ذكريات وتجارب - الحلقة الخامسة
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
في الغالب، لا تتوحد رؤى الشعوب ومواقفها ازاء أي امر مهما كانت حيويته حتى يبلغ السيل الزبى وبمقدار ملامسته المصلحة
والكرامة الشخصية لكل فرد او تكاد، وعندئذ ’مكره اخوك لا بطل‘ وقلما تولد البطولات الا من رحم المكاره ودفع الضيم والهوان. فما لم يعرفه حرقوت اباي والامبراطور هيلي سلاسي، وكلاهما من نفس الطينة او العجينة، كما يقول المثل، انه لا يحكم على الامور بأوانها انما بمآلها.
فبدلا من اعتبار فوزه بشركة مواصلات مصوع مكسبا تجاريا بحتا يستدعي المحافظة عليه وضمان استمراره واستثماره الى ابعد مدى ممكن من خلال توفير خدمات مناسبة وتعامل حسن، اتسمت تصرفات حرقوت بمنتهى الفوقية والغطرسة النابعة من اعتبارات لا تمت الى الواقع بصلة وكأن الامر كان مقضيا.
وهكذا فعل الامبراطور قبله عندما قاس معدن الشعب الارتري واصالته بأناس قبلوا حذاءه، فلم يؤمن بحق المواطن ولا حرمة المواطنة فطغى وبغى يقتل ويغتال حتى لا يرفع احد رأسه او ينطلق لسانه وان كان من خاصته وممن اعانوه على ظلمه وقهره من امثال الجنرال تلا عقبيت. ولعل توقفه امام مجموعة صغيرة من الشباب اثناء عودته من بلدة فرو وتجاهله في نفس الوقت اعيان البلدة ووجهائها، كما ورد في الحلقة السابقة، لتأكيد على انه لم يقم لاحد وزنا ولا قدرا كما هي شيمة الطغاة الذين يربطون بقاء سلطانهم بمدى إذلال شعوبهم وإضعاف وشائج القربى والتقارب بينها بأساليب يصدقها السذج ويروج لها المنتفعون.
على كل حال، ربى ضارة نافعة. فقد تصرفاتهما الرعناء نتائج ايجابية تمثلت في بروز شباب واع متمرد رافض لإخفاقات الماضي وتداعياتها، اتفقوا وتوافقوا على مقاومة هذا الصلف والاستعلاء، على الاقل، في حدها الأدنى. ومن هذا الفهم والمنطلق اسندوا ادارة الخلاف مع شركة حرقوت والحكومة الى اللجنة تأسيسية لشركة مزمع اقامتها. فجاء قرارها متماهيا مع هذا التوجه.. تصعيد الموقف فبدلا من المطالبة بتصريح لانشاء شركة اهلية الى مقاطعة باصات شركة حرقوت كليا ونهائيا، وفي حالة استمرار الحكومة في تعنتها مع منع باصات شركة حرقوت من دخول البلدة ولو كان عنفا. واستثنى من المقاطعة من يحملون بطاقة شهرية تدفعها جهات عملهم، منهم، على سبيل المثال، العم حسن اري - شركة مياه مصوع، وكذلك من يزودون المدينة ببعض المؤن، منهم العم محمد زبوي والعم حمد دقي - يوردان حليب ابل، العم موسى ادريس والعم احمد ناصر - يوردان خضروات والعمم عثمان ادريس يمني والعم محمد حجي صايغ يوردان لحوم الضأن.
امتثالا للقرار، فقد امتنع كل من ليس له عمل او حاجة ملحة، ولاسيما النساء، من الذهاب الى مصوع. توافق القادرون وجلهم من الشباب، بصرف النظر عن القدرة المادية، على قطع المسافة مشيا على الاقدام، من ناحية لئلا يزاحموا كبار السن وذوي ظروف صحية في سيارات الاجرة، ومن ناحية اخرى منعا للتمايز بين القادر ماديا وغيره. كانت الاجرة بين مصوع وحرقيقو خمسة دولارات (بر) بينما بالباص ثلاثين سنتا. وبالنسبة للقاطنين في منطقة الساحل وخصوصا الكبار فقد استخدم اغلبهم السفن الشراعية بسبب قرب المرفأ اما الشباب منهم قطعوها مشيا.
مر اليوم الاول، بالرغم من قل عدد السيارات، بسلاسة نظرا لتعاون الجميع حتى من الاجرة تارة يدفع القادر كامل الاجرة، واحيانا تدفع الاجرة بالتساوي، وفي بعض الاوقات يدفع المقتدر اربعة دولارات ويدفع البقية ما يعادل اجرة الباص. وفي اليوم الثاني تحول معظم اصحاب سيارات الاجرة من اهل المنطقة بصفة خاصة الى هذا خط، ليس لتحقيق مصلحة مادية فقط بل وتعاطفا منهم، فتواجدوا في البلدة بشكل مستمر حتى لو لم يكن هناك طلب، وكان يتقاضى بعضهم في بعض الاحيان ما تيسر او ما يعادل اجرة الباص وخصوصا من النساء، اذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الاخ هلال حامد. وعمليا تجاوز الموضوع مستوى حرقيقو وشركتها المقبلة الى شأن عام يخص المنطقة وخصوصا بعد ان توالت مظاهر التعاطف والتأييد من جهات وشخصيات تمثل مجتمعاتها. انزعجت الحكومة كثيرا من تطور الوضع وما قد يصل اليه وخصوصا بعد فشل محاولاتها لإجهاض المقاطعة. واخيرا وبعد ان استيقنت ان الامر قد يخرج من نطاق سيطرتها اصدرت مرغمة التصريح المطلوب لإنشاء الشركة.. ولكن مع التوصية لإنهاء المقاطعة لحين ممارسة الشركة نشاطها فعلا ما لم يلتفت اليه احد.
الشيء الذي لم تتوقعه لا الحكومة ولا شركة حرقوت ولم تعملا له حساب وكان مفاجئا لهما تسديد الشيخ ادريس عمر كيكيا، احد ابناء البلدة الاثرياء، قيمة الباصات المتفق عليها فورا. اما المفاجأة الثانية التي ابهرتهما فقد كان قيمة الاكتتاب وعدد المكتتبين. يمكن الجزم هنا انه لم تتخلف عنه ولا عائلة واحدة حتى تلك التي انتقلت الى مدن اخرى وبعيدة ناهيك في المنطقة وداخل البلدة. ولعل موقف العم محمد نور خطيب يعكس هذا الواقع جيدا. كان رجلا ارملا وحيدا مسنا يعمل سقا تارة على كتفه واخرى على حمار له، ضعيف الحال والحيلة بالكاد يوفر قوته اليومي، ومع هذا، اصر الا يغيب اسمه من هذه اللحظة التاريخية فاكتتب بسهم او سهمين، وكان ممن حياهم الحضـــور بحرارة. انها الغيرة والحمية، عكس ما نراه في شباب هذا الزمن.
حضرت الاجتماع الذي عقد لتوزيع سندات الاسهم، في المدرسة عصرا اقرب الى تجمع صلاة العيد فقد حضره الكبير والصغير على السواء، كلهم في قمة السعادة وروح معنوية العالية.
كان رئيس اللجنة من ينادي باسم كل مكتتب ويذكر عدد اسهمه ويقابله الحضور بالهتاف والتصفيق استحسانا وعرفانا. ومن المواقف الطريفة التي حصلت، عندما نودي باسم الشيخ محمد ادم كان الهتاف والتصفيق عاليا وقويا استمر لعدة دقائق لحين ظهورالمنادى، وفي الاخر قام العم محمد ادم بخيت محييا الحضور بيديه يمنة ويسرى على طريقة الرؤساء فزاد التصفيق وعلا الضحك والتصفير لفترة اطــول. والسبب في هذا، عندما قرأ رئيس اللجنة اسم الشيخ محمد ادم تبادر الى ذهن الحضور انه العالم الشيخ محمد ادم مدرس دين في المدرسة وكان محبوبا جدا، ولكن العم محمد ادم بخيت الذي كان يعرف تماما انه هو المقصود تريث مستمتعا بالتصفيق ثم نهض وقال لهم (انا ايضا شيخ!). كان هذا الرجل طيبا متواضعا مرحا جدا وكان يعمل في بواخر تجارية، بالمناسبة انه خال الزميلين سعيد وسالم دومان. وكان والده، على ما اظن،العم سعيد ود بخيت يزورنا باستمرار في خلوة شيخ ادريس شيخ حامد وكان يحب ان يناديه الناس ب (قبر سني - العبد الصالح) لعلاقة وثيقة تربطه مع عد شيخ.
وسط مشاعر الفرحة العارمة والاعتزاز بالنفس دخلت الباصات الخدمة الفعلية وزغاريد الامهات تتناغم مع ابواقها ذهابا وايابا، وتدريجيا عادت الامور الى سابق عهدها وبدت الازمة كأنها قد انتهت، اما اللجنة الادارية والفئة الواعية كان لهم رأي اخر، ان ما تحقق مجرد حلقة من حلقات صراع متواصل مع خصم له من الاطماع والاحقاد ما تجعله لا يستكين ولا يرضخ للأمر الواقع.
وبالفعل لم يتأخر رد شركة حرقوت فقد خفضت قيمة التذكرة من ثلاثين سنتا الى عشرين ومجانا في بعض الاحيان لإرهاق الشركة وافلاسها، ولكن بفضل وعي الاهالي واستعدادهم لتحمل أي عبء مادي ثم بفضل الشباب الذين لعبوا دورا كبيرا في توجيه الركاب وخصوصا الضيوف والقادمين من الارياف الى باصات الشركة الاهلية، لم تتأثر الشركة مع انها حافظت على نفس القيمة، واستمرت باصات شركة حرقوت عملها خالية الا ما ندر. ولم يكن مستغربا والحال هذا، ان يتفرق بوليس حركة المرور، بطلب من حرقوت، وفي النهاية كلهم شبكة مصالح واحدة وغبي من يحاول التفريق بينها، لملاحقة ومضايقة باصات الشركة وافتعال مخالفات واهية تارة تمنعها من التحرك لساعات واخرى تفرض عليها مخالفات باهظة تفوق في مجملها دخل الشركة اليومي، بينما باصات شركة حرقوت حرة طليقة تسرح وتمرح بدون رقيب. ومجددا عاد التوتر والاحتقان وبدأت المشاحنات مع بوليس الحركة والاحتكاك بهم حتى كاد ان بؤدي الى اعتداء.
ليس هذا فحسب، فقد تمادت شركة حرقوت اكثر عندما لجأت أجرت شخصا تمكن من تهشيم الزجاج الامامي لاحد الباصات اثناء مروره بمنطقة عداقة في الساعة السادسة مساء بهدف بث الرعب في قلوب مرتادي الباصات ودفعهم الى تجنبها.
كان هذا الباص وخصوصا في شهر رمضان المبارك يحظى باستقبال خاص حيث يحضر الركاب لوازم الافطار من اطعمة وفواكه وثلج.. لهم ولغيرهم، فاستبطأ المستقبلون سماع ابواقه التي تنطلق عادة قبل وصوله مشارف البلدة، في يوم شتوي تتلبد السماء بسحب تكاد تحيل النهار ليلا. وبينما تتعالى التساؤلات وتشنف الاذان، على غير العادة، تسلل الباص الى المحطة كالثعبان استغرب له الجميع، والاغرب منه نزول الركاب في وجوم وكأن على رؤوسهم طير. كنت قريبا اشاهد واسمع مستغربا كغيرى في التأخير الواضح ثم الصمت المريب. ومجددا ارتفعت بعض الاصوات من هنا وهناك تسأل ’ماذا حصل - ماذا حصل‘، لا احد يرد واستمر الركاب في النزول والانصراف كل الى جهته ما زاد من اضطراب البعض وبدأ الهياج ’ماذا حصل، ماذا هناك‘ وفي الاخير قال احد الركاب ’هشم زجاج الباص الأمامي بحجر ولولا لطف الله لحلت بنا كارثة جراء تناثر الزجاج‘. وانطلقت التساؤلات: ‘من فعل هذا، كيف حصل، هل.. الخ.. ‘ لا احد يعرف او يرد الى ان سمعت شخصا يقول مستاء ’من تظنون سيكون..عدا حرقوت!‘.
شعرت بهذه الجملة وكأنها طعنة، وفعلا كانت كذلك. تدريجيا تفرق الناس الكل يحاول اللحاق بالفطرة في منزله عدا انفار معظمهم من الشباب من بينهم الزميلين عثمان حمد امير واحمد سعيد عثمان منسعاى، رأيتهما واقفين في زاوية مشدوهين. اخبرتهما ما قاله الشخص عن مسئولية حرقوت، وانه اذا لم يتم الانتقام منه فورا سيكررها غدا مع الباصات الاخرى الى ان تخلو له الساحة.
واستطعنا على مدى ثلاثة ليال متتالية تهشيم واعطابنا ثلاثة من اجد باصات شركة حرقوت استوردها لمنافسة باصات الشركة الاهلية. كل ما قامت به الشرطة انها استجوبت بعضا من اعضاء مجلس ادارة الشركة الاهلية والوجهاء ثم احتجزت عددا من الصبية.
الخطأ الذي وقع فيه حرقوت اباي، اولا اعتقد انه لن يجرأ احد من الاقتراب من باصاته ناهيك تهشيمها، وثانيا ان اللجنة هي التي ستبت في امر الحادث وتطلب من الشرطة التحقيق لإيجاد الجاني ما يستغرق وقتا طويلا ولا يؤدي الى نتيجة، ويكون هو بكل بساطة قد اوصل رسالته ونجا بفعلته. ولم يخطر بباله ان هناك من الشباب من استنبط من تجارب الحياة ان من لم يأخذ حقه بيده ويثأر لنفسه راجيا رفقا من خصمه لا ينال الا المزيد من الهوان.
سمعت في السجن من شخص قريب لتسفا يوهنس برهي الذي كان نائب ممثل الامبراطور اسراتي متحدثا الى الاخ الشهيد احمد شيخ ابراهيم فرس ضمن مواضيع عامة بشأن حرقيقو انه حضر نقاشا جرى بين تسفا يوهانس وحرقوت اباي سأل فيها تسفا يوهنس شامتا حرقوت كيف انه توقع ان تعمل شركته في حرقيقو بعدما اصاب احد باصاتها، فرد عليه حرقوت ان ما ادهشه كثيرا ان الرد جاء في اقل من ساعة واحدة!
اسعدني سماع هذه المعلومة اذ كنت اخشى ان قد تسرعنا، وما اسعدني اكثر ادراك حرقوت متأخرا اننا شعب لنا من الكرامة والعزة ما تجعلنا ندافع عن انفسنا، ولولا هذه الصفعة لاستمر حرقوت في اعتقاده اننا اوباش لا يهشون ولا ينشون كما يقول المثل، ولو لم ننتقم منه نحن لفعلها غيرنا وربما بشكل اقوى. وهذا خير دليل على ان من اعماهم الحقد والطغيان لا يدركون ان الاجيال تختلف عمن سبقها في حساباتها واعتباراتها ومفاهيمها ايضا. وفي النهاية شرب هيلي سلاسى وحرقوت من ذات الكأس.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.