نضال الشعب الإرتري للتحرر من المستعمر الأثيوبي الغاشم 1961 - 1991
بقلم الأستاذ: ياسين إبراهيم عبده محمد نافع - أبو روان
استيقظ من نومه على صوت أذان الفجر، توضأ وأيقظ زوجته أم محمد، وخرج للصلاة
في مسجد حرقيقو العتيق، أم محمد توضأت وصلت ثم بدأت تعدّ قهوة الصباح.
لأن القهوة الصباحية والفطور المبكر من عادات أهل مصوع وضواحيها، ووجبة الغداء دائما تكون بعد صلاة الظهر مباشرة.
أعدّت أم محمد الفطار والقهوة، ثم أيقظت الأطفال ليستعدوا للذهاب إلى خلوة القرآن عند شيخهم الشيخ حامد، ثم يعودون من الخلوة ويستعدون للمدرسة.
بعد أن أفطر أبو محمد مع أطفاله وزوجته واحتسى القهوة، ارتدى ملابس العمل وخرج ومعه أولاده، أوصلهم إلى الخلوة ثم توجه إلى موقف الباصات ليلحق باص الساعة السادسة صباحا المتجه صوب مصوع.
حيث يعمل أبو محمد في الميناء عامل شحن وتفريغ (توكت). في العادة يعمل أبو محمد وزملاؤه دوامين يفصلهما ساعتا استراحة بعد الظهر.
وجد معه في الباص صديقه الشاب عمر وأخذا يتبادلان الحديث عن العمل ثم يعرجان إلى أحوال بلدتهما أفراح الناس وأتراحهم ويخططان سويا بزيارات الأهالي يوم الجمعة بين تهنئة ومواساة.
ثم تحول حديثهما إلى همس لأنهما يتحدثان عن الثورة والثوار، وكيف أن الثورة في تقدم قال أبو محمد أن قريبه المناضل عثمان زاره ليلة أمس ومعه مناضل آخر، وبشره بأن الثورة انتشرت في كل مناطق إريتريا وتسلحت بأحدث الأسلحة التي تبرع بها الأشقاء العرب وأن التحرير قادم لا محالة، ثم تزودا بما كتب الله لهما وانطلقا صوب منطقة "قدم" حيث تواجد القوة من الثوار... اعتاد الثوار التسلل ليلاً إلى البلدة لمعرفة أخبار وتوجهات العدو وتحركاته والتزود بإحتياجات المناضلين من الأهالي... وبينما هما يتحدثان تحرك الباص في طريقه إلى مصوع.
أبو محمد: قالوا بالأمس جاء البابور "الباخرة" محملا ببضائع، عملنا هذا الأسبوع سوف يكون شاقاً نسأل الله الإعانة.
عمر كان شاردا بذهنه مع حديث أبي محمد عن الثوار، وصار يحدث نفسه لماذا نحن هنا، لماذا لم نلتحق بالشباب في الميدان ألم يكونوا زملاء الطفولة والدراسة.. لابد من أن نسحق هؤلاء "الطور سراويت" وإخوانهم "الكوماندوس" لابد من طردهم وسحقهم لآخر جندي.
عمر شاب في بداية العقد الثالث قطع دراسته لتحمل مسؤولية أسرته - والدته وإخوته الصغار - بعد وفاة والده فتوظف عاملا في الميناء.
كرر أبو محمد حديثه عن الباخرة القادمة انتبه هنا عمر لحديث صديقه ورد قائلا: نعم نعم هذا الأسبوع سيكون شاقاً وواصل في صمته وشروده.
وصلا إلى الميناء وكل واحد ذهب إلى مكان عمله واتفقا أن يلتقيا عند قهوة العم سعيد في استراحة الظهيرة، مضى وقت العمل سريعا حتى حان وقت الظهر ووقت الإستراحة، التقيا عند قهوة العم سعيد والتي هي بالقرب من الميناء روادها عمال الميناء والموظفين تجدها طول الوقت مزدحمة، يقدم فيها العم سعيد وجبات مصوعية لذيذة وقهوة وشاي ومعه مساعده بخيت.
العم سعيد رجل مرح يجالس رواد قهوته ويمازحهم ويآكلهم وكريمٌ معهم، أحيانا يتساهل معهم في الحساب وينتظر إلى أن يصرفوا الرواتب لآخر الشهر ثم يدفعون له.
جلس الصديقان أبو محمد وعمر وطلبا وجبة غداء، وأثناء تناول الغداء، يتحدثان كل واحد منهما يحكي كيف كان العمل اليوم، وعمر كل مرة يبدو شاردا بذهنه بعيدا ثم يفيق على صوت صديقه : ما بك يا عمر منذ الصباح ونحن في الباص أراك سارحا، رد عمر: لا لا لا شيء لا شيء.
أبو محمد: هل هناك مشكلة في الأسرة يا عمر؟ أرجوك لا تخفي عني يا عمر، أنا بمثابة أخيك الكبير يمكنني أن أساعدك.
رد عمر: اطمئن يا صديقي الأسرة بخير، إلى أنني منذ حديثك معي في الصباح عن الثوار، ظللت أفكر فيهم كيف يعيشون ويتحملون المخاطر، والعدو يتربص بهم، يتوقعون الموت في كل لحظة، هجروا أهلهم وملذات الحياة من أجل تحرير الوطن من العدو الإثيوبي الغاشم، الوطن غال يا صديقي، الوطن غال يستاهل مننا كل غال ونفيس.
رد أبو محمد: صدقت يا عمر إخواننا الثوار يقومون بواجب عظيم تجاه وطنهم وشعبهم ونحن هنا علينا واجب كبير أيضا وهو أن نجمع لهم المساعدات ممن نثق بهم من التجار ومن الأهالي، وأن ننقل لهم الأخبار عن تحركات العدو أولا بأول.
عمر: نعم صدقت يا صديقي لابد من مساعدتهم بكل ما نملك، ولكن يا أبا محمد أنت لديك زوجة وأطفال ربما هم في حوجة لرعايتك وحمايتك، أما أنا ليس لدي زوجة وأطفال ما الذي يمنعني من اللحاق بالثوار، أمي وإخوتي يمكنني أن أعهد بهم إلى أخوالي، حيث أن وضعهم المادي جيد يمكنهم رعاية والدتي وإخواني، وأنطلق إلى الميدان واللحاق برفاق الصبا والدراسة.
أبو محمد: ولكن يا عمر إذا قمت بدعم الثوار وانت مع أسرتك وعملك أيضا هذا عمل كبير.
عمر: لا يا صديقي هذا لكم أنتم آبائنا وإخوتنا الكبار الذين لديكم مسؤوليات أسرية، أما أنا مادام أخوالي يستطيعون رعاية والدتي وإخوتي فلا عذر لي، لابد وأن ألتحق بالثورة.
أخذهما الحديث عن الثورة والثوار حتى كادت تنتهي مدة الإستراحة، طلبا من العم سعيد قهوة "مزبوطة" ليصحصحا ويعودا إلى الفترة الثانية من العمل.
واتفقا أن يكلم له أبو محمد قريبه المناضل عثمان إذا زاره بالليل.
عندما حضر المناضل عثمان في إحدى الليالي كعادته طرح عليه أبو محمد رغبة صديقه عمر في الإلتحاق بالثورة قائلا: أن صديقي عمر يريد الإلتحاق بالثورة وهو شاب خلوق ومسؤول تحمل مسؤولية إخوانه وهو صغير وشاب ذكي ومتعلم يمكن أن يفيد الثورة إذا بعثته للخارج للتدريب أو للتخصص في مجال معين.
وافق المناضل عثمان بكل سرور وسُرّ بحماس الشباب وحسهم الوطني العالي وقال له : ليستعد للخروج معي إلى الميدان في حضوري القادم إليكم.
أخبر أبو محمد صديقه عمر بموافقة المناضل عثمان لأصطحابه معه، سُرّ الشاب عمر بهذا الخبر أيما سرور وقال : أخيرا سوف ألتحق بالأبطال وأقاوم المستعمر لآخر جندي له في وطني الحبيب.
ثم اتفقا أن يودع عمر أسرته ويحضر إلى منزل صديقه أبي محمد في نفس الليلة التي سيحضر فيها المناضل عثمان.
أخبر عمر أخواله برغبته باللحاق بالثوار - يعتبر أخوال عمر من الداعمين للثورة في البلدة كما جميع أهل البلدة - حيث أبدوا موافقتهم ولكنهم طلبوا منه إقناع والدته لأن رضاها سيكون نصيره وسبب توفيقه في مهمته بعد الله سبحانه وتعالى.
تأثرت والدة عمر كثيرا عندما صارحها إبنها برغبته باللحاق بالثورة زرفت دموعها وصار جسمها يرتعش من البكاء دون أن تحدث صوتا، ولكنها تشجعت ومسحت دموعها.
وقالت: ابني وحبيبي عمر أنت بكري وغال عندي ولكن لا أغليك على الوطن أغلب زملاءك في الصبا التحقوا بالميدان وأنت جاء دورك يا حبيبي صرت رجلا ولابد أن تضحي، وأنا أدعو لك ولأبنائي الثوار أن يكون النصر حليفكم على العدو الغاشم.
وفي ليلة الرحيل إلى الميدان ساحة العزة والكرامة، حمل عمر حقيبته الصغيرة التي كان قد أعدّها للسفر، وكانت تحوي غيار ملابس واحد وبعض الزاد الذي أعدته والدته. توجه عمر الى حيث إخوته الصغار وهم نيام طبع قبلات على جبينهم وأوصى أمه بهم.
احتضن والدته مودعا حيث غلبه الدموع وكذلك والدته، ربّت على كتفيها، قائلا: أبشري يا أماه، سوف يكون النصر حليفنا بإذن الله، لا تنسينا من صالح دعواتك، بعد أن أُكمل التدريب سوف أتسلل إليكم بالليل أحيانا مع رفاقي للإطمئنان عليك وإخوتي مالم يكن توزيعي في مناطق بعيدة عن جبل "قدم".
وخرج عمر من منزله إلى حيث الموعد مع أبي محمد صديقه الحميم وقريبه المناضل لينطلق إلى الميدان والإلتحاق بالثوار المعسكرين في منطقة "قدم".
وصل عمر والمناضل عثمان وبعض المناضلين - الذين كانوا في مهمة في حرقيقو ومصوع - مع بزوغ الفجر إلى معسكر الثوار، بعد سير لأربعة ساعات في الظلام الحالك والطرق الوعرة.
أخذ المناضل عثمان المجند الجديد عمر إلى قائد المعسكر وحكى له كل ما عرفه عن عمر ورغبته في النضال مع إخوته الثوار، رحب القائد بعمر وبعد أن ذكر له اسمه كاملا عرفه وعرف أهله، وبعد الإستفسار عن أهل البلدة وأحوالهم وتحركات العدو في مصوع وحركة السوق والميناء.
قال القائد: أهلا بك يا عمر بين إخوتك وإن شاء الله سيتم توزيعك في إحدى فصائل التدريب كن مستعدا، الآن يمكنك أن ترتاح هذا اليوم كاملا، ومن يوم غد في الصباح ستبدأ التدريب، شكر عمر القائد وحياه وانطلق مع المناضل عثمان لمكان الإستراحة ليرتاح هذا اليوم.
في اليوم التالي قام عمر مبكرا، وبعد أن صلى الفجر في موقع استراحته انطلق إلى موقع التدريب حيث الفصيلة التي حددها له القائد، وهكذا استمر عمر في التدريب لمدة ثلاثة أشهر برع وأبدع في التدريب، حيث أشاد به مدربه عند القائد، حتى جاءت فرصة من القيادة في الخارج بوجود فرص دورة ضباط في إحدى الدول العربية، كان عمر من ضمن من وقع عليهم الإختيار لتميزه في فترة الثلاث شهور.
سافر عمر مع رفاقه الذين وقع عليهم الإختيار إلى الخارج، والتحقوا بدورة الضباط والتي استغرقت لمدة عام كامل، تخرج فيها عمر ورفاقه برتبة ملازم، واكتسبوا مهارات وتكتيكات جديدة، ثم عادوا إلى الميدان.
هذه المرة كانت وجهتهم حسب تعليمات القيادة إلى معسكر الساحل الشمالي، حيث خاض عمر مع رفاقه معارك ضارية، ألحقت أضرارا بالغة بالعدو.
طاف عمر جميع مناطق إرتريا وخاض معارك عدة، وتعرف على تضاريس إرتريا من جبال ووديان وقرى ومدن خلال تنقلاته لسنوات مضت.
ثم تم تعيينه فيما بعد قائدا للواءٍ كاملٍ في إقليم سمهر، حيث خطط لعمليات نوعية ناجحة، حتى قررت القيادة إستراتيجية تحرير المدن بعد أن قويت شوكة الثورة، وكان القائد عمر من ضمن قادة الألوية الذين أوكلت إليهم تحرير مصوع.
استبسل المناضلون في دك معسكرات العدوا إستعدادا لإقتحام مصوع، فكانت اللحظات الحاسمة من حصار العدو في مصوع وتطويقه من كل الإتجاهات، وهنا حانت ساعة الصفر في اقتحام المدينة، وكانت معارك ضارية هنا وهناك، والقائد عمر يوجه جنوده البواسل ويتواصل مع بقية قادة الألوية والقيادة العليا.
أحكم الثوار الحصار على مصوع وبدأ الهجوم والعدو ينسحب إلى الوراء وعساكره بين قتلى وجرحى، والبوارج البحرية تطلق قذائفها تجاه الثوار إلا أنها لم تستطع أن تعيق الثوار من التقدم فقد عزموا على تحرير مصوع.
هنا أثناء الإقتحام أصيب القائد عمر برصاصة في بطنه اتجاه خاصرته اليمنى إلا أنه ربط بطنه وواصل تقدمه نحو مصوع.
"ومدجج كره الكماة نزاله... لا ممعن هربا ولا مستسلمِ" حتى تم تحرير مدينة مصوع بالكامل وانتصر الثوار، وكانت لحظة لا توصف حيث خرج الشعب وملأ الشوارع فرحا واستقبلت النساء أبناءهن الثوار بالزغاريد، والفرحة عارمة.
وفي هذه اللحظات، لحظات النصر، لحظات الفرح، سقط قائدنا عمر مغمى عليه، فتم نقله إلى المستشفى، حيث تبين للأطباء أنه نزف نزيفا داخليا أفقده قدر كبير من دمه، حاولوا إنقاذه وأجروا له عدة عمليات مستعجلة ولكن دون جدوى.
يحكي من كان مرافقا للقائد عمر من قيادات المناضلين أثناء نقله إلى المستشفى، أنه أفاق للحظات وابتسم لرفاق دربه، رغم آلامه الشديدة، وبدا أنه كان مسرورا بالنصر الذي حققه ورفاقه، وخاصة هذه مدينته التي منها انطلق إلى الثورة، ودعها ليلتحق بالثورة وليعود فاتحا منتصرا.
في ساعة النصر هذه كان الوداع الأخير للقائد البطل عمر لمدينته الحبيبة، ففي هذه اللحظات فاضت روح قائدنا إلى بارئها. بعد نضال مرير لسنوات طويلة.
ثم عودته لمسقط رأسه فاتحا وقائدا لا يشق له غبار.
رحم الله القائد عمر وجميع المناضلين البواسل الذين قدموا أرواحهم فداء لوطنهم.
كما قال شوقي:
وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ... يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ
وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا... إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا
وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا... وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ
فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَياةٌ... وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ... بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ