذا المقياس مثل عجز الدولة عن تنفيذ مهامها، كتحصيل الضرائب أو فرض الأمن والنظام في المجتمع، وبالتالي تسود الممارسات المتعلقة بالثقافات التقليدية والمحلية الضيقة، وتنتفي الممارسات الديمقراطية، والمؤشر الأهم في هذا السياق هو عدم قدرتها على تحصيل الموارد وإعادة توزيعها. ويذهب المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، في كتابه الدولة الفاشلة، إن هذا المفهوم يعني "انفصال تطلعات الشارع، عن السياسات العامة للمؤسسات الحاكمة"، بل وقد زاد البعض على هذا التعريف ليشمل عدم قدرة مؤسسات الدولة الرسمية على تقديم حلول وبدائل للأزمات والمشكلات التي يعاني منها المجتمع، بحيث تفقد الدولة القدرة على النفاذ والتأثير. وهنا يمكن الإشارة لبعض الأرقام الدالة في الحالة الإريترية والتي تضعها في مصاف الدول الفاشلة، منها: تمتع 14% فقط من مجموع السكان بخدمات الصرف الصحي، وارتفاع معدلات وفيات الأطفال إلى 135 لكل ألف طفل.

يدعو حزب الشعب الديمقراطي الإريتري إلى إسقاط نظام الحكم لأسياسي أفورقي، وتبني مبدأ تقسيم السلطة والثروة، ووضع دستور يتبنى حقوق الإنسان، وسيادة مبدأ المواطنة، وتشجيع إقامة منظمات ال

ومع الأخذ في الاعتبار وجود قدر من التحفظ على بعض مؤشرات هذا القياس إلا أنه يظل مؤشرًا فاعلًا بالنسبة لنظرة المجتمع الدولي لهذه الدولة أو على الأقل نظرة القوى الفاعلة في النظام الدولي لموقع ومكانة الدولة وسبل التفاعل معها على المستوى الدولي، حيث تستند القوى الدولية لهذا المؤشر وغيره للضغط على الدول وتحديد مواقفها ودرجة تفاعلها مع هذه الحكومات من منطلق أهمية هذه الدولة وارتباطها بمصالح القوى الدولية، الأمر الذي يفسر الكثير من المبررات والأسباب التي تتعلل بها الدول الكبرى لعدم الاستثمار وتوسيع مجالات التعاون في إريتريا.

فإريتريا تصنف من ضمن أكثر بلدان العالم فقرًا، ولذا فهي تحتاج إلى تبني سياسات تنموية تمكنها من بناء قاعدة زراعية وصناعية جيدة وتجارة خارجية نشطة ومواجهة موجات الجفاف المتعاقبة. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى عدد من الملامح الرئيسية المرتبطة بالاقتصاد الكلي الإريتري وأهم مؤشراته فيما يلي(24):-

1. ضعف إيرادات الدولة وانهيار الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة بسبب تراجع تحويلات العمالة بالخارج وإحجام عدد منهم عن دفع الضريبة البالغة 2% من قيمة دخلهم، فضلًا عن انعدام التصدير.

2. نقص السلع الأساسية بمختلف أقاليم الدولة، لا سيما مع توالي موجات الجفاف.

3. وجود عجز في الموازنة واعتماد الحكومة على القروض والمنح لسد هذا العجز، واستمرار تقييد قوانين الدولة للمشروعات الاستثمارية وكافة صور الوجود الأجنبي.

4. ارتفاع نسبة التضخم، بسبب انهيار القوة الشرائية للعملة المحلية (النقفة)، ومواصلة الحكومة تقييد سعر العملة المحلية في مواجهة العملات الأجنبية.

5. تدهور مستوى الخدمات (مياه - كهرباء - نقل - رعاية صحية - اتصالات)، واتسام السوق الإريتري بالتقشف التام بسبب فرض الحكومة قيودًا على الاستيراد.

6. التذبذب الشديد والمستمر في سعر العملة الإريترية.

7. تعد إريتريا من الدول غير المشجعة في مجال جذب الاستثمارات الأجنبية رغم الجهود الإريترية لجذب الاستثمارات الخارجية، وذلك في ظل تراجع دورها وأهميتها بالنسبة للقوى الدولية التي تفضل الاستثمار في إثيوبيا، فضلًا عن ضعف البنية التحتية، وتزايد سيطرة الدولة على الموارد.

* الدكتور: أيمن السيد عبد الوهاب - خبير الشئون الأفريقية والمياه بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

Top
X

Right Click

No Right Click