ذكريات وتجارب - الحلقة السادسة عشرة

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

بعد حالة ترقب امتدت لأكثر من شهر للعودة الى مصوع، جاءت الريح بما لا تشتهي السفن، حمل الينا الزميل رمضان عثمان اولياي

خبر حلوله والزميل عثمان عبد المنان محل الزميلين محمد سعيد برحتو والزميل علي سيد عبد الله، وان علينا التوجه الى اغردات فورا، ولم يكن امامنا الا الامتثال ولكن بعد انهاء ظاهرة فرقة شرحبيل في البلدة. تكونت هذه المجموعة من اكثر من عشرين شابا تقاسموا على ضرب من يتعرض لاحد من افرادها ضربة رجل واحد، وقامت قبيل قدومنا بالاعتداء على شاب من حي حديش عدي ما ادى الى حالة استنفار بينها وبين ابناء هذا الحي اذ بدأوا لا يتحركون نحو السوق الا في مجموعات بقيادة الزميل فايد صالح وكل منهم حاملا عصا، وكافة المحاولات والمبادرات التي تمت لثني هذه المجموعة عن مسلكها باءت بالفشل.

ومما كان يثير الدهشة ان جميع افراد هذه المجموعة شباب بسيط مسلمون ومسالمون كادحون، فلو قاموا بمثل هذه التصرفات في سن معين او في مواجهة استفزاز من طرف منافس لما حامت حولهم اية شكوك او تساؤلات اما الان وقد تجاوز غالبيتهم سن العشرين ودخل سوق العمل بشكل واخر، لم يعد مستساغا ان تكون اولوياتهم او اهتماماتهم خلق خصم وهمي اللهم اذا كان لهم هدف اخر. واضافة الى دقة الظرف الذي نشأت فيه، فقد كانت هناك تساؤلات اخرى تتعلق بتركيبتها ومحاولتها اضفاء صبغة عامة على نفسها اجتماعيا ودينيا منها اختيار شخص مسيحي مغمور يدعى بخرزين قائدا مع ان من بينها عناصر معروفة، ولقد تكشف تدريجيا ان الامور ليست بهذه البساطة والعفوية كما اعتقد الكثيرون في الوهلة الاولى ولاسيما بعد سيطرته الواضحة على المجموعة واختياره ابن عمه نائبا له.

وبنفس القدر كانت تساؤلات حول غايتها من استقطاب يافع لا يعرف السوق الا عابرا، مهذب، عاقل، خجول لم يتجاوز سنه الخامسة عشرة عاما ولا يكاد يزيد طوله طول العصا الذي يحمله، وكان هذا في نظر الكثيرين عملا ليس بريئا ولم يتم بمحض رغبته او الرغبة في شخصه، انما استغلالا لوضعه الاجتماعي لتعزيز سمعتها ومكانتها لغرض ما. عرفت هذا الشخص عن قرب بحكم علاقة وثيقة مع اشقائه الاكبر منه، والانطباع الذي خرجت به من محاولتي لإقناعه انه كان واقعا تحت تأثير او نفوذ لا يستطيع الافساح عنه ولا الفكاك منه.

فكانت خلاصة تحليلنا لمجمل نشاط المجموعة، انها تسعى، او مكلفة، لهدم قيم نسعى الى تعزيزها، وان الدور الذي تقوم به يتعارض كليا مع المهمة التي قدمنا اصلا من اجلها. بدأنا التحرك بين الاصدقاء والزملاء أفرادا ومجموعات اذكر منهم، على سبيل المثال، عمر عثمان قلاتي، محمود جعفر حجي حمد، ابراهيم حجي زينهم، ابراهيم حمد درير، احمد جابر درير، عمر سليمان قدف، محمود ادريس اسناي، عمر تركي، على صالح قاضي. ثم اخترنا من بينهم مجموعة التقينا بها في منزل الزميل عمر قلاتي. ابدينا في هذا اللقاء ملاحظاتنا ومخاوفنا ازاء العمل المشبوه الذي تقوم به هذه المجموعة، واننا نعتقد انه ما لم يتم التعامل معها بسرعة وبجدية ستترتب على استمرارها ناهيك تطورها عواقب وخيمة. وفي الحقيقة، لم يكن ما ذكرناه جديدا عليهم بعد ان اصبح الموضوع حديث الشارع. اتفقنا على متابعة تحركاتها افرادا ومجموعات وفق خطة محددة على ان يطرح كل منا ما توفر لديه في اجتماع اخر.
فمما ورد في هذا اللقاء ايضا في منزل الزميل عمر قلاتي، ان هذه المجموعة تلتقي مساء كل يوم في مكان ما في حي دبالقو القريب من الجامع الكبير، ثم تنطلق منه مع انتهاء صلاة العشاء في طابور منظم يتقدمه قائدها بخطى استعراضية كما يفعل الضباط امام جنودهم. ومن خلال اسلوب تعاملها مع بعضها وطريقة سيرهم في طابور من وقفاتهم، حركاته، ضبط المسافة بين فرد واخر، طريقة مسك عصيهم، المبالغة في اليقظة والحذر الالتزام بالتعليمات، من خلال كل هذا العوامل اتضح لنا جليا انها تلقت قسطا من التدريب أيا كان مصدره وهدفه.

وفور دخول الطابور الى الساحة بين الجامع والطواحين يقوم بعملية ارتكاز حيث يتكئ كل منهم على اصابع قدميه ممسكا بعصاه امامه، ويتجه كل منهم الى جهة تختلف عن زميله بهدف التأكد من سلامة الحركة في الشوارع المتفرعة بالضبط كما يفعل الجنود عند دخول مدينة معادية. ثم يتقدم ويرتكز قبل عبور المفرق المؤدي الى سوق الصاغة ويقوم بنفس العملية امام ملحمة العم محمد حسين واخيرا ينطلق الى طريق الاسفلت وقيل انه يقوم بجولة تفقدية بين الاحياء. وتتم هذه العملية الروتينية بنفس الدقة والالتزام، كل هذا عبارة عن رسائل للفت نظر المارة وحتى يتعود عليهم المجتمع ويعتبرهم مع مرور الوقت امرا عاديا.

وبعد الاستماع الى المعلومات، اقترح البعض ضرورة مواجهة المجموعة بعنف مماثل أيا كانت النتيجة، الا اننا اعترضنا عليه حتى لا يتحول الصراع بين مجموعتين شبابيتين وخشية ان يؤدي الى تعصب البعض لهذه او تلك وبالنتيجة نكون قد خدمنا اهداف المجموعة ومن وراؤها. وبدلا من هذا، اقترحنا ان تكون المواجهة، ان حصلت، بين الاهالي والمجموعة وبشكل عفوي وذلك من خلال وضعها امام موقف تضطر فيه اما الى التورط او الانسحاب وفي الحالتين تكون هي الخاسرة. وبمعنى اخر ان يلتحم احد منا (انا والزميل عثمان عبد المنان) بقائد المجموعة اثناء سير الطابور وسط السوق وبدون مقدمات وفي حالة تحرك نائبه يتصدى له الثاني منا وينحصر العراك بيننا وبينهم، فاذا تدخل افراد المجموعة طبقا للمعاهدة بينهم سيتصدى لهم الاهالي وبهذا يتم وضعهم في مواجهة الشعب، وحتى اذا لم يتصد لهم احد نكون قد وضعناهم في خانة المعتدي. اما اذا التزموا بالحياد فهذا يعني سقوط شعارهم وهيبتهم ان لم تكن نهايتهم، وعلى هذا تم الاتفاق. ومما تجدر الاشارة اليه، كان من بيننا ابراهيم قلاتي الشقيق الاصغر لعمر وكان يافعا يتعلم الصياغة في محل الحاج بكري صايغ، احضر لنا في اليوم التالي خاتمين مدببين من النحاس مساهمة منه في المعركة، واليوم ابراهيم من مشاهير الصاغة في الرياض، فله الشكر.

اتفقنا ان تكون المواجهة بعد صلاة العشاء وسط السوق بالضبط امام ملحمة العم محمد حسين حيث يتجمع معظم الاهالي قبل انصرافهم الى منازلهم، وفي نفس الوقت هو الزمن الذي لا يتواجد فيه الشباب. ومع هذا، ومن باب الاحتياط، تواعدنا مع كافة الزملاء وزملاء الزملاء على ان نلتقي على الجسر في طريق الاسفلت، وكان الزميل الانيق المتألق محمد صالح احمد (لخما) في هذه الايام يقلد الفنان ابراهيم عوض في اغانيه وحتى في تسريحته، وكثيرا ما كنا نتجمع حوله.

بمجرد ان وصل الطابور في المكان المحدد انقض الزميل عثمان على قائد المجموعة وطرحه ارضا ودخلا في عراك شديد، لم يتحرك النائب حتى لمعرفة ما يجري وكذلك افراد المجموعة الذين بقوا في طابورهم على طرف الشارع. وصاح احد المارة ’ مجموعة شرحبيل تعتدي على ابناء مصوع‘ فتداعى الناس وتدافعوا وتداخلوا وفي لحظة اكتظ المنطقة على صغرها بحيث يصعب التمييز بينهم الا انني لمحت الاخ سفاف ادم ايم قادما وهو يلوح بعصاه. بدا لي كأن الناس تتقاعس في الفصل بين المتعاركين لربما نكاية بالمجموعة التي ظلت تستفزهم بعد ان تحكم عثمان على تثبيت خصمه.

وفجأة برز من بين الاهالي الشاويش ودي عبده السيء السمعة وضرب عثمان بعصا ضربة مبرحة، فتصدى له العم عمر ادم (بوط) وكاد يقتلعه وشده شخص من خلفه واختلط الحابل بالنابل اكثر بعد ان تدخل حمداي حاج محمود ودخل في عراك مع شخص، وفي خضم هذا الصخب والزحام استطعنا الانسحاب بهدوء الى حيث عالجنا جراح الزميل عثمان وقد سلخت الضربة جلده سلخا. حسب ملاحظاتي طوال الوقت لأفراد المجموعة ابتداء من النائب، بدوا هادئين كأن الامر لا يعنيهم ولم يتحرك لهم جفن حتى ازاء الشتائم والاستفزازات التي كانت تنهال عليهم من هناك وهناك، لم يكن اعتزالهم المعركة في نظرنا بداعي الحياد بقدر ما كان لعدم تلقي تعليمات او تنفيذا لتعليمات مسبقة تمنعهم من الاحتكاك بالأهالي أيا كان المبرر. ثبت لنا تماما انها جماعة منظمة منضبطة واخطر مما تصورنا.

بصرف النظر عما اذا ضرب الزميل عثمان انتصارا لفرقة شرحبيل ام لا، فان الشاويش ودي عبده هذا كان قد نصب نفسه الامر الناهي في البلدة يشتم ويضرب كما يشاء بلا احد يحاسبه، ولهذا كان من الضروري تلقينه درسا ينهيه معنويا. اعتاد ان يحضر سهرة جبنة في منزل فتاة جميلة تدعى ابابا تسكن بجوار سوق الخياطين تعمل بالنهار غسالة وفي المساء تنظم جلسة قهوة يقصدها الكيفيون والعشاق منهم الشاويش ودي عبده. وكنا نعرف توقيته والطريق الذي يسلكه بشكل يومي.

تابعناه الى ان لف من امام منزل الشيخ سعيد سالم متجها الى الشارع العام الخلفي وكان هذا الشارع مجرى سيل تم ردمه بحجارة كبيرة لا يمكن السير عليها الا خطوة خطوة. وبمجرد ان تساقطت حجارنا حوله بدأ يجري فيقع ثم ينهض فيقع وهكذا الى ان وصل الى منزل العم محمد منصور حيث توجد مساحة ترابية صغيرة وبالكاد يقف عليها حتى كاد كلبهم المشهور ان يقفز عليه من فوق الدار وكان في حجم عجل، ومن شدة الفزع انزلقت رجله فصرخ حتى سمعه المارة بالشارع الخلفي فشاهدوا ودي عبدو الاسد ينزف دما وهو يهرب من كلب.

قابلت الشاويش ودي عبد بعد هذه الحادثة عندما جاء الى المحكمة صحبة المباحث حاملا صندوق يحتوي اسلحة ضبطت بحوزة بعض الزملاء. ولسوء حظه، ريثما يحضر القاضي اتكأ على طرف قفص المتهمين الذي كنا فيه. كاد يغمى عليه عندما ناديته باسمه – مستغربا كيف يكون بين هؤلاء المجرمين من يعرف اسمه. سألته ان كان يعرفني، قال ’لا‘، سألته ان كان يتذكر الشخص الذي ضربه قبل بضعة اشهر عندما وقع اشتباك مع مجموعة شرحبيل، قل ’نعم‘، قلت له تعرف من هو: فهم القصد: قال ’الحمد لله انني تركت قندع واعيش في اسمرا، والله اريد ان اعيش بسلام‘ ولولا انه تذكر ان الكلام مع متهم ممنوع لثرثر اكثر، وسرعان ما انتقل الى مكان بعيد مقابل وظل يرمقني بطرف عينه، لعله كان يحاول ان يتذكرني ولربما كان يتخيل الحالة التي كان فيها في ذلك اليوم.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click