لمحات من حياة الشيخ المجاهد إدريس محمد آدم مندر
بقلم المناضل الأستاذ: محمد سعيد عنطاطا
إدريس محمد آدم (1922–28 أغسطس 2003) أكبر قادة النضال الإرتري من أجل التحرير،
ومؤسس جبهة التحرير الإرترية.
ولد الشيخ ادريس في منطقة أغردات بالمديرية الغربية في ارتريا في العام 1922 لأب كان يمتلك ثروة حيوانية بسيطة ويعمل في الزراعة الموسمية في منطقة بركة، وقد أضطر الأب لمغادرة أرضه عندما ساءت ظروفه المعيشية مصطحبا زوجته وأبنيه ادم وادريس الى السودان حيث التحق بأرطة العرب الشرقية (الجيش السوداني في ذلك الوقت) في القضارف كما فعل العديد من الإرتريين.
عاش الاخوين أدم وإدريس في القضارف في كنف والدهما وتلقيا التعليم الابتدائي بالاضافة الى التعليم الديني ومن ثم التحق الابن الأكبر ادم بمدرسة صناعية في الخرطوم وبقى إدريس مع والديه في القضارف. وفي العام 1936 عاد الأب الى مدينة اغردات مصطحبا أسرته الصغيرة. واصل ادريس تحصيله العلمي والديني على يد بعض الشيوخ والاساتذة في اغردات. واثناء الحرب العالمية الثانية التحق بالمحكمة الشرعية في أغردات ويفي هذه الاثناء تزوج وانجب أول ابنائه في العام 1943. اثر انتهاء الحرب العالمية الثانية خضعت ارتريا للادارة العسكرية البريطانية بعد هزيمة ايطاليا في الحرب. وكان من أهم التطورات السياسية في ارتريا بروز الحركة الوطنية ونمو الوعي السياسي بين ابناء الشعب الارتري وتأسيس الأحزاب السياسية ومن أهمها (حزب الرابطة الاسلامية) وصدور الصحف العربية وتوسع التعليم في مختلف انحاء الوطن بمساهمة بارزة من رجال التعليم القادمين من السودان الشقيق.
لعب الشيخ دورا هاما في النشاط الوطني وتولي قيادة فرع حزب الرابطة الإسلامية في المديرية الغربية كما شارك في المؤتمر التأسيسي للرابطة في مدينة كرن الذي انعقد تحت رعاية الزعيم الاسلامي السيد البكري في العام 1947، وقد اختار المؤتمر الزعيم/ ابراهيم سلطان علي سكرتريا للحزب، وكان من ابرز نتائج تأسيس الرابطة الاسلامية التي رفعت شعار استقلال ارتريا التام ان التف حولها غالبية الشعب الارتري واستطاعت أن تواجه الحزب الاتحادي الموالي لاثيوبيا والذي كان يعمل على الحاق ارتريا بالامبراطورية الاثيوبية من منطلق التعصب الديني وتحت تأثير الكنيسة التي كانت تدين بالولاء للأمبراطور هيلا سلاسي.
واثر عرض قضية ارتريا على هيئة الأمم المتحدة أرسلت المنظمة الدولية وفدين لتقصي الحقائق والوقوف على رغبات الشعب الارتري، وقد تحدث الشيخ امام مندوبي الامم المتحدة في اغردات مؤكدا على حق الشعب في تقرير مصيره بارادته الحرة رافضا التدخل الاثيوبي في شؤون ارتريا. وعندما اصدرت المنظمة الدولية القرار الاتحادي الذي قضى بربط ارتريا اتحاديا مع اثيوبيا بخلاف رغبات الشعب الارتريا وذلك تحت الضغط الامريكي، فقد رأى القادة الوطنيون التمسك بتنفيذ القرار الدولي تنفيذا سليما والحفاظ على ما تحقق من مكاسب تمثل الحد الادنى من مطالب الشعب وذلك باقامة حكومة ارترية مستقلة ذاتيا وبرلمان ودستور حديث وعلم وطني والاصرار على اقرار اللغتين العربية والتجرينية لغتين رسميتين في ارتريا.
انتخب الشيخ ادريس عضوا في الجمعية التأسيسية التي وضعت الدستور ومن ثم تحولت الى برلمان في العام 1952 مع بدء تطبيق النظام الاتحادي.وفي داخل البرلمان مارس الشيخ مع زملائه من الاحرار دوره القيادي في الدفاع عن حقوق الشعب والتصدي لمخططات اثيوبيا وعملائها الرامية الى اضعاف الكيان المستقل لارتريا. وقد تمكنوا من انتخاب الشيخ رئيسا للبرلمان بعد ازاحة الرئيس السابق الموالي لاثيوبيا. وفي ظل رئاسة الشيخ للبرلمان لم تتنجح حكومة الامبراطور في تمرير مخططاته العدوانية فكان ان جندت عملائها للعمل على تنحيته من رئاسة البرلمان وقد قرر الشيخ ان يستقيل احتجاجا على التدخل الاثيوبي في شؤون ارتريا وبخلاف ما يقضي به النظام الاتحادي الا أن المستشار القانوني للبرلمان وكان من اوربا نصحه بعدم تقديم استقالته حتى تضطر اثيوبيا لاقالته مما يفضح تدخلها وخرقها للقرار الدولي. وبالفعل نجحتن اثيوبيا في اقالة الشيخ من رئاسة البرلمان ومن ثم فرضت أحد عملائها رئيسا له وسارت في مخططاتها الرامية الى ابتلاع ارتريا وانهاء النظام الاتحادي خطوة فخطوة. فبدأت بالغاء العلم الارتري الوطني وفرضت علمها مكانه، وقد تصدى الشعب في مظاهرات عارمة ضد هذا الاعتداء وقاد الشيخ مظاهرة الشعب في مدينة اغردات ولولا أن تصدى قائد الشرطة في المدينة لنفذ الجيش الاثيوبي مذبحة ضد المتظاهرين.
بقي الشيخ في اغردات يجمع حوله الوطنيين الاحرار ويتصدى لكل محاولات اثيوبيا وعملائها في فرض الهيمنة الاثيوبية الاستعمارية رغم التضييق عليه ومطاردة وسجن العناصر الوطنية. وفي العام 1959 قررت القيادات الوطنية في ارتريا أهمية ارسال وفد الى الخارج يفضح مخططات اثيوبيا ويبرز صوت الشعب الارتري فكان ان تم اختيار الشيخ ادريس ومعه الشيخ ابراهيم سلطان علي ليمثلا الشعب الارتري ويطلبا له العون والعم من الدول العربية الشقيقة والدول المحبة للحرية والسلام. وقد اشرفت العناصر الارترية العسكرية في الجيش السوداني في كسلا على خطة الخروج المحكمة، فتم الامر سرا وعبر الوفد حدود ارتريا مع السودان بدون علم السلطات الاثيوبية التي لم تستطع كشف الخطة رغم جواسيسها المنتشرين في كل مكان. التقى الشيخ بالعسكريين الارتريين في الجيش السوداني في كسلا حيث بحث معهم تطورات القضية وأكد لهم أهمية الاستعداد للتضحية في سبيل الوطن عندما تحين ساعة العمل الثوري. وكان الشيخ قد التقى سرا في أغردات بالمجاهد البطل حامد ادريس عواتي واتفق معه على الاستعداد للعمل المسلح ضد اثيوبيا بعد تهئية الا رضية السياسية والمادية اللازمة لانطلاق الكفاح الوطني.
ومن السودان انطلق الوفد إلى مصر حيث استقبلته القاهرة ومنحت الشيخ ادريس والشيخ ابراهيم حق اللجوء السياسي وقدمت لهما دعما سياسيا ومعنويا ساعدهما في التحرك الى الدول العربية طلبا لدعم للقضية.وفي القاهرة التقى الشيخ المجاهد بطليعة الطلاب الارتريين الذين التفوا حول قيادته وقرروا تأسيس تنظيم سري ثوري باسم (جبهة التحرير الارترية) يناضل بالوسائل الثورية وفي مقدمتها الكفاح المسلح من اجل تحرير الوطن. وتشكلت قيادة التنظيم وعضوية كل من:-
• إدريس محمد آدم مندر — رئيس للجنة التنفيذية للجبهة التحرير الارترية،
• إدريس عثمان قلايدوس — خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة،
• محمد صالح حمد — خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة،
• سيد أحمد محمد هاشم،
• سعيد حسين — طالب بجامعة الأزهر،
• محمد سعيد عمر،
• أدم محمد أكتي — خريج جامعة القاهرة،
• ابراهيم إدريس،
ومن ثم انضم الى القيادة عثمان صالح سبي اثر لقائه بالشيخ في السعودية بالاضافة الى عثمان خيار.
أثمرت الجولات والزيارات التي قام بها الشيخ في تعبئة جماهير الارتريين في مراكز تجمعاتهم الرئيسية وخاصة السعودية والسودان فتوسع تنظيم الجبهة وامتدت قواعده داخل الوطن ونشط الجناح العسكري الممثل في العسكر يين الارتريين العاملين في الجيش السوداني في الاستعداد للعمل الثوري. في هذه الاثناء وقبل أن تكتمل الاستعدادات السياسية والعسكرية لانطلاقة الكفاح المسلح أضطر القائد البطل الشهيد حامد إدريس عواتي إلى المبادرة في اعلان الكفاح المسلح في منطقة (أدال) في غرب ارتريا تحت ضغط السلطات الاستعمارية التي كانت تتخوف منه وتعد لاعتقاله. كانت هذه البداية المتواضعة للعمل المسلح تعتمد على اسم القائد عواتي المعروف بين الارتريين بوطنيته وشجاعته ودافعه عن شعبه ضد المستعمر. لم يكن بيد عواتي ورفاقه من السلاح سوى بندقية انجليزية تخص القائد وبعض البنادق الايطالية القديمة. ازاء هذا الحدث لم يكن أمام قيادة التنظيم الوليد سوى الاستجابة الفورية والمسارعة بتبني نداء الكفاح المسلح ودعوة جماهير الشعب الارتري للالتفاف حول الثورة المسلحة وتقديم الدعم السياسي والمادي للمجاهدين.
فتدفقت التبرعات من الجاليات في الخارج وخاصة السعودية وبادر العسكريون الارتريون في الجيش السوداني في التوجه الى الميدان لدعم المقاتلين بخبراتهم القتالية والتنظيمية. وفي 1963 نقل الشيخ المجاهد اول دفعة من السلاح الحديث تم شراؤه في عدن من تبرعات الارتريين في السعودية عن طريق مطار الخرطوم بدون علم السلطات السودانية مستخدما صفته الدبلوماسية وتولى فرع الجبهة في الخرطوم نقل السلاح الى كسلا ومنها استلمته القيادة العسكرية ونقلته الى المجاهدين في الميدان. وفي هذه الفترة برز نشاط القائد المجاهد عثمان صالح سبي الذي تحرك بين فروع الجبهة في السعودية ومصر واليمن والسودان وفي الميدان حيث اهتم بتثبيت قواعد الثورة ووضع هياكلها التنظيمية وتنشيط العمل السياسي داخل الوطن.
لم يمر عام على قيام الثورة المسلحة في الريف الغربي حتى التحق القائد الشهيد عواتي بربه وبقي الخبر الجلل سرا من أسرار الثورة حفاظا على معنويات المقاتلين والشعب وحتى لا يستفيد العدو منه في حربه المعنوية ضد الشعب. وقد اثبت العسكريون القادمون من الجيش السوداني قدرتهم في ملء الفراغ الذي تركه القائد الشهيد.
وفي مجال العمل السياسي والدبلوماسي في الخارج تمكن وفد الجبهة برئاسة الشيخ يرافقه القائد سبي من زيارة جمهورية الصومال الوليدة حيث حصل الوفد على اول اعتراف اقليمي بالجبهة وتم افتتاح مكتب سياسي في مقديشو تحت اسم (جمعية الصداقة الارترية الصومالية) واستلم عثمان ادارة المكتب. وفي عام 1963 زار الوفد سورية التي استقبلته خير استقبال ووافقت على فتح معاهدها العسكرية لتدريب شباب الجبهة وقبلت عددا من الطلبة الارتريين في جامعاتها ومدارسها كما قدمت للجبهة أول هدية من السلاح الروسي الحديث بلغ عددها (19) رشاش كلاشنكوف تم نقلها مع أول دفعة من المتدربين الارتريين في دمشق الى الميدان في عام 1964.
وتواصلت الدورات العسكرية في سورية وتعمقت الصلات بين الجبهة وسورية التي وافقت على افتتاح أول مكتب سياسي للجبهة في المنطقة العربية ادى دورا اعلاميا وسياسيا هاما في ايصال صوت الشعب الارتري وكفاحه للعالم. وقد أشرف القائد المجاهد عثمان على ادارة هذا المكتب لعدة سنوات. تتابع اعتراف الدول العربية بالثورة الارترية وتدفق الدعم المادي والعسكري من العراق والسعودية والسودان والكويت وليبيا وعدد اخر من الدول العربية كما أن مصر قدمت دعما معنويا وسياسيا هاما. وفي داخل الوطن تطورت عمليات الجبهة من حرب العصابات في الريف الى العمليات الفدائية المنظمة داخل المدن حيث تم تصفية كبار العملاء والهجوم على مطار العاصمة أسمرة. اذ شهدت مدينة أغردات في 1962 أول عملية فدائية استهدفت ممثل الامبراطور في ارتريا وعدد من الوزراء العملاء، وجاء دور مدينة كرن التي احتضنت فدائي الجبهة مما مكنهم من تصفية عدد من أخطر جواسيس العدو. وقد قاد الفدائيين في المدن القائد البطل الشهيد سعيد حسين عضو قيادة الجبهة الذي نفذ عمليات فدائية جرئية في أسمرة انتهت باعتقاله ومحاكمته مع عدد من رفاقه وسجنه سنوات طويلة الى ان تمكنت الثورة من تحريره من السجن في السبعينات من القرن الماضي.
واثر التحاق الشباب الذين تدربوا في سورية بالميدان وتزايد عدد المتطوعين المتدفقين في الميدان من داخل ارتريا وخارجها فان قيادة الجبهة ممثلة في المجلس الأعلى الذي كان يرأسه الشيخ ادريس قررت تقسيم ارتريا الى أربع مناطق عسكرية يترأس كل منها قائد عسكري يساعده مفوض سياسي ومن ثم أضيفت منطقة خامسة، ساعد هذا التقسيم في سرعة التوسع الجغرافي والامتداد السياسي لعمليات جيش التحرير الارتري. وتطورت المعارك بين المجاهدين والعدو الاثيوبي اذ اشترك فيها لاول مرة الجيش الاثيوبي في معركة تقوربا الشهيرة في مارس 1964 حيث استشهد عدد من المقاتلين تحت التدريب وتكبد العدو خسائر فادحة. وقد اعتمد تاريخ هذه المعركة التي قادها المجاهد البطل/ محمد علي أبو رجيلة عيدا لجيش التحرير الارتري يحتفل به كل عام.
أحس نظام هيلي سلاسي الاستعماري التوسعي بخطورة عمليات الثورة وتوسعها في كافة أرجاء ارتريا وتزايد التأييد الشعبي للمقاتلين، فطلب العون من اسرائيل التي أنشأت مدرسة عسكرية في مدينة (دقي محاري) بالمرتفعات الارترية لتدريب القوات الاثيوبية على فنون مقاومة حرب العصابات، كما قدمت للجيش الاثيوبي السلاح والمساعدات الفنية وخاصة في مجال الامن. كما وأن امريكا دعمت مخططات حكومة اثيوبيا الاقطاعية ضد الشعب الارتري بعد أن تحالفت مع نظام هيلي سلاسي الذي منحها أكبر قاعدة للأتصالات والتجسس في شرق افريقيا في قلب العاصمة أسمرة والتي عرفت بقاعدة (كانيو ستيشن).
أدى اتساع نطاق المعارك داخل ارتريا وبروز صوت الثورة في الخارج الى تزايد الدعم العربي، ومن ثم نشطت قيادة الجبهة في التحرك في الساحة الدولية فزار وفد الجبهة هيئة الامم المتحدة بدعم من بعض الدول العربية والاسلامية حيث طلب من المنظمة الدولية التدخل في الوضع القائم في ارتريا باعتبار أنها صاحبة القرار الذي ربط مصير ارتريا باثيوبيا، الا أن الهيئة الدولية لم تحرك ساكنا نتيجة خضوعها للهيمنة الامريكية. وفي هذه الفترة استطاعت قيادة الجبهة أن تخترق الطوق السياسي والدبلوماسي الاثيوبي بتمكنها من زيارة الصين الشعبية التي استقبلت الوفد وأبدت ترحيبها بتدريب عدد من الكوادر العسكرية في معاهدها، كما أن حكومة كوبا فتحت المجال أمام بعثات من الشباب بغرض التدريب على فنون حرب العصابات.
وازاء هذه النجاحات السياسية والدبلوماسية وتجذر قوات الثورة في الميدان واتساع نطاق عمليات المقاتلين في مختلف ربوع ارتريا بادرت حكومة اثيوبيا الاستعمارية باعلان دمج ارتريا في الامبراطورية في 1962/11/14 والغاء النظام الاتحادي واخضاع ارتريا للحكم المباشر من اديس ابابا باعتبارها مقاطعة اثيوبية، فجاء رد الثورة حاسما برفض أي وجود اثيوبي في ارتريا والتركيز على المقاومة المسلحة لافشال مخططات العدو الاثيوبي.ولم تكتف اثيوبيا بهذه الخطوة الاجرامية فنظمت عمليات ابادة جماعية في الريف حيث قواعد الثورة مما اضطر الالاف من المواطنين الى ترك قراهم وممتلكاتهم واللجوء الى السودان في العام 1967 (الموجة الأولى) وفي 1970 (الموجة الثانية). وقد استقبل الشعب السوداني الشقيق عشرات الالاف من اللاجئين الارتريين خير استقبال واقام لهم المعسكرات ووفر لهم الامن والمعيشة الا ِأن تحركت هيئة غوث اللاجئين للقيام بواجبها الانساني تجاه اللاجئين.
في نهاية الستينات برزت مشاكل سياسية وتنظيمية وعسكرية داخل تنظيم الجبهة وفي صفوف جيش التحرير الارتري. فقد أفرزت تجربة المناطق العسكرية بعض السلبيات الأمر الذي ادى الى المطالبة بعقد مؤتمر وطني لتنظيم الجبهة يتولى معالجة هذه القضايا ويعيد تنظيم هيكل التنظيم بما يتماشى مع نمو قوى الثورة وتطورها، وقد شكلت عدة لجان تحضيرية للمؤتمر الا أنها فشلت في النهوض بالمهمة، فكان أن انعقد أول مؤتمر عسكري لجيش التحرير الارتري في (أدوبحا) في 1969 حيث قرر الغاء نظام المناطق العسكرية وتوحيد قوات جيش التحرير وانتخاب قيادة عسكرية ميدانية مكونة من (38) عضوا بقيادة القائد/ محمد أحمد عبده الذي تخرج من كلية ضباط الاحتياط في سورية ومعه مجموعة آخرى من اعضاء القيادة العامة لجيش التحرير والدعوة لعقد وطني للجبهة خلال عام. وتوالت الاحداث فكان أن قررت القيادة العامة حل (المجلس الأعلى للجبهة) وسارعت في تشكيل اللجنة التحضيرية المكلفة بالاعداد للمؤتمر الوطني الأول للجبهة. باشرت اللجنة التحضيرية عملها في 1970 حيث تمكنت من توجيه الدعوة لممثلي جيش التحرير وفروع الجبهة والقيادة التاريخية للجبهة لحضور المؤتمر الذي التأم في الريف المحرر في منطقة (آر) في 1971/10/14.
استمر المؤتمر الوطني في مداولاته لمدة شهر تقريبا رغم مقاطعة تنظيم (قوات التحرير الشعبية) بقيادة القائد عثمان صالح سبي المؤتمر، وفي ختام المؤتمر الذي شاركت وفود عربية تمثل الدول الشقيقة المهتمة بشؤون الثورة نذكر منها الصومال وسورية والعراق وفلسطين وبعض رجال الاعلام العرب والاوربيين. أقر المؤتمر البرامج السياسية والعسكرية والتنظيمية المقدمة له من اللجنة التحضيرية وانتخب قيادة جديدة للجبهة باسم (المجلس الثوري) ترأسها المجاهد الشيخ ادريس،وانتخب حروي تدلا بايرو نائبا للرئيس، بالاضافة الى لجنة تنفيذية برئاسة ابراهيم توتيل تعمل تحت قيادة المجلس الثوري.
لاقت قرارات المؤتمر قبولا واسعا من ابناء الشعب الارتري كما وجدت الاعتراف من الدول العربية الشقيقة والدول والمنظمات الصديقة الداعمة للثورة، الا أن تنظيم قوات التحرير الشعبية بقيادة القائد عثمان سبي اتخذ موقفا سلبيا من المؤتمر وقرارته وقيادته. فتعمق الصراع وتطور الى اشتباك مسلح فقد فيه العديد من المناضلين من الفصيلين المتصارعين وذهبت هدرا امكانات وطاقات كثيرة ووجد العدوالاثيوبي في هذا الصراع متنفسا من الحصار الذي فرضته عليه قوى الثورة وهي موحدة. ولولا عناية الله ومن ثم وعي الشعب الارترية لتحول قتال الأشقاء الى حرب أهلية ضروس تأكل الأخضر واليابس. وتعالت النداءات من الجانبين تدعو الى وقف الاقتتال وحقن الدماء والعودة الى الحوار بين الفصيلين سبيلا واحدا للخروج من الأزمة وتوحيد قوئ الثورة.
أدى الشيخ المجاهد ادريس دورا هاما في الدعوة للحوار الوطني الدمقراطي ووقف الاقتتال، فعرض على قيادة الجبهة المجتمعة في الريف المحرر في فبراير 1975 تبني مشروع الحوار الدمقراطي ووقف المعارك بين الارتريين.استجاب المجلس الثوري لهذه الدعوة وقرر ان يتم التعجيل بعقد المؤتمر الوطني الثاني للجبهة في أقرب وقت لطرح مشروع الحوار واجازته.وبالفعل انعقد المؤتمر الوطني الثاني في الريف المحرر وحضره المندوبون السياسيون والعسكريون من مختلف اجهزة التنظيم بالاضافة الى المجلس الثوري وعدد من الوفود الشقيقة والصديقة. وكان أهم بند في جدول أعمال المؤتمر وقف الاقتتال الداخلي وتبني مشروع الحوار الدمقراطي بين الجبهة وقوات التحرير الشعبية ومراجعة بنود البرنامج السياسي والعسكري والتنظيمي. وقد أقر المؤتمر دعوة الحوار الدمقراطي مع قوات التحرير الشعبية وأدخل تعديلات في البرنامج السياسي للجبهة وانتخب قيادة جديدة جاء على رأسها المناضل أحمد ناصر رئيسا للمجلس الثوري. أدى الشيخ دوره الوطني المشهود في المؤتمر ومن ثم أعلن موقفه في التنحي عن القيادة لافساح المجال أمام قيادات شابه وكفؤة وأكد وقوفه ومساندته لأية قيادة ينتخبها المؤتمر بالرأي والمشورة حتى تتمكن من انجاز المهام الوطنية التي يكلفها بها المؤتمر وخاصة انجاح الدعوة للحوار الوطني بهدف ايقاف الاقتتال وتوحيد فصيلي الثورة.وفعلا تم الاتفاق بين الفصيلين وعقد لقاء في الخرطوم بدعم من السودان الشقيق انتهى بتوقيع اتفاقية للوحدة. بارك الشيخ هذه الأتفاقية التي رأى فيها تجسيدا لجهوده في توحيد الصف الوطني وتجميع قوى الثورة.
تعثرت اتفاقية الخرطوم بين الفصيلين وأعقبتها اتفاقية ثانية بين الجبهة والجبهة الشعبية (الفصيل المنشق عن قوات التحرير الشعبية) ولم يكن حظ هذه الاتفاقية أفضل من الاتفاقية الأولى. فقد زادت الأنشقاقات في الساحة الارترية وتعددت الفصائل واتسع نطاق الاقتتال الداخلي الأمر الذي رأى معه الشيخ أن يلتزم موقفه الأول في الدعوة للحوار ونبذ الاقتتال وتجميع الصفوف ورفض أن يتخذ جانبا في هذا الصراع المدمر الذي انتهى بحروج جبهة التحرير الارترية من الساحة الارترية ولجوء قيادتها ومقاتليها الى السودان.
ومع تقدم الشيخ في السن ومعاناته الطويلة من المرض الذي استنفد قواه الجسدية الا أنه ظل يتابع تطورات الساحة ويحرص على أن يقدم النصح والمشورة لكل من يلتقي به.
وفي العام 1991 جاء التحرير ودخل الجيش الشعبي العاصمة أسمرة بقيادة الجبهة الشعبية تتويجا لنضالات الشعب الارتري وتضحياته الجسيمة وتحقيقا لأماني الشعب وقياداته الوطنية في تحقيق الاستقلال الوطني وطرد المستعمر من الارض الارترية. وفي العام 1993 شارك الشيخ المجاهد في الاستفتاء على استقلال ارتريا مؤكدا أن هذا الاستقلال يمثل الارادة الوطنية لكل ابناء ارتريا.
زادت وطأة المرض على الشيخ الصابر المحتسب المتمسك بايمانه وعقيدته الى أن لقي ربه في يوم الخميس 30 جمادي الآخرة 1424ه الموافق 28 أغسطس 2003 في المستشفى بجدة وتم دفنه في مكة المكرمة يوم الجمعة غرة رجب 1424ه بعد صلاة الجمعة.