في ذكري رحيل المناضل الكبير/ محمد سعيد ناود - الجزء الاول
بقلم الإعلامي الأستاذ: أبوبكر عبدالله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي مهتم بالتأريخ
علاقتي بالمناضل الكبير بدأت في دمشق عندما قرأت رواية صالح "رحلة الشتاء"
ثم توطدت بالتعرف على صديقي العزيز الدكتور محمود محمد سعيد ناود الإبن البكر للمناضل/ محمد سعيد ناود شفاه الله من وعكته الصحية عندما كنا أعضاء في الاتحاد الوطني لشباب وطلبة إرتريا والجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، في تلك المرحلة العاصفة بالخلافات الوطنية تعرفت على صديقي الدكتور/ محمود محمد سعيد ناود ومنذ ذلك التاريخية استمرت العلاقة الأخوية والرفاقية وامتدت الصداقة بيننا حتى هذا اليوم أقابله بشوق ونجلس نتحاور بلغة الإشارة عندما كان يزور اسمرا بعد إصابته بالجلطة في بيروت وتركت أثاراً على نفسه ومازال تحت العلاج من حالة انعدام النطق بالرغم من أن ذاكرته ممتازة جداً وصحته عادة كما كانت من قبل.
العلاقة الحميمة بيني وبين الدكتور امتدت الى أسرته حيث كنت أشعر بواجبي لزيارة أسرته باستمرار خلال الفترة التي قضيتها في أسمرا وهي عقد ونصف من الزمان، تعرفت خلالها على المناضل الكبير/ محمد سعيد ناود عن قرب وكنت أجلس معه لساعات في منزله في معسكر"دندن" أو "راديو ميرناى" سابقاً، حيث كان يقيم في منزل خشبي من طابقين في المعسكر الذي كان معداً أصلا خلال حقبة الاستعمار الإثيوبي لإقامة ضباط الجيش الأمريكي وأيضاً لقيادة جهاز الاستخبارات الأمريكي الـ CIA وغيرها من أجهزة الاستخبارات التي كانت تنشط في إرتريا باعتبارها منطقة استراتيجية.
المناضل الكبير/ محمد سعيد ناود رحمه الله كان رجل مبادئ وإيمان عميق بالقضية الإرتري، ناضل منذ نعومة أظافره ضد الاحتلال الأثيوبي كما ناضل بقلمه وفكره وترك لنا موسوعة من الكتب التي اجتهد وبذل جهدا كبيرا في تأليفها، كنت اذهب إليه باستمرار في منزله والتقيه في الكثير من المناسبات واتحاور معه في الكثير من القضايا ومازال صوته الرخيم يرن في أذني عندما كنت ازوره في المنزل حين ينادى زوجته قائلا: يا أم محمود جهزي شاي ابوبكر ولدنا جاء.
جمع أبو محمود بين صفات المناضل بوعيه السياسي والتزامه الوطني والأممي، وبين الصفات الإنسانية، إذ كان مرحا ودوداً مضيافاً، صادقاً مع نفسه وأسرته ومع مبادئه الإنسانية. وقد ترجم هذه الصفات في سلوكه الإنساني والاجتماعي والأسري، وكان متسامحا ينبذ مختلف أشكال التعصب والتطرف أو التمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين، ما أجمل هذه الكلمات وما أحوجنا لثقافة التسامح في هذه الأيام.
بينما كان القوم منهمكون في مراسم دفن جسد المناضل ناود الذي احتضنته مقابر الشهداء بأسمرا، كنت سارحاً واجماً على رحيله متفحصاً وجوه أصدقائه القدامى من جيل تأسيس حركة تحرير إرتريا والمذيع يلقي نبذة مختصرة لسيرته النضالية وهي قصة مناضل كرس حياته من أجل إرتريا، دفاعاً عن حق شعب يستحق الحياة في وطن وحياة هادئة، تملؤها السعادة، ولا تعكر صفاءها حوارات مذهبية أو صراعات طائفية أو مليشيات مسلحة، ودفاعا عن أمة تكالبت لظلمها الأمم من الشرق والغرب.
لا أدري من أين أبدأ الكتابة عن المناضل ناود وفاءاً له وهو الذي علمني الكثير من القيم في هذه الحياة وأولها قيمة الوفاء، سأبدأ من حيث ودعته وسافرت الي نقفة لقضاء إجازة العيد مع والدتي التي كانت تقيم أندذك في نقفة قادمة من بورتسودان لرؤيتي، قبل سفري زرته في منزله الجديد الذى منحته له الحكومة الارترية بعد ما تعرض لحادثة سقوط من احد السلالم الخشبية في منزله القديمة ودخل على إثرها الى المستشفى للعلاج، ووهنا تدخل بعد الشخصيات النافذة وعلى رأسهم الوزير السابق على عبده وبلغوا الرئيس بأن ناود مازال يسكن في "راديو ميرناي" وتعرض للإصابة لإنزلاقه من الدرج الخشبي في المنزل حيث تقرر منحه منزل كان يقيم عليه رئيس جبهة الأرومو في إرتريا، منزل أيضاً متواضع من طابقين وحديقة خلفية محدودة المساحة في حي "إسبيس الراقي" خلف السفارة القطرية، ثم اتصلوا بشركة سقن لإجراء صيانة بالمنزل وكان يتصل بي أحد المسؤولين ويقول لي كلم عمك وقول له كذا وكذا... لإتمام إجراءات التسجيل باسمه والصيانة!
في هذا المنزل الجديد الذي زرع فيه رئيس جبهة الأرومو أشجار البن كنت أزور المناضل الراحل/ محمد سعيد ناود وأتحاور معه باستمرار وكنت أطلب منه البوح بالإصرار وكان يحكي لي الكثير منها، كنت أطرح عليه الكثير من الأسئلة أحياناً يجاوبني باقتضاب وأحيانا أخري يسترسل في السرد، لم أحمل معي ورقة وقلم حتي لا يظن أن حواري معه لأغراض إعلامية كانت ونسه عامة ودردشة تستمر أحيانا لساعات طويلة، وبعد حضوره من الكويت التي ذهب إليها لإلقاء محاضرة ذهبت إليه وتبادلنا الحديثة عن الزيارة والندوة عن الزيارة وأهدي لي قميص مخطط كنت احتفظ به وارتديه في مناسبات عامة وأقول هذا هدية عمي ناود.
في أخر زيارة لي له قلت له عمى ناود إنت كتبت الكثير من الكتب وألفت أكثر من عشرة كتاب هل قلت كل ما لديك أم هناك خفايا ما زلت تحتفظ بها بين اضلعك ولم تبوح بها بعد ولم تكتبها في مذكراتك؟
قال لي ضاحكاً ماذا تريد أنت يا أبوبكر قلت له أتمني أن تسجل لي ما لم تقله من قبل ولم تكتبه في مذكراتك؟
تعجب في بادئ الامر من طلبي وبعد لحظات تفكير عميق قال لي أحضر معاك جهاز تسجيل وستة أشرطة وتعال.
فرحت جداً جداً لأنه سوف يخصني بحديث لم يبوح بعد، قلت له غداً ذاهب الى كرن ومن كرن الى نقفة لقضاء نصف شهر رمضان مع الوالدة وأعود بعد العيد مباشرة، إنشاء بمجرد ما تجي تعال ومعك جهاز التسجيل والاشرطة وسيكون حوار طويل بيننا!
هذا كان أخر لقاء به.
غادرت الى نقفة ورجعت بعد العيد مباشرة الى أسمرا، وفي اليوم الذي وصلت فيه الى أسمرا دخلت منزلي مباشرة وأغلقت الموبايل وغرقت في نوم عميق من شدة التعب، وفي الصباح حوالى الساعة العاشرة صباحاً نهضت من نومي وفتحت التلفون، وفجأة يتصل بي صديقي وزميلي في العمل العزيز/ حسين محمد صالح ابوالحسن "الكينغ" قائلاً أين أنت يا أبوبكر قلت له أمس حضرت من نقفة وكنت نائم، قال لي أنا من الصباح إتصل عليك وتلفونك مقفول، قلت صح كنت تعبان وأغلقت الموبايل الحاصل شنو خير إنشاء الله.
قال لي: لا خير ولا شيئ بلهجة عامية سودانية.
قلت له ماذا جري؟
قال: وين أنت الأن.
قلت له: في البيت.
قال لي: عمك ناود إتوفي!
نواصل بإذن الله... في الجزء القادم