الراحل المناضل عمر محمد البرج
بقلم الأستاذ: سيد أحمد خليفة
صباح الـخير والنعيم أيُّها الراحل الكريم..!
هذا - الناســـك العابد لله والثورة - مات بعيداً عن وطــنٍ أحــبه ووهبه العمـــر قال للقذافي: الإريتريون لم يقاتلوا لأجل وصول «حاكــم شــــيوعي» للسلطة في إثيوبيا في ليلة ظلماء بطـــــرابلس - كان هو البدر الذي حرس أسرتي وأضاء ليلتها.
كان ذلك عام 1975م.. المكان طرابلس العاصمة الليبية وأنا أعمل يومذاك صحفياً في جريدة «البلاغ» المؤممة؛ والتي كان يملكها صحفي كبير اسمه - محمد أحمد وريث، كان قومياً عربياً ووحدوياً ومناصراً لقضايا التحرير خاصة القضية الإرتيرية.. إلا أن وباء التأميم الذي ضرب الصحافة الليبية سيراً على طريق - الناصرية والتقدمية والوحدوية - كان قد ضرب الصحافة الليبية وتبعها للاتحاد الاشتراكي العربي الليبي الذي كان هو الآخر - نقل مسطرة من الاتحاد الاشتراكي في العزيزة مصر..!
كانت جريدة «البلاغ» قبل وبعد التأميم مناصرة بوضوح شديد للقضية الإرتيرية.. وكان صاحبها محمد أحمد وريث صديقاً حميماً للقضية الإرتيرية ولمكتبها في طرابلس ولمدير ذلك المكتب - المجاهد الإريتري الفذ عمر البرج، الذي ظل وبرغم تعدد التنظيمات والخلافات والنزاعات فوق الساحة الإرتيرية منذ بداية السبعينيات وقبلها وحتى رحيله المحزن جداً في الأسبوع الماضي؛ رجلاً قومياً يرعى كل الإريتريين طلاباً.. وعمالاً.. وزواراً للعاصمة الليبية طرابلس في حقبة سبعينيات القرن الماضي..!
ولقد تعرفت على الراحل عمر البرج نحو عام 1973م، بفندق «الودان».. وكان الذي عرفني به بجانب التعارف عبر الصحف والقضية هو الراحل بابكر كرار، الذي كان يقيم ولسنوات في ذلك الفندق على ساحل البحر الأبيض المتوسط في قلب العاصمة الليبية طرابلس..!
بعد ذلك التعارف العابر في الفندق لم نفترق؛ الراحل عمر البرج وأنا، حيث ظل اللقاء بيننا شبه يومي سواء في مكتبه خلف شارع- عمر المختار.. أو في مكتب الصحيفة الذي يقع في أحد أزقة قلب طرابلس التي كانت ثورتها في عامها الرابع، وكانت حين وصلناها في نوفمبر 1973م وكأنها عروس تودع شهر العسل الملكي وتعيش أيام أشهر الاشتراكية والقومية والناصرية؛ والشعارات التي تبدلت الآن مع الزمن، وتغيرت الاتجاهات القارية ليتحول كل النظام الليبي بقياداته نحو إفريقيا طمعاً في الاستجابة لذات الشعارات.. والأطروحات والتسليم بالزعامة التاريخية في حجم ناصر.. ونكروما.. وجومو كنياتا.. وكابيلا الأب.. ونايريري..!
كان صديقي الراحل عن دنيانا في الأسبوع الماضي يحاول أن يكبح جماحي حين أتحدث عن ـ اشتراكية وناصرية وتقدمية ذاك الزمان كما يطرحها بعض المتكسبين منها ـ وليس المؤمنين بها..!
وقد كان جزءاً من المعارضة السودانية المقيمة بطرابلس تحت اسم ـ الجبهة الوطنية ـ والتي طردت من السعودية عقب مجزرة نميري بحق الشيوعيين عام 1971م ـ يوليو ـ والتي طردت من مصر السادات، ولكن بعد أن رتبت مصر الأمر مع طرابلس القذافي، والذي كانت له هو الآخر مشكلات مع نميري ـ أقول كان جزءاً من تلك المعارضة ينتمي الى التنظيم ـ الناصري الوحدوي، أو هكذا كان يميز نفسه عن بقية فصائل المعارضة السودانية المقيمة بليبيا والممثلة في ـ الإخوان ـ الأمة.. الاتحادي..!
واذا كان موقفي القديم والجديد.. من المعارضة والمعارضين في الخارج منذ ذلك الزمان ورجاله يتواصل حتى يومنا هذا وهو زمان ـ عبد الواحد محمد نور ـ فإن موقفي وعلاقتي بالفرع الناصري في المعارضة السودانية بطرابلس آنذاك كان أشد وأقوى وأوضح من حيث الخلاف والاختلاف والنقد المباشر أمام الملأ حيث ما أُتيح لي ذلك..!
ونحو مايو 1975م، تلقيت دعوة من الحكومة الصومالية ـ كصحفي مناصر لقضايا القرن الإفريقي ـ الأوجادين.. وإريتريا.. وجيبوتي.. وكانت المناسبة هي حضور قمة عربية أولى في مقديشو التي انضمت إلى الجامعة العربية، وهو الانضمام الذي فجر المشاكل أمام الصومال منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا «وهو أمر لم يفهمه العرب ولا المسلمين ولا المقاتلين من الصوماليين ـ وإن فهمه البعض منهم متأخراً» أو منذ ذلك التاريخ فإن الجميع دفعوا الثمن الباهظ لذلك الانضمام الذي لم يثمن ولم يغن الصوماليين من جوع..!
كانت دهشتي كبيرة وأنا اتابع اجراءات سفري إلى مقديشو لأول مرة في حياتي، حين طُلب مني أن احضر موافقة على السفر من ـ مكتب السودان التابع للمعارضة السودانية والواقع في إحدى بنايات شارع عمر المختار بقلب طرابلس أيضاً..!
الحقيقة أنني استسهلت الأمر وصعدت للمكتب المذكور لأتسلم الموافقة وجوازي من هناك؛ إلا أنني فوجئت بالرفض حيث قال لي ـ شاب سوداني ناصري ـ قح ـ كان يدخن ويقح ـ إنني ممنوع من السفر خارج طرابلس لأنني لم أحصل على ـ بطاقة معارضة سودانية، ولا على بطاقة اتحاد اشتراكي عربي ليبي..!
اختصر القصة.. فقد أخذت جواز سفري عنوة من المذكور.. وفي ذلك اليوم جاءت المخابرات الليبية وأخذتني من ـ مكتب الصحيفة ـ إلى مكان تحت الأرض للتحقيق معي طوال الليل بتهمة ممارسة عمل إرهابي ضد المناضل ذآك الذي انتزعت منه جواز سفري بحد السكين، أو على الأصح بالمطواة قرن الغزال..!
كان زميلي وتلميذي البار عبدالباري عطوان رئيس تحرير ـ القدس اللندنية ـ الآن قد سارع في الإتصال بصديقي عمر البرج وأخطره بما حدث لي من اعتقال.. وبعدها تحرك ـ البرج ـ الذي كان يعرف كل أجهزة المخابرات الليبية بحكم كون المخابرات في ظل الأنظمة الديكتاتورية والشمولية والعسكرية هي الدولة.. والدولة هي، وهذا ما أُحذر منه المعارضين السودانيين دائماً؛ وأقول لهم إنكم ضيوف على أجهزة مخابرات، ولستم ضيوفاً على حزب أو تنظيم.. وهذه المخابرات أينما كانت لا تأويكم وتدعمكم لوجه الله وقضيتكم.. بل لتحقيق مصالح وأهداف تتصل بالنظام التابعة له.. وبعد تحقيق تلك المصالح ليس أمامكم غير ـ العودة لأحضان النظام.. أو مغادرة البلد إن شاء الله إلى جهنم..!
المهم لقد أفلح صديقي عمر البرج في اطلاق سراحي في الصباح الباكر لأعود إلى البيت ولأجد الرجل في استقبالي أمام منزلي، حيث كانت دهشتي إن الرجل أمضى كل ليلة غيابي نائماً أمام منزلي داخل سيارته ليكون قريباً من الأسرة..!
ولقد سافرت إلى مقديشو لأمضي بها شهراً كاملاً؛ ولأعود للحياة فيها بعد ذلك تاركاً بها صديقي عمر البرج، الذي كان يقطع كل المسافة بين طرابلس ومقديشو عن طريق روما لنلتقي ـ أو هكذا كان يقول لي مع أنه كان يحضر إلى مقديشو لأداء مهمة نضالية بحكم التحالف بين الثورتين في إريتريا والصومال..!
ويعود التاريخ النضالي للمجاهد عمر برج «هكذا كان يحب أن يسمى» وما كان يحب عبارة «مناضل» ربما لرمزيتها ـ الماركسية ـ نهاية الخسمينيات، حيث كان الرجل من أكبر وأبرز رجال الأعمال في إريتريا وإثيوبيا والسعودية، وهو من أبناء مصوع على البحر الأحمر ـ وتحديداً من قرية ـ حرقيقوـ وهو صديق وابن جيل للراحل عثمان صالح سبي..!
في بداية الستينيات وحين أعلن هيلاسلاسي ضم إريتريا إلى أمبراطوريته رافضاً القرار الدولي بمنحها تقرير المصير؛ أعلن الراحل الكريم عمر برج عن انضمامه للثورة الإريترية، حيث سلم لقادتها بالخارج كل ما يملك من أموال.. وسفن صغيرة في البحر الأحمر كان يتاجر بها بين إثيوبيا وإريتريا ودول الخليج.. ومع كل ثروته تلك سلم المجاهد عمر البرج للثورة فعمل في صفوفها بالميدان وبالخارج إلى أن اختارته الثورة ممثلاً لها في طرابلس قبل ثورة القذافي بنحو خمس سنوات، حيث كان محبوباً من الحكومة الملكية الليبية التي كانت تؤيد استقلال إريتريا باعتبارها مثلها مثل طرابلس مستعمرة إيطالية سابقة..!
بعد وصول منقستو هيلي ماريام للسلطة في إثيوبيا تبدل الحال في مجال العلاقات الإريترية الليبية، وعاش عمر برج في طرابلس بين ـ المهمش والمغضوب عليه؛ إلى أن حدثت مواجهة شهيرة بينه وبين القيادة الليبية التي طلبت منه أن تؤيد الثورة الإريترية نظام منقستو، وأن تتصالح معه لأنه نظام اشتراكي، حيث قال المجاهد عمر البرج للقيادة الليبية: «إن الإريتريين لم يقاتلوا.. ويناضلوا.. ويستشهدوا بالآلاف لكي يحكم إثيوبيا ـ اشتراكي كاذب.. أو أمبراطور متسلط.. إن الإريتريين يريدون الاستقلال التام وبعدها يمكن الحوار حول نوعية العلاقات مع إثيوبيا أو غيرها»..!
بعد استقلال إريتريا ووصول سياسي أفورقي، الذي ظل عضواً في تنظيم قوات التحرير الشعبية بقيادة الراحلان عثمان سبي وعمر البرج وآخرين ـ إلى أن انقلب ـ أي أفورقي على التنظيم في النصف الثاني من السبعينيات ليأخذ طريقه لحكم إريتريا كما هو الحال الآن، أقول بعد الاستقلال سافر عمر البرج الى أسمرا لأول مرة بعد سنوات النضال الطويل وسجد في مطار أسمرا مقبلاً أرض بلاده المستقلة، إلا أن تلك ـ السجدة ـ كما كان يقول ـ كانت هي التي شكلت العلاقة المتوترة بينه وبين سياسي أفورقي الذي ظل ماركسياً متعصباً.. مع أنه مسيحي الديانة، حيث عومل المجاهد عمر برج العائد إلى أسمرا لأول مرة بعد الاستقلال معاملة سيئة من جانب أفورقي ومخابراته؛ ليسرع الراحل عمر البرج بالخروج من إريتريا، ولينجو بروحه من بطش وجبروت نظام أفورقي..!
وهو في طريقه من أسمرا إلى روما الإيطالية ـ حيث قرر أن يعيش بقية عمره ـ مرَّ المجاهد عمر البرج بمدينة جدة السعودية حيث أدى العمرة بمكة.. وزار مسجد المصطفى عليه الصلاة والسلام بالمدينة المنورة.. والتقى بي لعدة أيام وليالٍ لم نفترق خلالها، حيث سألني هكذا:
(سيد.. أنت صديقي.. وأريد منك نصيحة الصديق.. هل ترى أن أواصل العمل لتحرير إريتريا من قبضة أفورقي الذي لا يختلف عن قبضة الاستعمار الإثيوبي»..؟؟ قلت لصديقي المجاهد الراحل عمر البرج ما قلته لكم ولسائر المعارضيين الآن ومن قبل: «إياك أن تعارض حكومة بلادك ـ السيئة جداً ـ من الخارج.. إما أن تعارضها من الداخل ـ وهذا ما لا يسمح به عمرك» كان الرجل يوم هذا الحديث في بداية العقد السابع من عمره، حيث توفى الآن بلندن وهو فوق الثمانين.. لقد سمع الرجل نصيحتي.. ونصيحة ضميره اليقظ وابتعد عن العمل المعارض ضد أفورقي بصورة مباشرة حتى رحل وهو بعيد عن بلاده التي وهبها العمر.. والمال.. والأهل ـ فقد كانت كل أسرته مجاهدة معه ودفعت ضريبة قيادته للثورة في عهود هيلاسلاسي ـ ومنقستو.. وأفورقي..!
كان المجاهد عمر البرج ـ رحمه الله وأحسن إليه في آخرته بقدر ما قدم لوطنه.. وللإسلام.. وللعروبة وللجهاد الإريتري؛ يقول دائماً إنه وبعد وفاة زوجته التي أنجب منها ابنه الوحيد الراحل ـ صالح ـ قد تزوج الثورة.. فعاش عازباً شديد الوفاء لثورته.. ولشعبه.. ولأسرته الكبيرة، حيث تولى بالرعاية والعناية والتربية والتعليم ـ أسرة شقيقه ـ أحمد البرج ـ الذي توفي منذ نحو ثلاثة عقود تاركاً بناته.. وأولاده في القاهرة تحت رعاية شقيقه المجاهد عمر البرج.. يرحمه الله ويحسن إليه ويرحمنا جميعاً.