القائد الشهيد عبدالله إدريس القيادة الكارزمية والرمزية الوطنية

بقلم الأستاذ: إدريس عبدالله قرجاج

قليلون هم الذين يحصلون على صفات القيادة التي تعتبر هبة من الله تظهر معهم بعلاماتها المميزة

منذ بدايات نشأتهم وتبرز ملامحها معهم بمرور الوقت وفي أوقات الشدة والأزمات، وتتبلور بشكل أكثر وضوحاً عندما يقع أي شعب تحت الاحتلال مثلما وقع شعبنا الارتري تحت الاحتلال في حقب التاريخ قديمه وحديثه وآخرها الاستعمار الأثيوبي، ولذلك كله فمن الطبيعي أن يكون لشعبنا الارتري ثورته ضد الاستعمار الأثيوبي، ومن الطبيعي أيضاً أن يكون لهذه الثورة زعيم حتى تكتمل صورتها بوصفه زعيماً على رأسها يكون قادراً بصفاته وقدراته الخاصة أن يستحوذ على عقول وقلوب الناس العاديين، والتاريخ يعطينا أمثلة كثيرة من لينين على رأس الثورة الشيوعية إلى غاندي في الهند وكاسترو في كوبا... وصولاً إلى جمال عبد الناصر في مصر، وهوار أبو مدين وأحمد بنبيلا في الجزائر... حتماً هؤلاء القادة وغيرهم استطاعوا بما يملكون من صفات تميزهم عن العامة بما منحهم الله إياه ثم الطبيعة من صفات كاريزمية وبقدرتهم على التحدي استطاعوا أن يكسبوا محبة واحترام الشعوب التي كانوا يتزعمونها، وفي كل الأحوال وعلى مدى التاريخ كان الاحتلال والاستعمار منبعاً للثورات وكانت الثورات مصنعاً للقادة بحيث ارتبطت الثورات دائماً مجالات التمرد ضد الظلم، ويرتبط القادة الثوريون من ناحية ثانية بحالات الثورات في رفضها للاستعمار.

ولهذا مثلما كان لشعوب العالم ثوراتهم وقادتهم فكان للشعب الارتري ثورته التي لا تختلف في مبادئها وأهدافها عن كثير من الثورات التي سبقتها وتزامنت معها، وكان أيضاً لها قادتها الذين لا يقلون قدراً ولا مكانة في تماثلهم مع قادة الثورات العالمية وإن اختلفوا معهم في الأفكار والأسلوب والوسائل، ولذا فمن حقنا أن نذكرهم ومن واجبنا أن نضعهم في المكانة التي يستحقونها تكريماً لدورهم الثوري ولتضحياتهم ولعطائهم اللا محدود تخليداً لهم ولمآثرهم التي تبقى حية في ذاكرتنا عبر الزمن الممتد جيل بعد جيل ولا لأحد منا بإمكانه أن يقفز على تاريخ شعبه الذي يضم في جنباته المضيئة مرحلة الثورة المسلحة والتي ارتبطت بأسماء صنعت الثورة تفرض علينا أن نفخر ونعتز بها ونستحضرها وفي مقدمتهم: عبد القادر كبيرى، إبراهيم سلطان، إدريس محمد آدم، حامد عواتي، لماذا... لأنهم قادة أبطال سكنوا العقل والوجدان الارتري فاحتلوا سامق العلياء بجدارة ولذلك نذكرهم في كل مناسبة وطنية وكلما افتقدنا شهيداً عاصرهم وواكب جزءاً من حياتهم النضالية وشهيدنا عبد الله إدريس منهم وينتمي لمدرستهم الثورية - مدرسة: كبار المناضلين التي تضرب لنا أمثلة رائعة نابعة من روح التاريخ الزاخر بالتضحيات تؤكد لنا بأن هذا النوع من القادة الذين ينشاؤن وسط شعبهم ويظهرون من بين الجماهير العادية ولذلك كان فقيدنا من أولئك الذين يملكون الطاقات الهائلة منذ بواكير شبابه تميز بالإصرار والقوة والشجاعة والفهم والإدراك... وبالتالي كان نموذجاً من القادة الارتريين الذين يفرضون أنفسهم على الشعب لما يتمتعون به من صفات يمتلكونها تؤهلهم على إثارة أحاسيس شعبهم وتثويرها ضد قوة الاستعمار الأثيوبي الذي احتل ارتريا لأكثر من ثلاثين عاماً، وفي هذا الإطار لابد لي من التنويه بأن الشهيد عبد الله كان رجل ثورة من الطراز الأول سياسياً وعسكرياً فكان مثال القائد الذي استطاع أثناء قيادته العسكرية للمكتب العسكري في جبهة التحرير الارترية عام 1971م حيث شهدت فترة قيادته إنجازات عسكرية واضحة بتحرير معظم القرى والمدن الارترية في المنخفضات والمرتفعات رغم المصاعب والشدائد وهي إنجازات تاريخية في صميم القيادة العسكرية التي وجدت كل الدعم والإسناد من الشعب الارتري الأبي.

ومن ثم أصبح قائداً سياسياً رائداً عندما أمسك بزمام المبادرة هو ورفاقه الأبطال بقيادتهم للحركة التصحيحية في مارس 1983م، من أجل إنقاذ جبهة التحرير الارترية من حالة الانهيار التام وخروجها نهائياً من المعادلة الثنائية التي ظلت تشكل لوقت قريب حالة من التوازن في ميزان القوة على مستوى الساحة الارترية والانتصار للجبهة التي توثق اسمها كمفجرة للكفاح المسلح وقائدة للثورة الارترية منذ عام 61 م فالانتصار هنا هو انتصار لتاريخ الشعب الارتري، لأجل ذلك كله كان من لازم النهوض بالجبهة كخياراً وطنياً واجب التنفيذ يتطلب انطلاقة جديدة تقوم على مرتكزات ثابتة تعالج كافة الأخطاء التي وقعت فيها قيادة الجبهة بصورة عامة لأن المسؤولية مشتركة ولا مكان للتخصيص من أجل وضع الجبهة في المسار الصحيح حتى تبقى في واجهة الفعل الناضلي الذي يتناسب ومكانتها في عقول وقلوب ونفوس الارتريين كافة وكان من المعلوم أن القيام بهكذا خطوة تحتاج بكل تأكيد إلى قائد فكان عبد الله إدريس القائد الذي تجلت فيه طموحات الجماهير ومدى إيمانها وقناعتها به من خلال علامات سياسية وعسكرية مميزة أتت على الماضي بكل ما فيه من تجربة، ومعايشة، وصوابية في اتخاذ القرارات المستقبلية ذلك لأن طموحات القائد، أي قائد، إنها تنبع من روح الجماهير وتاريخيها النضالي المشرف ولهذا فإن الدور الذي لعبه الشهيد عبد الله في تلك اللحظات الحاسمة يدعونا اليوم أن نسلط الضوء عليه من حيث حيويته وتفاعله ونشاطه الدؤوب داخلياً وخارجياً من أجل المحافظة على جبهة التحرير ككيان سياسي واجتماعي وثقافي ولولا تلك الخطوة لربما كانت الجبهة جزءاً من الماضي الذي يتم ذكره عرضاً في سفر التاريخ، مما يعنى أن الشهيد عبد الله كان يشكل صورة كاملة للقائد لجهة قربه من شعبه، وثقافته، وعاداته، وتقاليده، وتاريخيه، وطموحه الذي يساهر من أجله لبناء مستقبل منار بالعطاء والتضحية والعلم بالأشياء والمبادئ وبعيداً عن منطق (المكانية) الضيق كالقرية أو المدينة أو الإقليم وكذلك على منطق الأفكار والعادات الآتية من حياض القبلية، والطائفية لهذا نجح الشهيد عبد الله في قيادة الحركة التصحيحية والعودة بالجبهة من بعيد... بصحبة رفاقه الذين سبقوه في مجد الاستشهاد منهم تمساح، محمود حسب، إدريس هنقلا... إلخ، ومنهم ما زال على قيد الحياة يحمل على كتفه أمانة ثقيلة وفي مقدمتهم القائد حسين خليفة رئيس الجبهة وحامد محمود، وحامد آدم سليمان، وبقية الرفاق لمواصلة مسيرة الكفاح من أجل الحرية والعدل والمساواة المدنية واحترام حقوق الإنسان كحقوق أساسية لدولة القانون والمؤسسات الدستورية التي تتطلع إليها جماهير الشعب الارتري والتي لا يمكن تحقيقها في ظل حكم الاستبداد والتسلط والديكتاتورية التي يجسدها الطاغية أفورقي فكراً وعملاً، إذاً الأمانة ثقيلة والمهمة كبيرة والتحديات أكبر وهي بحاجة إلى عمل نضالي وطني خلاق.

ولكل ما سبق أقول لقد كنت من أولئك المحظوظين الذين تشرفوا بلقاء القائد الشهيد عبد الله إدريس مراتٍ عديدة في السودان ومصر والأردن وسوريا وشاركت معه في لقاءات عمل رسمي جمعتنا مع مسؤولين ووزراء عرب فكانت فرصة مهمة للتعرف عليه عن قرب سمحت لي من الإطلاع على بعض مزايا القائد عبد الله حيث قضينا مع بعض أيام ليست بالقليلة ونحن نتجاذب أطراف الحديث الذي كان جله عن الوطن وعن جبهة التحرير ودورها في مرحلة ما بعد الاستقلال وكم كان مسكون بهم تلك المرحلة حتى أذكر أنه قال لي تبدو المرحلة التي نمر بها في ظاهرها أنها واقفة ولكن في الأعماق ثمة حركة مزلزلة قد تظهر إلى السطح في يوم ما، ومن أجل أن تظهر هذه الحركة المزلزلة لابد من توجيه الجهود ورص الصفوف من جديد... نعم هكذا كان يفكر الشهيد عبد الله - رحمه الله.

ومن انطباعاتي التي يمكن أن أسجلها أنه من أولئك الرجال الاستثنائيون الذين يمتلكون من الشجاعة ما تمكنهم من الإقدام على تحمل المخاطر الإبداعية، فيسمحون لأنفسهم وللآخرين بارتكاب الأخطاء واستكشاف مجاهل مناطق جديدة في بعض الأحيان يسقطون على وجوههم، لكنهم سرعان ما يهبون واقفين على أقدامهم من جديد ويواصلون البحث والاستكشاف بكل حماس وإخلاص وأنهم يعلمون أن المستقبل ليس شيئاً ننتظره بل شيئاً يحب أن نشارك بفاعلية ونشاط في صنعه.

فالحديث عن القائد الشهيد عبد الله يطول ومن ملاحظاتي عرفت فيه أنه كان رجل متفاءل عندما تشتد الظروف وتتضاءل الفرص من أمامه، ولكنه كان قادراً على تجاوز المحن والمنعطفات الحادة، يبحث عن المخرج دون أن يفقد بصيرته... هكذا كان الشهيد عبد الله.

باختصار عرفته قائداً وأخاً كبيراً ساقتني الأقدار إليه أو ساقتنا معاً لنلتقي في مسيرة الثورة وهو قائداً لجبهة التحرير الارترية ففي حياة الشعوب المناضلة تؤخذ الشهادة مثلاً حياً على أصالة الشعب ويكرم الشهداء لتضحياتهم وعطائهم الذي لا ينضب في سبيل أن تصان حرية الوطن وتبقى راياته مرفوعة خفاقة مصونة.

لأجل ذلك انضم القائد والرمز الوطني الشهيد عبد الله إلى قائمة المجد لشهداء الثورة الارترية نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جنانه مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.

Top
X

Right Click

No Right Click