ذكريات وتجارب - الحلقة الخامسة عشرة

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

ذكرت في نهاية الحلقة السابقة اطلاق سراح الزميلين علي سيد عبد الله وحسن حمد امير بدون تحقيق بعد اعتقالهما لعدة ايام. لم يكن

هذا في رأينا سوى تدارك المباحث خطأها الفادح عندما تسرعت في اعتقالهما قبل ان تستكمل وتوثق معلوماتها بالقادر الكافي، وادراكا ان أي تحقيق سيكشف طبيعة شكوكها او التهم التي تحوم حولهما ولهذا اعتبرت اطلاق سراحهما اقل ضررا ويمنحها فرصة للمتابعة. على كل تأكد لنا بما لا لبس فيه ان اسماءنا كلها او بعضها اصبحت ضمن قائمة المشتبه فيهم وان الامر لم يعد مجرد هواجس ومعلومات قد تخطئ وتصيب.

وتصادف اطلاق سرحهما مع اطلاق سراح المناضل عثمان عبد الله حرك من معتقلات اسمرا حيث قضى عدة اشهر. عثمان من ابناء حرقيقو عاش مغتربا في السعودية قبل التحاقه بالدفعة الاولى التي تدربت بإحدى الكليات العسكرية في سوريا حيث تخصص في الاعمال الفدائية ومن ثم توجه الى الميدان. اعتقل مع زميل له في اسمرا بتهمة التخطيط لعملية فدائية الا انهما انكرا ما نسب اليهما جملة وتفصيلا ولم تستطع المباحث اثبات العكس.

كان عثمان اول عسكري نلتقي به حيث عقد لنا عدة جلسات تنويرية تناول فيها الحياة النضالية بصفة عامة وتجربته الشخصية في الميدان والمعتقل ولاسيما اساليب التحقيق والتعذيب التي تمارس على لمعتقلين الوطنيين لحملهم على الاعتراف، وسرعان ما تلقى اشعارا بالتوجه فورا الى منطقة بركة حيث بدأ الاعداد لتوزيع القوات الى نظام مناطق منها تأسيس المنطقة الرابعة - منطقة البحر الاحمر - وبمعنى اخر اصبح وصول الجبهة وشيكا.

وريثما يتم هذا، تحرك كل منا الى جهة، فسافر الزميل علي سيد عبد الله الى اسمرا وانا والزميل حسن حمد امير الى قندع الثائرة، وكان عدد الوافدين اليها في هذا الصيف من عام 1965 قد بلغ اعلى مستوى. ليس من باب المبالغة والمحاباة اذا قلت اننا، ولاعتبارات موضوعية عديدة، كنا نرى في شبابها الرافد الثاني بعد تأسيس المنطقة. فمنذ انطلاق الحراك الوطني في مرحلة تقرير المصير، لم ينقطع الدور الوطني الرائد الذي انتهجته العديد من قيادات البلدة ووجهائها حتى بعد ان بلغ بعضهم مناصب ادارية عليا وان اختلفت وسائل تعبيرهم تكيفا مع طبيعة كل مرحلة ومقتضياتها، كما تم الاشارة الى بعضها ضمن حلقات سابقة.

ولعل الحراك السياسي الاكبر الذي عايشته الاجيال ما بعد نظام الاتحاد الفيدرالي كان عام 1961 عندما زجت الحكومة بكوكبة من ابرز ابناء البلدة الوطنيين في غياهب السجون بتهمة الانتماء الى انشطة سياسية وطنية قابلها الاهالي بهبة كبيرة استمرت طوال فترة اعتقالهم ما يؤكد توارث المجتمع الوعي والحس الوطني. اذكر من المعتقلين، على سبيل المثال، المحامي اسماعيل حاج محمود، الاستاذ سعيد خليفة محمد، الشيخ صالح الولا والاستاذ محمد مسلم وغيرهم ممن لا تحضرني اسماؤهم.

وحتى المحاولة التي قامت بها الحكومة لقهر الشعب وارهابه من خلال تعليق جثمان الشهيد محمد سعيد شمسي لعدة ايام على شجرة على قارعة طريق لعدة ايام، جاءت بعكس ما توقعته الحكومة ولم تعمل له حساب، تأججت المشاعر العدائية للحكومة اذ تحولت هذه الشجرة الى رمز ومزار يستلهم منه المواطن قيمة الكرامة الانسانية، واطلق عليها البعض ’الشجرة المباركة‘ واشتق منها اخرون نكات سياسية لاذعة احداها بحادث طبيعي.

اصابت البلدة في احدى الليالي عاصفة هوجاء اقتلعت بعض الاعمدة الكهربائية وقطعت اسلاك بعضها وتحديدا العمود القائم امام الشجرة مباشرة، وفي الصباح داس حمار سائب سلكا مكشوفا فنفق صعقا. صيغت هذه الحادثة بعدة طرق منها: ان حمارا يئن تحت وطأة حمل ثقيل وصاحبه كانا يقفان بالقرب من هذا العمود. كان الرجل صاحب الحمار يصف لزميل له المشهد العام لحظة تعليق الجثمان والغضب العارم الذي عم الاهالي. فرد المسمع متأثرا ’انه الغلب، ولا يرضى بالغلب الا حمار!‘ هنا غضب الحمار وحاول رفس القائل الا ان احد حافريه لامس العمود المكهرب فأصيب بماس كهربائي، وان تنظيما حميريا اعلن استشهاده بينما يؤدي واجبه!‘.

اما الموقف الثاني، كان الاخ ادريس محمد فرج والاخ محمد ادم اشهر (مرع) سقا في البلدة وكان بينهما اختلاف في الخلق والاخلاق، فمحمد فارع الطول فاتح اللون مرح يضحك حتى مع حماره اما ادريس قصير القامة، بدين الجسم، اسمر اللون، يبدو عبوسا وهو يضحك، ولكنهما زميلان بينهما منافسة مهنية. شعر ادريس بتراجع ادائه فأستبدل حماره باخر ريفي، ولكنه لم يجد من يشترى او يأخذ حماره المتهالك الذي عافته حتى الذئاب، فكلما طرده عاد اليه. نصحه محمد بدفعه امام احدى شاحنات شركة دنداي ويحصل على تعويض مجزي. انتظر ادريس خلف بار لمبا وبمجرد ان ظهرت شاحنة نازلة من الكبرى سحب الحمار الى وصل بداية الطريق ثم تسمر الحمار في مكانه، فبدأ ادريس في دفعه من الخلف ولم يفلح الا قليلا قبل ان تظهر شاحنة من امام العيادة بعد عشرات الامتار لم يكن ادريس قد لاحظها فاذا بالحمار يقفز الى الامام ويهبط المنحدر وينطلق باتجاه منطقة سكة الحديد بينما كاد ادريس يختفي بين العجلات. اتهم ادريس محمد بمحاولة التخلص منه لا من حماره فاتسعت الفجوة بينهما. وكلما سئل ادريس عن مصير حماره المختفي قال ’ تحابرا‘ أي انضم الى جماعته – ثورة حمير ضد ظلم الانسان! وفي النهاية ’تحابرا‘ ادريس نفسه بالجبهة‘. عندما سألته عن هذه القصة اقر ادريس ببعضها ولم يتذكر البعض الاخر. لم اجد في قندع عندما زرتها بعد الاستقلال الا ادريس ومحمد. على ضوء المآسي التي يعيشها الانسان كتبت خاطرة تحت عنوان ’وللحمير كانت ثورة‘ لم تنشر بعد.

حالة الجفاء بين الحكومة والاهالي حالة معاشة بشكل يومي ظاهرة للعيان حيث لم يحصل ان توقفت سيارة حكومية سواء كانت خاصة بالجيش او البحرية في البلدة لا للتبضع ولا للفسحة ولم يروا في قندع سوى معبر من والى.، وكانت الحكومة تدرك تماما مدى حالة الاحتقان المتفاقمة ضدها، ولهذا حاولت تلطيف العلاقة او ابداء حسن النية من خلال اجراء مباراة ودية بين فريق البحرية وفريق قندع وتم الاستجابة لها. من اللاعبين الذين اذكر اسماءهم: الحارس العملاق محمد سعيد حاج محمود، محمود سعيد سالم، عبد القادر حمد درير، عبد الصمد حاج محمود، منصور محمد منصور، احمد عمر (سوداني) نجاش مصطفى، عمر تركاي، حمدو (بابور - للأسف نسيت اسمه الكامل) ادم فاقر (لست متأكدا) علي نهاري، محمد سعيد احمادو، ادريس بيني (جرمني) محمد صالح (امبيع). وكان الحكم الرياضي المخضرم الاستاذ ادريس زبوي.

كما كان متوقعا لم تخل من شحن نفسي ومعنوي بالنظر الى الاعتبارات السالفة الذكر ومن الجانبين، وبفضل روح التحدي وارضية الملعب فضلا عن تشجيع جماهيري الاكبر في تاريخ البلدة، تحكم فريق قندع على سير المباراة وسجل هدفه الاول في الشوط الاول، وفي الشوط الثاني، احتسب الحكم، رغم معارضة فريق البحرية، ضربة جزاء لصالح فريق قندع نتج عنها هدف ثاني تبعتها خشونة ومشادات ثم اشتباكات بالأيدي شارك فيها بشكل واخر مشجعو فريق البحرية والجماهير بشكل كشف عمق الشرخ القائم بين الطرفين.

لملم فريق البحرية ومشجعوه انفسهم وغادروا البلدة ليعودوا صبيحة اليوم التالي مستعدين للانتقام وباغتوا من كان متواجدا حوالي مدخل السوق بالضرب تداعي على اثره الاهالي بما لديهم فجاء ادريس زبوي حاملا سيفه، وكسر محمد شيخ ادم طاولات قهوته الواقعة يمين المدخل ووزعها على الاهالي بشكل اعمدة للدفاع عن انفسهم ومن ابرز من حمسوا وشاركوا، حسب ما سمعت فيما بعد، كان خليفة حاج محمود. لم تنته المواجهة الا بعد استقدام الشرطة العسكرية للبحرية من ماي حبار وقوة من البوليس. وتكررت المواجهة في اليوم الثالث اثر قيام جنود البحرية برش المارة بالماء من فوق سيارتهم ورشقهم بحجارة قبل ان تنطلق بسرعة ما ادى الى تدخل الحكومة ثم التوصل مع حاكم المدينة على انهاء المشاكل، الا ان اطفال حي حديش عدي الذين لم يسمعوا بخبر "بوقف اطلاق النار" فاجأوا سيارة مكتظة بجنود واصابوا العديد منهم حتى كادت السيارة تصطدم بجسر صغير.

حسب ما سمعته وليس نصا من الاستاذ صالح عبد القادر بشير على لسان الكفالييري عمر سفاف حاكم البلدة، بحكم العلاقة الشخصية والسياسية بينهما، في هذا الشأن، انه تلقى خطابا شديد اللهجة من ممثل الامبراطور يشجب فيه الاحداث ويعتبرها غير عفوية ولا يمكن فصلها عن بعضها وفندها على النحو التالي: اولا، ان الفريق الذي لاعب فريق القوة البحرية تكون في معظمه من مدرسين وموظفين يفترض ان يكونوا اوعى مما قاموا به من الانفعال والاندفاع نحو المواجهة. تجدر الاشارة الى ان عددا من هؤلاء اللاعبين كان من اوائل من التحقوا لاحقا بالجبهة.

ثانيا، ان الاهالي الذين تكالبوا على الفريق في اليوم الثاني كانوا مزودين بأسلحة بيضاء ما يعني انهم كانوا مستعدين ولم يقوموا برد فعل على ما بدر من الطرف الاخر، ولا ينسجم هذا مع حماس رياضي بقدر ما يعنى عداء مسبق. ثالثا، ان قيام اطفال برشق جنود من البحرية بالشكل الذي جرى ليس بمبادرة ذاتية منهم انما بتوجيه.

ما دفع ممثل الامبراطور الى هذا الاعتقاد ان الموقع الذي هاجم منه الاطفال - امام عد عوتا - يعتبر افضل مكان على عموم الطريق سواء للهجوم او الانسحاب والاختفاء بسرعة.

رابعا، ان الهتافات الاستفزازية باللغة الفاشية بمثابة توجيه اهانة للامة الاثيوبية بأثرها وذات دلالة ابعد من المباراة.

يستشف من رسالة ممثل الامبراطور ان اكثر ما الامه هو الهتاف باللغة الايطالية، فكلمة (دوي) في نظره لم تعن اثنين او هدفين بل التذكير بالهزيمة التي الحقتها بهم ايطاليا والتي يتهمون فيها الارتريين بالتحالف او الانحياز الى جانب الايطاليين. ولهذا فعلا كان الشخص الذي اطلق هذه الكلمة ’دوي‘ في غاية الذكاء حيث لغمهما بمضمون سياسي لا يفهمه الا الطرف الذي تعنيه كما حصل.
وفي خضم كل هذه الارهاصات والتفاعلات والانفعالات، كانت هناك نقطة مهمة على بساطتها تسترعي الانتباه. سيرت شركة ابرا في هذه الايام خط مواصلات بين اسمرا وماي وعوي عبر قندع. يصل قندع في الساعة الرابعة والنصف مساء ويعود في العاشرة والنصف صباحا. كان استقبال الاهالي وتوديعهم باص الرابعة مساء القادم من اسمرا ومصوع امر روتينيا منذ عشرات السنين، وقلما كان يهتم احد بالباص المتجه الى ماي وعوي. اما في عودته صباحا فكانت تنتظره اعداد غفيرة. ومن خلال تتبع الاسئلة والاحاديث مع الركاب وجلهم من القرويين تشعر وكأنهم يتحسسون اخبار الجبهة، فمنطقة ماي وعوي ليست بعيدة كثيرا عن منطقة شعب التي هاجمتها الجبهة واستشهد فيها محمد سعيد شمسى. فيمكن ان تظهر الجبهة فيها او حواليها، قد يكون هذا الانطباع صحيحا وينطبق على الجميع، وقد يكون ناجما عن حالة الترقب التي كنا نعيشها.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click