ذكريات وتجارب - الحلقة الحادية والعشرون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
لقد ذكرت في الحلقة الاخيرة ان الاسبوع المقبل سيكون حاسما لكلا الطرفين، فعلى سبيل المثال، مجموعة المخبرين التي كان يتم
انزالها بالسيارات مع حلول الظلام على اطراف البلدة لمراقبة مداخل البلدة ومخارجها توسع نشاطها اخذت تجوب البلدة ليلا ونهارا داخل لتعقب العناصر المشتبه فيها. فمن الاحداث التي تم رصدها، فعلى سبيل المثال، خرج الاخ صالح عبد القادر بشير في احدى الليالي من منزل الاخ صالح جابر وراك متنكرا فتابعته هذه المجموعة حتى تعرف المنزل الذي سيدخله الا انه سلك بها الى خارج البلدة الى ان تراجعت خشية ان تقع في كمين.
ولهذا، في محاولة للتعرف على شخصية هذه المجموعة وارباك عملها ارتأى الزملاء ضرورة القيام بمشاوير ليلية لا علاقة لها بالعمل كأداء صلاة العشاء في مساجد بعيدة او زيارات عائلية. وضمن هذا المسعى، بدأت المذاكرة مع الزميل محمود عثمان حمد (الدنمارك) في منزله الذي يقع وسط البلدة وبالأحرى على طرف السوق بينما يقع منزلي في اقصى الغرب. لاحظت اثناء عودتي حوالي الساعة الثانية عشرة في ليلة قمراء شخصا يقف بين عد اب الامين ومسجد حجي احمد فاحتميت بدار عد حمدان الى ان اقتربت منه كثيرا في شوارع واسعة فلم يجد مخبأ سوى شجرة دوم خلف عد الامين. انتظرته حتى اضطر للخروج متظاهرا أنه كان يقضى حاجته، اقتربت منه وعرفته بنفسي مشيرا الى منزلي القريب وسألته سبب وقوفه في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل. تحاشى النظر الي مكتفيا بتمتمات واشار بيده وكأنه يقول انه كان عابر سبيل وهرول، المهم لقد تعرفت عليه من خلال من حجمه وملبسه، فقد ظهر هذا الشخص في البلدة بالتزامن مع ظهور الكابتن محمد ابراهيم ولفت نظر بعض الزملاء بالرغم من تشبهه الكبير بالأهالي، وعرفوا انه يقيم مع الشقيقين احمد وابراهيم حجي عبده وقيل انه قريب زوجة احدهما، ولم تثار حوله في حينه اية شكوك. سمعت فيما بعد انه قتل في كمين نصبته الجبهة لقوة من فرقة الكوماندوس في منطقة دماس عام 1967.
من الموقع الذى كان يقف فيه واتجاهه، تبين لي انه كان يراقب البوابات الثلاث لدار عد سبى الكبير جدا ذي بوابتين في الجهة الشرقية واخرى في الجهة الشمالية. قمت بجولة حول منزلي استكشف اذا كان هناك من يراقب، ثم استطلعت دار عد سبي من الجهة الخلفية حيث توجد ثلاث ابواب صغيرة (طاقة). وبعد التأكد تسللت الى منزل الاستاذ محمود سبي واخبرته ما رأيت وعلمت منه عدم وجود احد من المقاتلين وان الاشياء المهمة في مكان بعيد. حوالي الساعة الثامنة من صبيحة اليوم التالي سمعت ان المباحث قد فتشت منزل الاخ عثمان اسماعيل سبى وانها تقوم بتفتيش دكانه فأسرعت اليه، وجدته متماسكا وفهمت منه في كلمتين انه لا يوجد ما يخشى عليه. وبهذا اتضح انه هو الذى كان مراقبا.
حدث اعتقال الاخ عثمان اسماعيل بعد يومين او ثلاث من ايصال بعض المستلزمات من احذية وملابس داخلية واشياء اخرى الى الميدان. وبما انني لم اشارك في هذه العملية لا استطيع تحديد الكيفية ولا وصف الصعوبات التي واجهت من قام بها من الزملاء في ظل استنفار المباحث ومراقبتها كل واردة وشاردة. على كل حال، يمكن القول ان معظم الاعتقالات التي جرت كانت نتيجة شبهة بسبب التردد الى الريف او امتلاك محلات تجارية. ومع هذا، كان اعتقال عثمان اسماعيل بمثابة دق ناقوس خطر جعل تصفية الكابتن محمد ابراهيم حيوية جدا بكل ما تعنى الكلمة، على الاقل، لعرقلة عمل المباحث لبعض الوقت. وبلا شك، كان هو ايضا يدرك تماما ان نهايته اصبحت وشيكة بدليل تغيير مواعيد مجيئه والزمن الذي يمكثه في البلدة.
بناء على القرار الذي تمت الاشارة اليه سابقا والقاضي بتنفيذ العملية خارج البلدة، تم تكليف مجموعتنا بالتناوب على رصده طوال ساعات النهار واشعار الفدائيين في منزل الشيخ سليمان شيخ حامد بها فورا. كان الزميل المكلف في هذا اليوم مرابطا في قهوة عمر طرم عندما وصلت سيارة الكابتن محمد ابراهيم مع حلول الظلام وبعد ان تأكد من وجوده فيها، طار الى الفدائيين وهم عثمان عبد الله حرك، صالح جابر توكل، حسين ادريس باري وامبيريقاي وهم بدورهم انطلقوا الى المكان المحدد واخذوا مواقعهم ينتظرون الصيد الكبير بفارق الصبر. وها هي انوار السيارة تبشرهم واذ هم على وشك امطارها بالرصاص تدخلت عناية الله مرة اخرى. في مصادفة عجيبة، كشفت انوار باص شركة حرقيقو القادم من مصوع لمعان لسان احمر يخرج من فم اسد اسود على جانبي سيارة صفراء من نوع Volkswagen Minibus خاصة بشركة اجيب فأمسكوا في الوقت المناسب. كانت تقل نحو عشرة من عمال الشركة ويقود العم احمد نعمان (او نعمان احمد). ولولا هذا التزامن لحلت بالبلدة فاجعة كبيرة لها تداعياتها. كان لون سيارة الكابتن محمد ابراهيم ازرق.
مكثت المجموعة في مكانها الى وقت متأخر من الليل لعل وعسى تحقق هدفها ولكنها غادرته بخفي حنين، وكان السبب في هذا عدم قضاء الكابتن محمد ابراهيم في البلدة اكثر من نصف ساعة وغادر لربما قبل ان يصل الزميل الى موقع الفدائيين، وتزامنا مع خروج سيارته دخلت سيارة شركة عجيب. عاد الفدائيون الى نفس الموقع في ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي وكمنوا تحت جسر يمر تحت الطريق الرئيسي لا يزيد علوه عن متر ونصف تقريبا قريب من بوابة شركة اجيب الاولى، ميزة المكان انه يسمح رؤية اية سيارة قادمة من الجهتين وهي على مسافة بعيدة. اما سلبياته انه يقع بين بحر شرقا ومن الناحية الغربية شبه تلال جرداء ليس فيها حجر او شجر تمتد لأكثر من كيلومترين.
حوالي الساعة الحادية عشرة شعر طفل وهو يحاول رد غنمة كانت ترعى في مدخل الجسر بحركة غريبة فاقترب اكثر، وبينما المجموعة تحاول ابعاده بعد ان ظهرت سيارة جيش قادمة من مصوع تارة قولا واخرى برمي حجارة الا انه تلبث بمكانه واخذ يحملق فيهم تارة والى السيارة القادمة اخرى الى ان مرت. ذكر لي الفدائي حسين باري انها كانت لحظات عصيبة جدا لم يعرفوا كيفية التصرف فيها حتى انه اضطر في احدى المرات الى رفع رأسه قليلا للتأكد من عدم توقفها فوق الجسر لمحاصرتهم وانه متأكد ان احد الجنود فعلا راه لكنه لربما ظنه زميل الراعي.
بالضرورة كان مرور هذه النجدة الى منطقة زولا مؤشر واضح الى ان الجيش على وشك القيام بعملية ما وبعبارة اخرى ان ساعة الصفر هنا ايضا قد حانت. وعليه، تم الاتفاق على صعود القوة الى منطقة ريعوت فورا وتجنيد من يساعدها في رحلتها من شباب البلدة. علما انها ظلت طوال هذه الفترة مختبئة في مغارة صغيرة في منطقة شديدة الوعورة، لا يغادرها احد الا ليلا لجلب ماء واحيانا للاستطلاع مع تجنب اشعال نار نهارا حتى لا يستدل العدو الى مكانها من خلال دخان او تحليق نسور.
بالطبع ليس من السهل على شخص لم يعايش الواقع الفعلي اعطاء وصف دقيق لمشاعر وانفعالات جندي محشور في حيز ضيق غير ملم بمدى الجهود المبذولة في الخارج سوى ان العدو يجوب المنطقة طولا وعرضا بحثا عنه. لهذا تظل محاولتي هذه قاصرة لا تعدو كونها ملاحظات التقطها من افواه من كان يأتي من هناك، الا انني، بكل تأكيد، كنت ادرك واعايش مدى قلق وتوتر كافة الزملاء خشية الا يفوا بوعدهم ويخذلوا هؤلاء الجنود الذين قبلوا بما هم فيه من عناء ثقة فيهم بعد بالله.
عدم القدرة على سحب الملابس العسكرية التي تم شحنها من اسمرا من مستودع شركة حرقوت اباي في مصوع، كان العامل الوحيد الذي كان حائلا لأكثر من اسبوع دون انطلاق القوة. تم الاحتفاظ بالملابس في هذا المستودع بمعرفة الاخ عثمان شيخ نجاش مدير مكتب الشركة على امل ان تهدأ فورة الاستنفار التي كانت تعيشها المباحث الا انها على العكس ازدادت شراسة. وعلى الرغم من هذا كله، لم يكن هناك بد من خوض مغامرة أيا كانت نتائجها. تم توزيع الملابس على عدة ربطات ولفها بجرائد الصق بكل منها ورقة كتب عليها بالبنط العريض ’فرقة الكشافة - مدرسة حرقيقو‘ على ان تشحن في باص الساعة الوحدة من يوم الاحد حيث يقل عدد الركاب بنسبة كبيرة. كانت مهمتي مراقبة الملابس وفي حالة ضبطها او الاستفسار بشأنها ابلاغ الاستاذ ابراهيم جابر حسب الله حتى يحتاط للمساءلة باعتباره رئيس فرقة الكشافة او مغادرة البلدة. ولهذا، كنت في الباص عندما شحن الاخ احمد حسان امين مستودع شركة حرقوت من محطة بناية دنداي القريبة جدا من مستودع الشركة. وصلت الى بسلام وتولى امرها من كان ينتظرها من الزملاء في جراج الشركة.
بعد ان تكاملت اخر المطالب والمتطلبات وفي عشية يوم الانطلاق، وردت معلومات تفيد وصول العدو الى المنطقة المحيطة بموقع القوة وانها لم تستطع لأكثر من يوم اشعال حتى عود ثقاب. فتم الاتفاق على اسعافها فورا بمواد غذائية جاهزة عبارة عن خبز وعلب ساردين- حتى تستطيع خوض معركة او قطع مسافة طويلة للحاق بالقيادة والمجموعة التي ستتحرك من هنا. من ناحية الخبز، تم الاتفاق مع مخبز اليافعي على توفير الكمية المطلوبة وتعبئتها في شوال ثم شحنها في باص حرقيقو رقم واحد في تمام الساعة الخامسة والنصف بالضبط مع تسديد القيمة واجرة النقل مقدما. لقد تم اختيار هذا التوقيت ليتزامن مع شوال مماثل يشحنه العم عثمان رمضان يوميا وحتى يعتقد من يراه، بما فيهم المخبرون انه خاص به اللهم اذا ظهر الشوالان في نفس الوقت فعندئذ يلفت النظر ويلاحظ الفرق في الحجم.
كانت رحلة الساعة السادسة من مصوع الى حرقيقو تتكون من باصين. وغالبا كان الباص رقم واحد الذي يسوقه الاخ محمود حجي حالي يتحرك بنحو ربع ساعة قبل الموعد الى عداقة لينقل الركاب من هناك بينما يتحرك الباص الثاني في السادسة ولا يتوقف في عداقة. ولهذا اخترنا الباص رقم واحد لعلنا نحاول تحريكه قبل وصول شوال الثاني من خلال زميلنا في الفصل الاخ رمضان سيد عمر صديق الأخ محمود حجي حالي. ركبنا الباص القادم من حرقيقو حوالي الرابعة والنصف من عداقة وهو في طريقه الى مصوع، وهناك جلسنا في قهوة قريبة من المحطة وسرعان ما انضم الينا الاخ محمود، وبينما نتسلى ونشرب شاهي وصل شوالنا وبدأ القلق من ظهور الشوال الاخر، ولحسن الحظ فهم محمود من حديث بيننا رغبتنا في التحرك بدلا من الجلوس بدون فائدة، في الحقيقة، وحسب ما بدا لنا، انه كان سيتحرك بصرف النظر عن رغبتنا وان كان بعد عدة دقائق. وهكذا تحركنا دون خشية حتى لو تم تفتيش الباص وتم الاستفسار عن الشوال سيكون هناك من سيقول انه خاص بالعم عثمان رمضان، واذا تم اكتشاف الامر من خلال الشوال الثاني سيكون شوالنا وصل بل واختفى تماما.
حسب الاتفاق، كان بعض الزملاء في انتظار الشوال في قهوة عمر طرم وبمجرد ان توقف الباص، عمد احدهم الى اطفاء مصباح القهوة حتى لا تعرف هوية الزملاء الذين ينزلونه، ولكنهم فوجئوا بصعود الاخ احمد عثمان قرباش (خمزي خمزي) الى سطح الباص وحمله الشوال ظنا منه انه الشوال الذي ينقله يوميا. كانت المشكلة الأولى ان الأخ احمد قرباش شخص (غافل جدا او ما نطلق عليه درويش) وثانيا انه قدم حديثا من اقليم تقراي في اثيوبيا حيث ولد ونشأ وبالتالي لا يتحدث التقري فيصعب افهامه او التفاهم معه وخصوصا بين حمع من الناس. تركوه ينزل الشوال وبمجرد ان اتجه به الى جهة السوق كمموا فمه وسحبوه الى جهة معاكسة لإفهامه انه ليس شواله الا انه ظل (يفرفر) لا يسمع ولا يعي الى ان وصل الباص الثاني وشاهد شواله فعندئذ فقط تخلى عنه.
وبعد ما يقرب من ثلاثة اشهر من الصراع المرير مع المباحث، حانت ساعة شد الرحال فتحرك كل المسئولين الذين كانوا في منزلي ومعهم الزملاء ادريس محمد سعيد يمني، عثمان احمد يمني، محمد ابراهيم حبيب واحمد (حجي) محمد نائب وعلى ادريس انرعلى من القوات البحرية وربما كان هناك اخرون من مكان اخر لم اعرف عنهم.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.