ابراهيم سلطان غياب رجل... ورسوخ مبادىء

بقلم الأستاذ: محي الدين علي المصدر: ناود للكتاب

على الرغم من أن الفاتح من سبتمبر من العام 1987م، كان يوما عاديا وليس هناك مايميزه

سوى أنه يمثل العام التالي لليوبيل الفضي للثورة الإرترية التي انطلقت في الفاتح من سبتمبر من عام 1961 بقيادة الشهيد البطل حامد عواتي ورفاقه، كان يمكن أن يكون ذلك المساء عاديا لولا أن نعي الناعي للشعب الإرتري وفاة المناضل الكبير إبراهيم سلطان علي في مدينة القاهرة. لقد فاضت روح شيخنا الجليل إلى بارئها، أخيرا ترجل الفارس عن صهوة جواده بعد سنوات طويلة من النضال والكفاح والتشرد والاغتراب امتدت لما يقرب من نصف قرن (46 عاما) قضاها الرجل منذ نعومة أظفاره مناضلا عنيدا ضد مختلف أنواع الأحتلالات البريطانية والأثيوبية، حيث وفي وقت مبكر من مطلع الأربعينيات عندما أسس مع عدد من أخوانه ماعرف بأول تجمع سياسي إرتري في العام 1941 وهو "جمعية حب الوطن"، وتأسيس ذلك التجمع وفي ذلك الوقت المبكر كانت له دلالات وأبعاد هامة إذا علمنا أن معظم دول منطقتنا العربية والأفريقية لم تكن تضم أحزاب وتجمعات سياسية فاعلة، لذا يمكن أن نقول وبثقة أن المرحوم إبراهيم سلطان وإخوانه كانوا على درجة كبيرة من الوعي والإدراك لأهمية العمل الوطني، وأيضا كانوا على درجة كبيرة من تقديرهم لضرورة العمل الوطني الجاد الذي يمكن أن ينتشل شعبهم وبلدهم من منحدر السياسات الاستعمارية التي عملت على طمسه وإذابة كيانه.

أن ألإمبراطور الأثيوبي هيلي سيلاسي كان واعيا لخطورة مايمكن أن تتمخض عنه مثل تلك التجمعات الوطنية، فقد عمل وبكل الوسائل الرخيصة على زرع الفتن واستقطاب بعض من العملاء وضعاف النفوس من أجل نسف وتقويض عمل تلك الجمعية، ومع ذلك كانت وقفتهم قوية وصلبة حيث تحطمت على صمودها أحلام الإمبراطور والاستعمار البريطاني : وفي هذا الصدد يقول الشيخ إبراهيم سلطان:

(كنا نعمل من أجل الوطن ومن أجل الحفاظ على وحدته وتماسكه وعدم زرع بذور الانشقاق الطائفي الذي كانت تسعى إليه القوى الاستعمارية التي لها مصلحة مباشرة في أضعاف عملنا ذلك، فقد بدأت الكثير من الأموال والمواد التموينية تقدم لحزب الانضمام إذ قدم له "فلورنزو تأزار 2.5 مليون جنيه أ أسفها ولدميكائيل 2 مليون جنيه، داويت عقبازقي 205 مليون، وفيما بعد تم التخلي عن الأموال وبيع المواد العينية كالبن، القمح، الطاف، وتقديم ثمنها للحزب).

لقد كانت نتيجة تلك الاختراقات لـ "جمعية حب الوطن" نسفها وحرفها عن الخط الوطني الذي رسم لها، ومع ذلك لم يكن تقويض التجربة عامل إحباط لشيخنا الجليل إبراهيم سلطان لإثنائه عن العمل ومواصلة عطائه الوطني، فقد عمل وبجدية لخلق كيان إرتري مستقل وان كان بنفس الأهداف المعروفة والمعلنة لجمعية حب الوطن، وكان ذلك في عام 1946م، وهو ماعرف بـ "الرابطة الإسلامية"، وقد مرت صياغة أهداف برنامج الرابطة الإسلامية بمرحلتين: الأولى كانت في الثالث من ديسمبر 1943م في مؤتمر كرن، ويمكن تلخيص الصياغة الأولى على النحو التالي:-

1. أن تحصل ارتريا بحدودها المعروفة على أستقثلالها.
2. أن تبقى ارتريا تحت وصاية الأمم المتحدة أو الإدارة البريطانية إلى حين اكتساب الارتريين التجربة الإدارية.
3. تحصل ارتريا على الاستقلال فور انتهاء الوصاية.
4. إقامة نظام حكم يتمشى مع ظروف البلاد.

وبعد أن أتفق عدد كبير من قيادات حزب الرابطة على هذه المقترحات عقد مؤتمر أخر وللمرة الثانية في الفترة 20 ـ 21 يناير 1947 بمدينة كرن. وأشترك في ذلك اللقاء عدد كبير من المسلمين بلإلضافة لعدد من المسيحيين من دعاة الاستقلال حيث جرى توسيع البرنامج السابق للرابطة و قد تلخص البرنامج الذي خطاه المرحوم إبراهيم سلطان بضرورة الحفاظ على وحدة واستقلال إرتريا، والإبقاء على الحدود التي رسمها الاستعمار.

أن تأسيس الرابطة الإسلامية في ذلك الحين كان بمثابة المعول الذي هدم وبقوة أركان الاستعمار البريطاني ومن بعده الاستعمار الأثيوبي ، فقد قامت تلك القوى بحشد كل أجهزتها وحياكة مؤامراتها وكان أبرزها ماعرف بمخطط "بيفن سفورزا"، الذي كان يستهدف إلى تقسيم ارتريا بين السودان وأثيوبيا، وهنا تبرز جسارة المرحوم إبراهيم سلطان في التصدي والصمود من أجل إحباط تلك المؤامرة.

ومن أبرز نضالات إبراهيم سلطان لإحباط تلك المؤامرة جولاته الخارجية الأوربية خاصة وزيارته للفاتيكان ومحادثاته مع بابا الكنيسة الكاثوليكية، أيضا وقوفه في منبر الأمم المتحدة عارضا القضية الإرترية ومدافعا عن شرعيتها ومشروعيتها القانونية، وفي هذا الإطار نشير لشهادة ذات قيمة واعتبار من شخصية وطنية لها دورها الريادي والقيادي والروحي أيضا وهو الأب ولدآب ولدماريام، حيث قال عن إحباط تلك المشاريع الاستعمارية ودور شيخنا إبراهيم سلطان فيه: (إن ذلك الانتصار الذي لامثيل له في تلك الفترة يعود 90% منه لجهود ونضالات ومثابرة إبراهيم سلطان) ويضيف الأب ولدآب ولدماريام: (إن إبراهيم سلطان هو الرجل والبطل الوطني الغيور الذي يجب أن يذكره كل الشعب الإرتري بالعرفان والامتنان.

تذكرون جميعكم بأن بريطانيا وأثيوبيا كانت قد اتفقتا على تقسيم إرتريا، وقد حاول البريطانيون رشوة إبراهيم سلطان وتضليله ثم إرهابه لإثنائه عن مواقفه الوطنية. لكنهم لم ينجحوا ولقد تعرض إبراهيم سلطان لمصاعب ومواقف حرجة كثيرة، لكن لم يخن ارتريا، ولو كان السكرتير العام للرابطة الإسلامية شخصا آخر غير إبراهيم سلطان، ربما كانت ارتريا قد وقعت ضحية التقسيم).

وعلى أساس النجاحات والأتنتصارات التي حققها الشيخ إبراهيم سلطان فأن كل من ولدآب وسلطان ومع عدد آخر من القيادات الوطنية الإرترية شكلوا الأحزاب السبعة التي كانت تنادي بالاستقلال لإرتريا وهي "الكتلة الاستقلالية" وكانت تضم الأحزاب التالية:

الرابطة الإسلامية

ارتريا للإرتريين

حزب ارتريا الجديدة

رابطة المحاربين القدماء

حزب ارتريا المستقلة

الرابطة الايطالية الارترية

ومن أبرز ماقاله إبراهيم سلطان في كلمته من على منبر الأمم المتحدة في نيويورك، وكان في كلمته يمثل الكتلة الاستقلالية والتي كشفت فيه وثيقة أمريكية سرية في العام 1986م أن تلك القوى (1949) تحظى بـ 75% من الشعب الإرتري، لقد خاطب سلطان الجمعية العمة للأمم المتحدة بكلمات قوية ومؤثرة عن حقوق بلاده وشعبه مطالبا المجتمع الدولي بتحمل مسئوليته التاريخية ورفع الظلم عن الشعب الإرتري، حيث قال: (إذا ما اتخذت الأمم المتحدة قرارا خاطئا يفرض علينا أن نناضل من أجل هويتنا واستقلالنا، فأن مسئولية ماقد يترتب على ذلك من اضطرابات وحروب في شرق أفريقيا سوف تتحملونها أنتم أعضاء هذه الجمعية).

كانت تلك كلمات إبراهيم سلطان، وكأنه كان يقرأ المستقبل بكل وضوح ودقة، وهو ماحدث بالفعل، حيث تمادت الولايات المتحدة في عدائها ومؤامراتها ضد الشعب الإرتري باستصدار القرار الفيدرالي المشئوم الذي قضى بربط إرتريا مع أثيوبيا ضمن التاج الأمبراطوري الأثيوبي، ولم تنتهي المؤامرات عند هذا الحد فقد جاء خرق ذلك القرار الفيدرالي وإلقاء الفيدرالية وضم إرتريا إلى أثيوبيا قسرا بعد حل البرلمان الإرتري وإنزال العلم الإرتري وإلغاء كل مظاهر الفيدرالية وكان ذلك في عام 1962 لتصبح إرتريا مجرد محافظة أثيوبية، وليدخل الوطن في دوامة من الحروب والنضالات، تلك النضالات التي بدأت في ذلك الوقت المبكر ولتستمر في أطار حركة تحرير إرتريا التي لعبت دورا هاما في تأطير وتوعية الشعب الإرتري بحقوقه الوطنية، ومن ثم انطلاقة الكفاح المسلح بقيادة الشهيد عواتي كنهج وسياسة وحيدة يمكن أن يعرفها النظام الأثيوبي وتوالت الثورة جيل بعد جيل، وفي كل هذه السلسلة من النضالات لم يكن المرحوم إبراهيم سلطان بعيد عنها.

وعلى الرغم من أن الرجل لم يواكب بعض التطورات التي حدثت في فصائل الكفاح المسلح ومن الصراعات التي حدثت وأدت إلى انقسام جسم الثورة إلى عدد من الفصائل، إلا انه ظل يؤكد أنه أب للجميع وراع لكل أبنائه في مختلف الفصائل، ومناديا بضرور الوحدة الوطنية ونبذ الطائفية وألأقليمية لأنه أول من يدرك خطورة تلك الأمراض على مجتمنا، وهو الذي اكتوى بنار الحرب الأهلية والاشتباكات بين فئات المجتمع الواحد في فترة تقرير المصير، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى الكلمة التي وجها للمؤتمر الثاني للجبهة الشعبية لتحرير إرتريا الذي عقد بالميدان في العام 1987، وقد قرئت نيابة عنه ومماجاء فيها: (أخواني وأبنائي، أبناء إرتريا - أفعلوا مافيه خير وطنكم، كونوا يدا واحدة، لاتقولوا هذا مسلم وذاك مسيحي، تصدوا لعدوكم. أبعدوا الخلافات الدينية والقبلية والإقليمية، وواجهوا السراء والضراء سويا، وأن اتفقتم، فلم تجدوا سوى الخير والنصر، ويد الله مع الوحدة.

ليس مؤتمركم مناسبة غير ذات شأن، أنتم وطنيون تناضلون من أجل إرتريا، ومؤتمركم مؤتمر وطني يهم كل إرتري، وينتظره كل مواطن إرتري بفارغ الصبر.

أنتم أخواني وأبناء وطني ورمز عزتي وكبريائي، فليكن الله مع مؤتمركم.

إن المرحوم إبراهيم سلطان لم يكن مناضلا سياسيا وحسب، بل ويشهد كل معاصروه عن نضالاته الجبارة والجسورة في جوانب اجتماعية هامة من أجل رفع الظلم عن بعض الفئات التي كانت تعاني من الظلم والقهر والاضطهاد الطبقي، وكأنه كان يتمثل مقولة "لينين": (من فقد حقده الطبقي مرة فقد إنسانيته إلى الأبد)، ومما يثبت النزعة الديمقراطية للمرحوم إبراهيم سلطان، الشعار الذي رفعه في مؤتمر "دقي أمحري" الثاني في العام 1950 الذي عقدته (الكتلة الاستقلالية)، فقد ردد إبراهيم سلطان الشعار (فلتعش إرتريا الحرة الديمقراطية إلى الأبد).

هناك الوجه الآخر للمرحوم إبراهيم سلطان، الإنساني، الاجتماعي، الذي يعرف دقائق فسيفساء مجتمعه الإرتري، وفي هذا الإطار له مقولاته وأحاديثه التي لاتمل وهي مزيج من التاريخ والفكاهة والدعابة، دون أن ننسى أن الكثيرين ينسبون اليه أقوال ومواقف، لم تكن نابعة منه، بل يقومون بنسجها ونسبها إليه زيادة في ترسيخها، ومن المواقف الطريفة التي يذكرها المناضل محمد سعيد ناود في العام 1956 وهو في سبيله لتكوين حركة تحرير إرتريا، قد توجه لمدينة كرن للقاء بالمناضل إبراهيم سلطان، لعرض فكرة تأسيس الحركة التي يود تكوينها وماكان من المرحوم سلطان إلا ازدراءه قائلا له: (أذهب للسودان وأكسب رزقك، أما إرتريا وقضيتها والسياسة فاتركوها لنا).

ألا رحم الله المرحوم إبراهيم سلطان، فلقد كان بطلا بمعنى البطولة الإنسانية، الواسع البسيط، يمتاز بكثير من النواحي الإنسانية العزيزة، كان ذا قلب طيب يعيش من خلال الناس، ويعيش معهم، بأعز مايملك من حيوية وفكر ووطنية وحب عارم لخدمة شعبه ووطنه.

أخيرا، لقد مات الزعيم الوطني ووري الثرى في أصيل الخامس من سبتمبر في حي الختمية في مدينة كسلا السودانية بالقرب من جبل التاكا، بعد أن تم نقله من القاهرة بصحبة ورفقة عدد من المناضلين.

وهكذا طويت صفحة هامة من صفحات نضالنا التحرري بفقده، ولكن عزاؤنا، أن المبادي التي ناضل من أجلها والقيم التي غرسها في نفوس أبناء شعبنا من أجل التحرر والاستقلال هاهي قد أزهرت وتفتحت، ونحن نشهد اليوم قيام دولتنا الفتية وميلاد أمة ستظل تذكر هؤلاء الأبطال من أمثال المرحوم الشيخ إبراهيم سلطان بالفخر والاعتزاز.

Top
X

Right Click

No Right Click