ذكرياتي مع القائد المرحوم عثمان صالح سبي - الحلقة السادسة

بقلم المناضل الأستاذ: أحمد أبو سعدة

ساعات طويلة وعثمان يشرح لي ويقص التاريخ القديم لإرتريا.

نظرت إلى ساعتي وكانت الثالثة صباحا، سألني عثمان:

- هل تعبت يا أبو سعدة؟.

- لا إنما أريد أن أهضم هذه المعلومات القيمة.

- إلى الغد يا أبو سعدة.

عدت إلى فندقي وقبل أن أتمدد بسريري سرحت بخيالي في كلام القائد عثمان وقفت عند أحداث عديدة كنت في بعضها سلبيا اتجاه القائد عثمان وتمددت في السرير وتلاطمت افكاري ببعضها إلا ان إحدى موجات التلاطم وقفت عند الآتي:

في نهاية عام 1971غادرت القاهرة الساعة السادسة مساء على متن الطائرة اليمنية (ألميدا) والطائرة من النوع القديم والطريق طويل وممل والطيران مدته ست ساعات من القاهرة إلى عدن إنما الخدمة كانت جيدة، إن هذا الارتجاج الذي تحدثه الطائرة متعبا فالمطبات الهوائية كثيرة وأتساءل، (لماذا أنا أسافر وأتعرض للأخطار والخوف وأعرض أسرتي ومستقبلي للضياع)؟.

هذه الأسئلة كانت تدور في ذهني ثم ماذا عن القضية الفلسطينية وكنت من المتعاطفين والملتصقين بها وقد عملت مع الثوار الفلسطينين بجد وشرف وإخلاص، أليست هي قضيتنا الأساسية ـ أليس الصهاينة أعدائنا وأعداء أمتنا ؟...

ولم أكن أعرف ماكان يخبئه الزمن لي بعد ست وأربعين عاما.

- هل أنا في حلم؟؟. لقد طال هذا الحلم، إنه طويل ومزعج ماهو المستقبل الذي كنت أحلم به؟. الفن - الثورة - وأعتقد إنهما الاثنان معا.

لا أستطيع أن أفكر ولو مجرد تفكير بسيط إننا يمكن أن نرضى بما يتم الآن من اتفاقيات وحلول وأتساءل (أين أرضنا؟ أين الشهامة العربية؟ أين الكرامة العربية؟) لماذا ذهبت أنا إلى (ظفار) وتعاملت مع الثوار هناك وفي عام 1973 كنت المصور السينمائي الأول في التليفزيون العربي السوري الذي ذهب الى الخطوط الأمامية في حرب تشرين وعدت بالأفلام واللقطات الحية المعبرة والمؤثرة لماذا ذهبت إلى غور الأردن مع الأخوة الفلسطينين، لماذا ذهبت إلى (شبعا وكفر شوبا في جنوب لبنان) التي أصبت بها بيدي وقطعت أعصاب يدي وشرايينها،لماذا ناضلت مع الثوار الفلسطينيين، أليس هذا كله من أجل وطني وأمتي والإنسانية؟.

عندما كنت طفلا صغيرا كنت أتشوق لما أسمعه من والدي عن البطولات العربية والاسلامية والإنسانية كنت أريد أن أعرف تاريخ أمتي والعالم فكنت أبحث عن الكتب ولا أستطيع شراءها، كنت أستأجرها من المكتبات وإني أتذكر كيف كنت أذهب إلى مكتبة صغيرة تقع جانب (السنجقدار) بدمشق وأستأجر الكتب، كانت أجرة الكتاب عشرة قروش أو(فرنكين) كما كنا نقول وأعتقد أن كثيرا من الشبان الدمشقيين قد مروا على هذه المكتبة وصحوت على صوت ناعم لطيف:

- هل تريد (كوفي)؟.

- قالتها المضيفة السمراء اليمنية، هل هذا الجمال وهذا التناسق البديع هو الذي سمعت عنه؟.

هل هذه المضيفة هي سمراء (عدن)؟ التي تروى عنها الحكايات أوالأساطير، إن هذه الفتاة الماثلة أمامي تريدني أن أشرب (الكوفي).

- قلت لها: نعم أريد فنجانا من القهوة اليمنية أيتها اليمنية الجميلة.

ضحكت بدلال وقالت:

- أنت تتكلم العربية.

- نعم أنا عربي ومن سوريا واسمي أحمد، ماهو اسمك أنت يا سمراء عدن؟.

- أنا زينب لكن لست من عدن.

- من أين إذن.

- أتعرف حضرموت؟ هل سمعت عن بنات المكلا؟

- من منا لا يعرف ومن منا لم يقرأ عن حضرموت وعن حضارتها إني أعرف بعض المحافظات في اليمن.

- سوف أحضر لك فنجان قهوة.

- لا تنسي يا زينب أن يكون البن عدنيا أيتها الجميلة العربية.

إن زينب مضيفتنا تشبه في تقاطيعها (حليمة الارترية) وكانت (حليمة الارترية) تحدثني باللهجة ذاتها وعدت بذاكرتي إليها لونها أغمق من زينب بقليل إنما تقاطيع الوجه واحدة غير إن (حليمة) ترتدي اللباس الوطني الخاص بمنطقة الساحل الإرتري أما زينب فترتدي ملابس مضيفة الطيران اللهجة واحدة واللون متقارب والابتسامة الهادئة واحدة، إن حليمة تحمل كثيرا من الألم والمعاني لفتاة إرتريا السمراء، كثيرا ما خيل لي إن عيون أطفال إرتريا ونسائها لها معنى واحد ألا وهو الألم والتساؤل، أين أنتم يا إخواننا العرب؟ أين أنتم يا أشقائنا المسلمين؟ نحن منكم وأنتم منا نحن أهلكم وأنتم أباؤنا وأمهاتنا، أنتم أهلنا.

وعادت زينب تسألني إذا كنت أريد شيئا آخر.

لقد أيقظتني من خيالي:

- شكرا يا زينب على القهوة لكني لا أظن أنها قهوة عدن العربية واتسعت الابتسامة على شفتي زينب ولمعت عيناها ببريق العيون العربية.

- نعم إنها (نسكافة) ولقد شربتها على مضض، القهوة العربية تصدر للأوروبيين ونحن نستورد (النسكافة).

- (هه هي الدنيا) قالتها زينب وهي تضحك.

- نعم هذا هو الحال.

الى اللقاء فى الحلقة القادمة...

Top
X

Right Click

No Right Click