ذكريات وتجارب - الحلقة الاولى
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
’ان من كتبت عليه الخطى مشاها، ومن لم تأته الاقدار اتاها‘ وان زعم المرء انه صاحب المبادرة والقرار في ما يقوم به من تصرف
وسلوك.
كانت الامنية ان تنشر عذه المواضيع بعد استكمال مراجعتها مع كافة الاصدقاء والزملاء الواردة اسماؤهم وارفاق وثائق وخصوصا المتعلقة منها بالاعتقال، التحقيق (التعذيب)، المحاكمة وحياة السجون التي عشتها حتى تكتمل الصورة وتكون ذات مصداقية اكبر الامر الذي لم يتحقق بالمستوى المطلوب لاسباب كثيرة ومعروفة، ومع هذا، رأيت تقديم ما احسبه حقيقة لئلا يفقد تاريخ مرحلة مهمة قد تكون فيه فائدة لاجيال صاعدة.
وعلى امل ان اعود اليها مستقبلا، سوف اتجاوز مرحلة الطفولة، العلاقات الاسرية، التقاليد والعادات وبعض الذكريات عن الباشا صالح احمد كيكيا، لاستهل السرد من اللحظة الاولى التي اقحمت فيها في الشان العام، وفي سن مبكرا جدا اقحاما. ونظرا لتقارب التواريخ بل وتداخل بعضها، سيكون التركيز على الاحداث اكثر، وتناول المواضيع التي سبق التطرق اليها بإسهاب تحت عناوين متفرقة سأختزلها ما لم يتطلب السياق ايرادها.
كان في اليوم الاول من السنة الدراسية من عام 1962، وبينما يتعانق الطلبة يتبادلون اخبار الاجازة وذكرياتها في حالة فرح وترحاب، اخبرني زميلي احمد صالح كيكيا العائد من اسمرا ان الدراسة هناك معطلة بسبب اضراب طلابي وان الحكومة اعتقلت اعدادا كبيرة منهم. لا اذكر تماما ما الذي دعاني ان اشير اليه بضرورة نقل المعلومة الى الطلبة في الصفوف المتقدمة، وبعد تردد وافقني الرأي شريطة الا أذكر اسمه نتيجة تلقيه تحذيرا من العائلة.
اسرعت الى الاخ يحي ادريس نائب واسريت اليه بما علمت، ولعلي اخترته لعوامل ثلاث. اولا، انه كان محبوبا من قبل جميع الاطفال لتواضعه وحسن تعامله ومراعاته لهم منذ ان كان بائعا متجولا بين الاحياء حيث نشأ يتيما كادحا ثم عندما اسندت اليه الادارة تنظيم الصغار في الطابور الصباحي واثناء حفظ النظام في الفصل في حالة غياب مدرس ومساعدتهم في مراجعة دروسهم. والاهم من كل هذا، انه ومنذ ايقاف المدرسة صرف الادوات المدرسية والقرطاسية بالمجان عقب وفاة الباشا، ظل، بالرغم من ظروفه المادية، يشتري ما استطاع من هذه المستلزمات من مصوع بسعر الجملة ويبيعها على الطلبة بسعر التكلفة واحيانا بالآجل وحتى بالمجان وخصوصا اوراق الامتحانات ما اكسبه حب وتقدير الجميع، ومن هنا استمدت الجرأة لأخبره بأمر الاضراب.
وفي مساء نفس اليوم، تم الاعلان بين الطلبة عن اضراب مفتوح اعتبارا من اليوم التالي تضامنا مع الطلبة المعتقلين في اسمرا مع التأكيد على التواجد في ساحة المدرسة طبقا للدوام الرسمي. التزم الطلبة بالحضور بدون كتب وقضوا يومهم في الساحة، وقبيل انتهاء الدوام تم الاعلان عن عقد اجتماع عام بين الطلبة ومسئولين حكوميين في الثالثة والنصف مساء في المعهد الديني. كان الوفد برئاسة ضابط برتبة عقيد، على ما اذكر، وشارك في الاجتماع ادارة المدرسة، المدرسون واحد اولياء الامور.
بعد ترحيب المدير بالوفد، تولى الضابط الحديث مستعملا نبرة حازمة مشددا على ان القيام بإضراب بدون الحصول على تصريح مسبق من الجهات المعنية يعتبر خروجا على القانون ثم عدد نوعية العقوبات والعواقب التي قد تترتب عليه، مختتما حديثه بالدعوة الى استئناف الدراسة اعتبارا من اليوم التالي، محذرا ان الحكومة لن تتوانى في اتخاذ كافة الاجراءات اللازمة ازاء اي تمادي حفاظا على الامن العام للبلاد. ثم تساءل ان كان لدى الطلبة ما يودون قوله. رد عليه الزميل حسن سيد عمر مؤكدا ان الطلبة لن يعودوا الى الدراسة ما لم تطلق الحكومة اولا سراح زملائهم المعتقلين في اسمرا، وثنى الطلبة على ما قاله بالتصفيق لينفض الاجتماع وينصرف كل طرف متمسكا بموقفه.
وفي اليوم الثاني، كنا على غرار اليوم السابق في ساحة المدرسة نقضى وقتنا بالجد والهذر عندما اقترح علي احد الزملاء ان نذهب الى منزله لعلنا نتسلى ببعض الصحف والمجلات المصرية كما نعمل في بعض الاحيان، ولما قبلت اقترح اصطحاب الزميلين عثمان حمد امير وعثمان محمد عمر عمرو معنا، وفعلا تمكنا الاربعة من التسلل من الباب الخلفي.
تركنا في المجلس ودخل البيت لربما لإحضار شيء ما حسب اعتقادنا، واذا بوالده الذي تراءى لنا انه فوجئ بوجودنا يدخل علينا. هش في وجوهنا مرحبا وجلس امامنا مستئنسا مسترخيا ملاطفا واخذ يسألنا عن أخبار الاهل، التعليم والمدرسة والمدرسين كما هي عادة الكبار ونحن نسايره برد نمطي ’ بخير، الحمد لله‘. وفجأة انتقل للحديث عما اسماه مشاغبات الطلبة وقيامهم بأفعال لا يعرفون لا ابعادها ولا مدى خطورتها .. الخ. صمت قليلا يتأمل وجوهنا ثم قال ’لعلكم لا تعرفون ان خطوط الهاتف بين مصوع واسمرا قد تعطلت عدة مرات خلال اليومين الماضيين نتيجة ضغط الاتصالات ‘ ولم نتنبه الا عندما اضاف ’بسبب اضرابكم!‘ ثم تساءل وكأنه يحادث نفسه عن الكيفية التي عرف بها الطلبة خبر الإضراب.
بما اننا كنا نعتقد ان جلوسه معنا لم يكن سوى من باب المجاملة لحين عودة زميلنا وان ما يقوله كلاما عاما لسد الفراغ، ارتبكنا قليلا وتبادلنا النظرات، ثم قلنا ’انه مجرد اضراب تضامني مع طلبة معتقلين في اسمرا‘. شعر اننا تفادينا الرد، فارتسمت على وجهه ابتسامه عريضة وقال ’وكيف عرف الطلبة بخبر الاعتقالات في اسمرا!‘ ولأنه لم يسمع ردا مفيدا، استرسل قائلا ان من نقل اليهم الخبر فقد غرر بهم واضاع وقتا ثمينا كان ينبغي الاستفادة منه، وكان سيستمر لولا انه لاحظ تململنا بل تضايقنا من سير الحديث الذي يشبه استجوابا، حيث لم نتعود على مناقشة الكبار حتى في امور عادية ناهيك في امر بهذا القدر من الاهمية. فحاول ان يضفى على كلامه نوعا من البساطة المتكلفة لتهدئة خواطرنا فبدأ بالوعظ ان دور الطالب في سننا يجب ان ينحصر في التحصيل العلمي وليس القفز الى امور ليس مؤهلا لها .. الخ ثم قال ’انطلاقا من هذا الفهم الذي لا يدركه الطلبة بحكم صغر السن وقلة التجربة فقد اطلقت الحكومة سراح كل الطلبة الذين اوقفتهم لبعض الوقت، حفاظا على سلامتهم، لانهم في النهاية ابناؤها وانتهى كل شيء بسلام وعادوا الى مقاعد الدراسة!‘.
حمدنا الله وتنفسنا الصعداء اعتقادا انها النهاية، ولكنه عاد وسألنا بشكل لم نتوقعه ’لماذا لا ينهى الطلبة اضرابهم طالما انتهى هناك‘. حتى نتخلص قلنا له ’ ما زال الاضراب قائما‘، وحسب ما شعرنا هذا ما كان يتوقعه فسألنا ’وكيف سيعرف الطلبة عندما ينتهى الاضراب فعلا!‘. لم نرد عليه لأننا لم نعرف الرد فاستأذناه بالانصراف.
في العصرية من ذات اليوم، كنا الثلاثة نسير معا عندما استوقفنا الاستاذ ابراهيم جابر حسب الله ليسألنا عن سبب اختفائنا من الساحة قبل نهاية الدوام حيث كان، بحكم وشائج القربى فضلا عن كونه مدرسنا، يراقبنا بشدة حتى لا نتسكع في الاسواق. اخبرناه بكل ثقة مكان تواجدنا، ففجاءنا بالقول انه يعرف هذا ولكنه يريد معرفة السبب الذى دعانا للذهاب اليه. وبعد الاستماع الى كامل الرواية قال ’احسنتم انكم لم تقولوا شيئا اخرا، لقد استدرجكم الرجل الى كمين، فقد كان في الغرفة الملاصقة للمجلس الذى كنتم فيه مخبران يستمعان الى ما يدور بينكم، ابتعدوا عنه!‘.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.