المعلم عثمان صالح سبي كما عرفته

بقلم الإعلامي الأستاذ: يوسف عبدالرحمن  المصدر: جريدة الانباء

عثمان سبي احد ابرز قادة الكفاح والنضال والجهاد الاريتري ولد في قرية حرقيقو في عام 1931

والتحق بمدرسة حرقيقو سنة 1944 على حساب المحسن الكبير صالح باشا احمد كيكيا احد الاثرياء المرموقين حينذاك حتى التحق بالمرحلة الثانوية في اديس ابابا ثم بكلية المعلمين وأتم دراسته ثم تعيينه استاذا ثم مديرا بنفس المدرسة التي تعلم بها في قريته حرقيقو.

وعيه السياسي:

أثناء دراسته احتك بأبناء القوميات المهمشة في اثيوبيا مثل الاورومو والهرريين والصوماليين ثم قام بنباهته ورجاحة عقله بتأسيس «جمعية العروة الوثقى» للدفاع عن حقوقهم، اثناء هذه التجربة كسب وعيا سياسيا متقدما خاصة ان مهنة التدريس والتعليم جعلت منه قائدا تربويا ونقابيا لدفاعه المستمر عن الحقوق خاصة أنه عرف كقائد ملهم ان اثيوبيا تعمل جاهدة على «تجهيل الشعب الاريتري» فكان له دوره المناهض لهذه السياسة الخبيثة فعمل على إيصال الكثير من الطلاب في قريته الى مصر والسودان من اجل تأهيلهم بالعلم وكان للإخوان المسلمين دور حاضن في البداية وهو دور معروف في استقطابهم للجاليات.

تأسيس جبهة التحرير الاريترية:

كونه عاملا في الحراك السياسي الاريتري المبكر عمل جاهدا عثمان سبي ـ رحمه الله ـ على تعليم ابناء اريتريا واستشعر اهمية وجوب كيان جبهوي ينضوي تحته هذا العمل المنظم فخرج من قريته صوب عصب وعمل مديرا لشركة «سفن رايز» وهي شركة اجنبية تعمل في تصدير واستيراد البضائع عبر ميناء عصب، ثم غادر عبر البحر الى اليمن ثم الى جدة ومنها الى العاصمة الصومالية مقديشو عام 1960 وهناك اسس «جمعية الصداقة الصومالية- الاريترية» وقويت علاقته مع الزعيم المرحوم بإذن الله ادريس محمد آدم وحصلا معا على جوازات ديبلوماسية تمنحها الصومال للاريتريين وانطلقا معا الى الاعداد لتأسيس «جبهة التحرير الاريترية» التي رسمت خارطة طريق جديدة للنضال السياسي الاريتري وما تلا ذلك من بطولات بدأت الخطوات في السعودية ومصر وكانت خطوات سبي تعتمد على اللقاء مع الجاليات الاريترية في المهجر وكانت القاهرة كعادتها حاضنة لهذه الحركة السياسية النشطة «للطلاب الاريتريين الابطال» مما يعني انبثاق ثورة شعبية مسلحة تدعو لتحرير اريتريا تيمنا بجبهة التحرير الجزائرية في نوفمبر عام 1960 وعهدت هذه الجموع الطلابية للزعيم الاريتري الوطني ادريس محمد آدم رئيسا وادريس عثمان قلايدوس سكرتيرا عاما وعثمان سبي مسؤولا للعلاقات الخارجية وشؤون الثورة وبهذا التشكيل بدأت انطلاقة اول مؤسسة سياسية اريترية تتبنى الكفاح المسلح ضد الاثيوبيين طريقا للاستقلال.

عواتي الرمز الخالد:

اذا كتبت ان رائد الديبلوماسية الاريترية الاول عثمان سبي وهو المعلم والزعيم فهذه هي عين الحقيقة غير ان فارس الرصاصة الاولى الرمز الخالد في قلوب الاريتريين وكل احرار وثوار العالم هو المجاهد (حامد ادريس عواتي) هكذا نحسبه ولا نزكي على الله احدا، هو الذي اطلق الرصاصة الاولى في صبيحة يوم الجمعة 21 ربيع الاول 1381هـ الموافق الاول من سبتمبر 1961.

على الجيل الارتيري الحالي ان يعلم ويحق لهم ان يفخر ويجاهر بهذا الفخر ان في التاريخ الارتيري ابطالا بعلو قمم الجبال شموخا ورفعة وعزة منهم القائد عواتي ورفقته السبعة العظام الذين رفعوا السلاح واطلقوا شرارة الثورة الباسلة.

مما لا شك فيه ان القائد عثمان سبي وادريس محمد ادم وعثمان قلايدوس وابراهيم سلطان وكبيري وهيلي مريام ولد أب وغيرهم كثير يستحقون ان يكونوا في قلوب الارتيريين لانهم الرموز الخالدة على درب الثورة المسلحة.

وهنا اود ان ابين حقيقة تاريخية ان الآراء اختلفت حول مصدر السلاح، قيل انه تم شراء السلاح من السوق اليمني قبل 7 اشهر من انطلاق الثورة وقيل انها من العراق من «المقبور» عبدالكريم قاسم، وانا اعتقد ان المصدر من اليمن وعدن تحديدا وكانت عبارة عن 5 بنادق من طراز ابو عشرة ماركة 4 ومعها 5000 آلاف رصاصة و7 مسدسات ومع كل مسدس 42 رصاصة.

وهكذا تطورت الثورة المسلحة بقيادة حامد ادريس عواتي من تصعيد النضال في «معركة تقوربا» التاريخية، وكان لسبي دور مساعد لاستاذه في بدء مرحلة جديدة لسياسة تكتيكية ديبلوماسية اشعل فتيلها القائد سبي ما بين عدن ودمشق وبيروت في محورين للحصول على الدعم السياسي والعسكري وايضا الاعلامي مستغلا محطة بيروت التي شهدت شراء «مسدسات وقنابل يدوية» في رؤية استخدام جديدة تملثت في انزال العقاب الارتيري على الكيان الاثيوبي وهز صورته وصدمه بهزة نفسية وهو التاج المتعجرف باسم «الامن الاثيوبي» القوي، فكانت عملية تفجير طائرة الركاب الاثيوبية من طراز بوينغ 707 في مطار فرانكفورت بألمانيا الغربية ضجة اعلامية هوت بالكيان الاثيوبي وستاره الحديدي وبلغت خسائر اثيوبيا ما يعادل 15 مليون دولار، وهكذا استطاع عواتي وسبي ورفاقهما ان يحولوا الثورة الارتيرية الى واقع ،فبدأت الدول تهتم بالشأن الاريتري خاصة ان اوضاع اريتريا الداخلية من متطلبات حياتية وتعليم وصحة وشؤون اجتماعية شبه معدومة، كذلك بدأت المنظمات العربية والاسلامية المتخصصة تطرح حقوق الانسان الاريتري في ظل الاحتلال الاثيوبي الغاشم، بل هناك مؤتمرات عقدت من منظمات شعبية عربية واتحادات نقابية في كل المجالات وكلها تهدف الى مساعدة الشعب الاريتري وثورته العملاقة، وهكذا فتح باب مساعدة آلاف من الاريتريين لتلقي العلم والمعرفة.

كتبه:

أثرى الزعيم عثمان صالح سبي المكتبة الاريترية بمجموعة من الكتب، وأنا أعترف ابتداء بأنني تأثرت كثيرا بكتبه التي شكلت ثقافتي ومعرفتي بتاريخ الشعب الاريتري، وقد سعدت بلقائه في الكويت اكثر من مرة.

اهتم عثمان صالح سبي بالكتاب الاريتري كونه أحد المثقفين الاريتريين، واستطاع بحنكته وألمعيته ان يكون الموثق الأول مع زملائه الآخرين مثل الاستاذ محمد سعيد نادر- رحمه الله- وغيره، ونواة لطليعة واعية ألفت الكتب والمراجع عن اريتريا وتاريخها، وقد اعتبر كتابه «تاريخ اريتريا» من أهم المراجع عن تاريخ اريتريا بالاضافة الى أربعة مؤلفات أخرى قيّمة، وهي: (جغرافيا اريتريا، علاقة السودان بإثيوبيا عبر التاريخ، الصراع في حوض البحر الأحمر عبر التاريخ، وجذور الخلافات الاريترية وطرق معالجتها).

لقد ترك أستاذنا عثمان صالح سبي - رحمه الله - عشرات من الدراسات والمقالات والمقابلات في الاعلام العربي وصحفه ومجلاته، وأرى اليوم ان تحفظ هذه الكتب وتجمع في مؤلف كبير اضافة الى ما تركه من إرث توثيقي ذكرته عبر لجنة تدرسه وتقدم فيه مرجعا شاملا للأجيال الاريترية التي آن الأوان ان نفخر بتاريخها وتاريخ قادتها، وعلى رأسهم عثمان صالح الانسان والقائد والرمز.

عثمان كما عرفته:

هو معلم مثقف محب لأمته العربية، قومي التوجه، معتز بدينه، فخور بإريتريته، رافض للانتماء الى أي كيان خارج هوية اريتريا التي احبها وأخلص لها.

كان حريصا على إبراز الهوية الاريترية بكل حزمها وصرامتها واندفاعها الثوري وإقدامها على النضال دون تردد، وكان معلما واعيا بالفعل، ومدرسا يعلم ويوجه بكل طيبة الاريتري وعفويته وابتسامته وكرمه، وهو بحق يمثل الشخصية الاريترية المتواضعة، ولم ألقه مرة في حياتي إلا باسما، وهو الذي يحمل هما في قلبه لا يعلمه الا الله.

كان يلبي دعوات الجميع، وكان ديبلوماسيا فذا، له علاقات واسعة سخرها لخدمة بلده اريتريا، ناضل وجاهد وتعب، كما كان لبقا متفهما لخصومه السياسيين.

كان بصدق موسوعة ثقافية ملما بالثورات والحروب قارئا للتاريخ وراصدا له، يقرأ كل شيء، وكان في حياته في سباق مع الزمن، كما كان رحمه الله يحرص على قراءة القرآن كل فجر، وهو بكل صراحة واحد من القادة الاريتريين التاريخيين.

وفاته:

توفي في أرض الكنانة القاهرة التي أحبها مثلما عشق دمشق الفيحاء في 1987/4/4 بعد ان أجرى عملية في «الجيوب الأنفية» وأمضى ثلاثة ايام في العناية المركزة توفي بعدها ودفن في مقابر المحجوب بالسودان، وفي موكب مهيب يليق به كقائد اريتري وبطل سجل اسمه في سفر التاريخ الاريتري، وقد شاركت قيادات اريترية وسودانية ومنظمات مهنية ونقابية وسياسية كثيرة في جنازته، واكتفى الشعب الاريتري في المهجر بالصلاة عليه (صلاة الغائب)، والدعاء له بظهر الغيب بعد أن قام بواجبه.

تعزية:

أنا هنا أعزي الشعب الاريتري الشقيق في وفاته خاصة زوجته الفاضلة «أم فراس» وهي من سورية الدامية اليوم، وهي من أسرة عربية عريقة، جدها كان رئيسا للوزراء، ونجله فراس وابنتاه.

كان، رحمه الله، يقول: أتمنى ان اقضي رمضان كاملا مع أسرتي، ومات ولم يتحقق له ذلك.. رحمك الله يا أبا فراس، زرعت في الدنيا لتحصد حب شعبك وأمتك، ومنزلك الجنة ان شاء الله.

فقيد الأدب:

الشاعر احمد سعد رثى الزعيم عثمان صالح سبي بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله في عام 1992 في قصيدة رائعة طويلة، اخترت لكم منها هذه الأبيات:

مضى عقد ثم بعد عقد

ولم يفقد أريجه الرند

فإن يكن قد طواه الثرى

فمازالت به تطرب البلد

فما أكثر المنشدين هناك

ولكنك أنت البلبل الغرد

صوت رشاش للسلام مغن

رصاصة كلمات اللسان الزند

ان التي شاقتك عن بعد

وساءك الذي قلدت القيد

طليقة حرة كما أردت لها

حتى نالها من اسمك السعد

غاداك غاد ما انفك منهملا

ولازم قبرك صادح غرد

تاريخ القائد عثمان صالح سبي السياسي:

في عام 2000م نشرت جبهة التحرير الإريترية ـ التنظيم الموحد في دول الخليج العربي كتيبا تاريخيا كتبه الاستاذ محمد عثمان علي خير بمناسبة مرور عامين على استشهاد الزعيم الإريتري البطل عثمان صالح سبي ووثقت تاريخه النضالي والسياسي ورؤاه وأعيد نشر هذا الكتيب لعل جيلا إريترياً من الشباب الواعدين يلتفت الى اهمية قراءة التاريخ الاريتري ونشره والاستفادة من حكمة القادة الاريتريين الاسطوريين الذين افنوا زهرة شبابهم كي تستقل اريتريا عن اثيوبيا ومنهم عثمان سبي، رحمه الله.

ويهمني هنا ان اوضح ان عثمان سبي ارتبط فكريا بقائده مفجر الثورة الاريترية المجيدة حامد ادريس عواتي وأطل بفكره الوطني الثاقب ليصنع بحق مكانه بين الرعيل الاريتري الاول.

مقدمة الكتيب:

صادف أمس الرابع من شهر ابريل لعام 1989 الذكرى الثانية لاستشهاد الزعيم الاريتري عثمان صالح سبي، وتأتي هذه الذكرى والساحة الاريترية تمر بمنعطف جديد، العدو الاثيوبي ينهزم عسكريا في اريتريا، تحررت معظم المدن، والجيش الإثيوبي محشور في مدن تعد على الاصابع، والجبهة الشعبية لتحرير تقراي تحرر اقليم تقراي بكامله وتعزل الجيش الإثيوبي الموجود باريتريا برا من قيادته الموجودة بأديس ابابا والشهور القادمة حبلى بكثير من المفاجآت.

الساحة الاريترية بكل فصائلها باستثناء الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا تمر بحالة انسجام وتنسيق، يكفي ان هناك حوارا بشكل مستمر وأخذا وعطاء في كل المجالات، والفصائل الاربعة قد ترسي موضوع تنسيق متقدم وربما قد يتوحد فصيلان في تنظيم واحد من الفصائل الاربعة لكن التنسيق المتقدم مع الفصائل الاخرى قائم ومبني على أسس التفاهم، على الاقل هذا هو الموجود، ولا يمكن تحقيق حلم الوحدة في ظل تمسك الآخرين بالتنسيق.

زعيمنا الراحل في ذكراك العطرة نسرد هذا الموجز والتنظيم الذي ناضلت من اجله وأعطيته الكثير من فكرك وعملك مقبل على عقد مؤتمر وطني عام من اجل ترسيخ وتأطير هذا التنظيم ودفع عجلته الى الامام.

وفي هذه الذكرى كدأبنا في المرات السابقة يصدر كتيبنا عن مكتب الخليج، اسهم في كتاباته المناضل محمد عثمان علي خير.

والمناضل محمد عثمان علي خير صاحب قلم رصين ساهم ومازال يسهم بقلمه دفاعا عن وطنه، وقد عاصر الشهيد عثمان صالح سبي وهو طالب بالعراق، وعامل نشط في اطار الحركة الطلابية الاريترية ثم عاش قريبا منه وهو متفرغ للعمل النضالي اليومي.

ونحن في مكتب الخليج نعتز بهذا الاسهام وهذا التناول الجميل الذي يتسم بالموضوعية وحشد الحقائق التي قد تغيب عن بال الآخرين بحكم مرور الزمن عليها.

ومكتب الخليج لا يكتفي بإصدار هذا الكتيب فقط، بل يسعى الى جمع كل الوثائق المرتبطة بنشاطات الشهيد عثمان صالح سبي حفاظا على مكتسبات الثورة والتاريخ.

مكتب الخليج العربي في 1989/4/4.

الذكرى والعبرة:

ارتبط المناضل الشهيد عثمان صالح سبي بالنضال الوطني الاريتري منذ الفجر الاول لانطلاقة سبتمبر المجيدة بقيادة المجاهد الكبير حامد ادريس عواتي تحت راية «جبهة التحرير الاريترية» ويعتبر شهيدنا بحق من الرعيل الاول الذين حملوا هموم الشعب الاريتري ومعاناته وتطلعاته التاريخية والحضارية، وأطل بفكره الوطني الثاقب ووعيه الحضاري والسياسي والثقافي المبكر في صياغة الكفاح المسلح وتطويره نحو «حرب التحرير الشعبية» الواسعة ومن خلال معايشته للثلة الاولى للجيش الاريتري وارتباطه المنتظم بالخلايا الثورية داخل اريتريا وتوجيهها وتأطيرها ضمن الاعداد والاستعداد لمواجهة المراكز العسكرية وتجمعات العدو في انحاء اريتريا.

تمكن من خلق جسم منيع لجبهة التحرير الاريترية، وإشاعة الروح الوطنية المتوثبة الرافضة للوجود الاستعماري الاثيوبي الى جانب انه وقف في ابراز جوانب الطهر الثوري والالتفاف حول راية الوطن الاريتري، وكانت مرحلة الستينيات منذ عام 1962-1967 اخطر وأدق مرحلة مرت بها الثورة الاريترية، حيث التكالب الاستعماري وهيمنة امبراطور اثيوبيا على الوضع الافريقي، وصلاته القوية مع الامبريالية العالمية، وفوق كل هذا اكتساؤه الكهنوتي واعتباره واجهة للصلبية العالمية في افريقيا، ان كل هذه العلاقات والاجواء المعادية للثورة وفي باكورة أعوامها الاولى كانت تفرض وجود قائد تاريخي للثورة الاريترية، ولذلك فإن مسؤولية عثمان باعتباره «سكرتيرا لشؤون الثورة الاريترية» وفي تلك المرحلة الدقيقة يمثل النقلة التاريخية المهمة لنضال الشعب الاريتري، حيث عبر عثمان بفطنته وحنكته السياسية بالثورة الى مواقع الامان والضمان لخروج الثورة من لحظات الانكسار وانطفاء الجذوة الثورية المتقدة في ربوع اريتريا وشعبها المجاهد، وبعد ان تمكن عثمان من الاسهام الفاعل مع رفاقه في وضع الاسس الثورية والخطوات العملية وعاش التطبيق المعاش لعمليات «جيش التحرير الاريتري» في الداخل، تطلع الى ان يخرج بالثورة الاريترية الى الآفاق الخارجية، وبطرح القضية الاريترية وقانونيتها وعدالتها والظلم الواقع على شعب اريتريا، بسبب الوجود الاستعماري الاثيوبي، وقدم الثورة في إطارها العربي والاسلامي للشعب السوداني الشقيق. ويمكننا ان نقسم الانطلاقة الخارجية الى ثلاث مراحل:-

المرحلة الأولى - بدأت من عام 1962 إلى 1965:

وارتكزت المرحلة الاولى في توجه الشهيد عثمان صالح سبي الى بناء وإقامة عمق استراتيجي للثورة الاريترية في السودان الشقيق، وقد بذل جهدا عظيما في هذا المجال، حيث قدم الثورة الاريترية بإطارها العربي والاسلامي للشعب السوداني وضمن أحزابه وقواه السياسية الفاعلة، ووجد الاصغاء الواعي والتفهم لطبيعة القضية خاصة ان تلاحم الشعبين وتراحمهما وترابط مصيرهما كل ذلك قد لعب دورا كبيرا في ترجمة ذلك الجهد المبذول من قبل الشهيد الى عطاء وزخم ثوري متدفق امن للثورة الاريترية العمق الاستراتيجي الثابت والتفاعل الجماهيري الداعم والمحتضن للثورة وعدالة قضيتها القائمة على الحق الراسخ، وكان هذا اهم حدث تاريخي حقق للثورة انجازات هائلة على المدى البعيد وعكس اهمية القضية الاريترية وثقلها الاستراتيجي في المنطقة، الى جانب اهمية انتصارها لحماية ظهر الامة العربية من المخططات الامبريالية والصهيونية التي تطلعت لاتخاذ اريتريا قاعدة استعمارية متقدمة ومركزا تتآمر من خلاله لضرب الوجود العربي وزعزعة الامة والاستقرار في افريقيا.

ان تأمين العلاقات السودانية - الاريترية واعطاءها وضعا استراتيجيا متقدما لمصلحة الشعبين مثلا الافق السياسي المستنير في توجيهات الشهيد التي نعيش نتائجها المثمرة في الوضع السياسي الراهن في السودان، كما تمكن الشهيد بنفس الروحية الثورية والفعلية «الاستراتيجية» ان يتقدم الى الاشقاء في المملكة العربية السعودية وفي تلك المرحلة وجد الاستجابة والدعم والتأييد من موقع حماية المملكة للوجود الاسلامي في اريتريا، ونذكر هنا كيف هيأت المملكة للعمل السياسي الاريتري في بلادها، وساهمت في تجميع المساعدات المادية من ابناء شعبنا مع قلتهم آنذاك، كما ساهمت بعض الشخصيات الاسلامية ودوائر الدولة في توفير كل أشكال الدعم وتقديمها لثوار اريتريا، وهذا راجع للجهد والتفاني الذي مثله دور عثمان سبي الشهيد في تلك المرحلة الاساسية من نضال شعبنا.

المرحلة الثانية - بدأت من 1965 إلى 1971:

ترتبط هذه المرحلة بالانطلاقة القوية والنافذة في الرحاب العربي من عام 1965 ـ 1971، حيث تطلع «الشهيد» الى سورية باعتبارها أحد المنافذ العربية المهمة ومركز النبض القومي العربي آنذاك، وتقدم الى القوى السياسية في سورية ـ وإلى الشعب العربي السوري ـ بالانتماء القومي العربي لثورة اريتريا وما يتعرض له الشعب العربي الاريتري من محاولة مسخ لحضارته العربية ووجوده الوطني بفعل التوسعية الاثيوبية ومن خلفها الامبريالية والصهيونية فاستجابت سورية ودون تردد للقضية وعدالتها، وتفاعلت الى حد ان الرئيس حافظ الأسد قد أبدى استعداده للتطوع من أجل النضال مع الثورة الاريترية، وكان هذا فتحا عظيما للثورة الاريترية، اذ تحول القطر العربي السوري الشقيق بكل فئاته الاجتماعية والسياسية الى خندق متقدم للتعريف بالنضال الوطني الاريتري، ومشروعية الكفاح المسلح بقيادة (جبهة التحرير الاريترية)، وفتحت سورية مستودعات الجيش السوري، ووظفت أعلامها وعلاقاتها العربية والدولية ودخلت في مواجهة سياسية واسعة مع النظام الإقطاعي في اثيوبيا، بل وصل بها الأمر الى ان حددت علاقاتها مع كثير من الدول العربية والافريقية من خلال موقفها من الثورة الاريترية، وتمكن عثمان سبي من كسب دورة عسكرية في سورية في جميع الأسلحة، والتي رافق اكتمال أعدادها أول شحنة من السلاح تصل بشكل رسمي من الدولة السورية في عام 1964 الى الخرطوم، والتي استقبلها سبي وتعرض بسبب انكشافها الى الاعتقال المؤقت من قبل السلطات السودانية، ومن المؤكد ان هذه النقلة التاريخية المتميزة في المجال العربي ومن خلال سورية، وضعت الأساس القويم لعلاقات الثورة الاريترية بمجمل قوى الثورة العربية في المنطقة، ومكنتها من اختراق جدار الصمت الذي أحاط بالثورة الاريترية، وهذه من ضمن مكارم عثمان سبي وإنجازاته مع رفاقه الذين واكبوا معه العملية الثورية في كل مجالاتها الرحبة، كما ارتبطت هذه المرحلة بإنجاز تاريخي مهم وكبير، وهو تلاحم الشعب الصومالي الشقيق وحكومته الوطنية مع الثورة الاريترية وتبني الصومال (القضية الاريترية) في جميع المحافل الدولية، وتأسست لأول مرة في افريقيا «رابطة الصداقة الصومالية ـ الاريترية»، والتي تحولت بالفعل الى أداة تعبوية جماهيرية للشعب الصومالي واستنهاض للشعوب الافريقية ضد القوى الاستعمارية وأداتها التوسعية في اثيوبيا، واصبحت الصومال المركز الافريقي الأول في الدعم وتبني القضية، كما أصبح لسورية المركز المتقدم في الوسط العربي لتأمين رصيد عربي داعم للقضية والثورة الاريترية، ولا ننسى هنا دور عثمان سبي في المجال القومي العربي، حيث انه ساهم وواكب شرارة «الثورة الفلسطينية» في هذه الفترة التاريخية خاصة «حركة التحرير الوطني الفلسطيني ـ فتح» ويعرف القادة التاريخيون للثورة الفلسطينية ما قدمه عثمان سبي وما ساهم به في ظل معاناة الثورة الفلسطينية ورفضها من قبل بعض الأنظمة آنذاك، ويكفي ان الدمين الفلسطيني والاريتري قد امتزجا في معركة «الكرامة» عام 1971 والتي قاتل فيها الاريتريون مع اخوانهم الفلسطينيين لحماية مراكز الثورة الفلسطينية، وقد اثمرت تلك العلاقة النضالية التي أرساها عثمان سبي في توطيد علاقة الثورتين وتطويرهما على أسس استراتيجية تعمق توجههما التحرري في التصدي للقوى الامبريالية والصهيونية، وخلال هذه الفترة ارتقى «الشهيد» بعلاقات الثورة الاريترية بعلاقات أوثق وأقوى مع «الثورة الليبية» التي حملت في طياتها هموم القوى الثورية العربية وفي مقدمتها «الثورة الاريترية»، فكان لقاء «القذافي ـ وسبي» في تلاحم ثوري مفعم بمشاعر الاخوة والمصير المشترك، قوة دافعة وفعالة للإنجازات والانتصارات العسكرية والسياسية التي حققتها الثورة الاريترية، وبحق ان القيادة الليبية، خاصة العقيد معمر القذافي، قد تبنى الثورة الاريترية شخصيا في المحافل الدولية، بل طرح الوفد الليبي عام 1970 في مؤتمر وزراء خارجية الدول الافريقية عدالة «القضية» والاعتداء الاثيوبي على حقوق الشعب الاريتري.

وعندما رفض الوزراء الافارقة مناقشة القضية انسحب الوفد الليبي وحمل النظام الاثيوبي مسؤولية ما يترتب على ذلك، وينطلق عثمان سبي في بناء وترسيخ علاقات الثورة الاريترية في الاقطار العربية بمرونة اتسمت بالوعي الاستراتيجي الوضاء، ما أدى الى محاصرة العدو الاثيوبي خارجيا وافتضاح الدور الاستعماري الذي تقوم به اثيوبيا على حساب القوى الدولية الامبريالية، وبرز دور القطر (العراقي الشقيق) الذي لا مثيل له في التلاحم والرؤيا القومية الساطعة تجاه النضال الاريتري، وأصبح همّ القيادة التاريخية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق الانتقال بالثورة الاريترية الى مراحل تحسم فيها صراعات مع العدو الاستعماري الاثيوبي، وتؤمن من خلال ذلك الظهر العربي في البحر الأحمر من الوجود الامبريالي والصهيوني.

وحظي عثمان سبي بثقة القيادة ودعمها، والتي وقفت معه في كل المحن والمؤامرات التي تعرض لها تنظيم «جبهة التحرير الاريترية» وحتى عام 1978 انعكست علاقات الطرفين بنتائج غيرت موازين القوى لصالح الثورة الاريترية وأهدافها التحررية.

المرحلة الثالثة - بدأت من 1973 إلى 1985:

تتميز باللمسات التاريخية التي خلدها عثمان سبي في علاقات الثورة الاريترية بالقوى العربية والافريقية والدولية والتي تجسد المداخل الراسخة لعلاقات الثورة والرصيد الضخم الذي أصل علاقات الثورة الاريترية بالقوى العربية وهنا تطل ثورة اريتريا بأفقها الاستراتيجي للصراع الدولي في البحر الأحمر، ويتقدم الشهيد الى دول الخليج العربية خاصة دولة الكويت الشقيقة ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر ودولة البحرين، ودخلت دول الخليج في الثورة الاريترية بثقليها الدولي والمادي في دعم ونصرة حق الشعب العربي في اريتريا ووفرت كل الامكانيات التي تمكن الثورة وتدفعها الى الامام. واندفعت دولة الكويت الشقيقة في تأييدها الحازم في طرح القضية الاريترية امام الجمعية العامة للأمم المتحدة (1981م) مخترقة بذلك معادلة التآمر الدولي ضد قضية اريتريا القائمة على مواثيق الأمم المتحدة وتحت اشرافها وضع الاتحاد الفيدرالي عام 1952.

وضمن هذه المرحلة اخذ المجال الدولي المعادي لنهوض الشعب الاريتري لاستعادة حقوقه وحماية كيانه الوطني من التسلط الاثيوبي الغاشم، خاصة ان طرح القضية في هذا المجال قد تضافر بفعل المتغيرات التي عسفت بالكيان الاثيوبي وارتهانه للمعسكر الشرقي ونجح في توظيف هذه المتغيرات لصالح القضية الوطنية وسعى الى كسب الرأي العام الاوروبي من خلال توضيح الوجه الفاشي الاستعماري لنظام «منجيستو» واتصل بالاحزاب الايطالية، وكون ايطاليا مستوعبة للقضية باعتبارها احدى مستعمراتها والتي قاومت في الأمم المتحدة ضمها الى اثيوبيا فوجد عثمان سبي كل القبول وفتحت امامه آفاق جديدة ما جعله يقيم مركزا اعلاميا كبيرا في روما وضمن هذا الانجاز والموقع الاعلامي اتجه الى فرنسا والى الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي تفهم الموقف الوطني الاريتري لأحقيته في تقرير مصيره ودعم الشهيد خطواته الثابتة بمخاطبة العالم الحر في اوروبا بالحقائق الموثقة وبالطرح الديموقراطية المدرك لابعاد الصراع في هذه المنطقة، وانعكاسات هذا الصراع على المصالح الاوروبية الحيوية، ما دفع المنظمات والاحزاب والمؤسسات الاوروبية الى المبادرة بتوضيح مطالب الشعب الاريتري للرأي العام الاوروبي، بل وأطل على بريطانيا بخلفية القضية وقانونيتها الدولية واقام رابطة «الصداقة الانجليزية - الاريترية» مع اهم الشخصيات واللوردات في المجتمع البريطاني ونجحت هذه الرابطة في طرح القضية في الاعلام البريطاني الذي كشف معاناة الشعب الاريتري، في كل المجالات الخارجية، ولا يفوتنا هنا مكاسبه في الدول الافريقية مثل السنغال ودول المغرب العربي، خاصة تونس التي اعتلت الافق في دعمها السياسي للثورة الاريترية اذ انها اول دولة عربية تتعامل مع مكتب جبهة التحرير الاريترية كسفارة واحاطته بحصانة ديبلوماسية واسعة ونشيد بنجاح عثمان سبي في المغرب العربي حيث أمن علاقة الثورة بالاحزاب المغربية الذي هيأ اعتراف الحكومة المغربية الكامل بالقضية الاريترية والدفاع عنها في المحافل الافريقية، اننا مهما حاولنا ان نعكس انجازات عثمان سبي وروابطه في المجال السياسي الخارجي والدولي لا نستطيع ان نوفيه حقه، ولكن عزاءنا الوحيد يتمثل في دعم وتطوير وتأمين الرصد العظيم الذي خلفه للثورة الاريترية والذي سيظل من المؤشرات التاريخية التي تجسد الزعامة السياسية الوطنية المتفردة للمجاهد «الشهيد» ونحن اذ نذكر الشيء القليل لانجازاته في هذا المجال نتطلع الى ان يأخذ قادة الثورة ورفاقهم بالمنهج السياسي العقلاني الذي كان يعتمده عثمان سبي في حضور القضية والثورة في ذهن الرأي العام العالمي، وفي هذه المناسبة التي يحتفل فيها تنظيمنا بمآثر عثمان سبي نتوجه الى كل قوى الثورة الاريترية حتى تستوعب طبيعة الصراع الدولي وان ادارته ومواجهته في ظل غياب المبادرات الحية التي كان يجسدها سبي من الصعوبة بمكان ان تتحقق الا بوحدة فصائل الثورة الاريترية، صحيح ان سبي قد اهلته امكانياته الذاتية ونبوغه السياسي للتغلب على كل المصاعب التي واجهت الثورة وصحيح انه قد تهيأت له ظروف سياسية محلية واقليمية وظفها لصالح القضية وليس من الصعب ان تتهيأ لغيره الا ان الأصح فوق كل هذا تمتع سبي بوضوح رؤيا كاملة لطبيعة النضال الاريتري ومداخلاته الاقليمية والدولية واختار لنضاله موقعا سياسيا ثابتا فتح الطريق امامه لتحقيق تلك الانجازات الكبيرة وهذا ما نطمع ان يتمتع به من يسير على طريق عثمان سبي ونحن واثقون من ان ثورة اريتريا وشعبها الجسور قادرون بعون الله تعالى على ان يقدموا للعالم القادة الافذاذ الذين يساهمون في صنع السلام العالمي وتوطيد الحضارة الانسانية.

كتيب تاريخي يخدم المكتبة الاريترية ومع الزيادات التي اعرضها في هذا التقرير يكون هذا كتيبا الكترونيا جيدا نعرضه لهذا الجيل ليتعرف على قادته التاريخيين والذين كان من ابرزهم عثمان سبي، رحمه الله، الذي قاد النضال السياسي وأعطاه زهرة شبابه وآن الأوان اليوم ان يكرم.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click