ذكريات وتجارب - الحلقة العشرون

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

ذكرت في الحلقة السابقة اكتشاف ’الثعلب‘ الكابتن محمد ابراهيم في حرقيقو بمحض الصدفة وتكليف القيادة الفدائي صالح جابر توكل

بتصفيته. قبل الاستطراد في ما حصل فيما بعد، اود الاشارة الى تدني الحس الامني بين بعض الاهالي وتعاملهم بعفوية تبلغ درجة السذاجة يصعب معها التمييز بين الصالح والطالح ما سهل مهمة محمد ابراهيم اثناء اقامته في البلدة بينما شكل ضغوطا شديدة على العناصر النشطة جعلتها تتوقف على كل كلمة تلتقطها او نظرة تلاحظها اذكر منها ما حصل معي على سبيل المثال. اول مؤشر سمعته لهذه التصرفات كانت اشاعة تقول ظهور اثار احذية جديدة (الشدة) في بعض مداخل البلدة وبعبارة اخرى دخول بعض المقاتلين. وبعد عودتنا من الدورة العسكرية بيومين او ثلاث سألني شخص لم تتجاوز علاقتنا تبادل السلام عن سبب غيابنا من السوق لفترة. بصرف النظر عما اذا كان بحسن نية او سوئها ظل سؤاله يشغل بالي لعدة ايام.. يا ترى ماذا كان يعني، ولماذا سألني، ولماذا استعمل صيغة الجمع، ومن كان يقصد غيري ولماذا ربط بيننا!

وفي احدى الليالي بينما نسير انا والزميل عثمان عبد المنان متنكرين نحمل سلة أسلحة، لحقنا شخص نعرفه وحاول التعرف علينا وعندما لم يستطع سلم علينا حتى يميزنا بالصوت، وكلما اسرعنا الخطى اسرع وكرر السلام حتى اضطررنا الى التوجه فاذا به يقع وهو يحاول الهروب.

وكنت ذات مرة جالسا مع صاحب دكان حامت حوله شبهات عندما طلب منه زبون شراء سكر وبعد ان اعتذر له، قال لي أنه اعطى كل الكمية التي كانت لديه للمناضلين محمد علي عمرو ورمضان محمد نور عندما زاراه في الليلة السابقة، واضاف ’ لا تستغرب انهما مع الجبهة هنا في الجبال القريبة وليس في مصر كما يعتقد الكثيرون‘. اولا في الزمن المذكور كان الاثنان معي في البيت، وثانيا لماذا يبوح لي بمثل هذا السر ولم تكن بيننا اية صلة او علاقة تذكر. فيا ترى هل هو فعلا مخبر يحاول استدراج المواطنين، ام مجرد طفيلي يدعي الوطنية، وقد يؤدي سوء التقدير بينهما في هذا الظرف الى اعدام ان لم يكن من قبل الحكومة فمن قبل الجبهة.

اعترف المناضل حامد محمد عثمان تحت التعذيب بما املته عليه المباحث ان من ارسله الى الجبهة هو صالح بشير ولكنه عكس الاسم اثناء كتابة المحضر. لم تتنبه المباحث للفرق بين الاسمين فالقت القبض على بشير صالح وقدمته الى محكمة. في هذا الاثناء سمع العديد من الاهالي يقولون ان المقصود كان صالح بشير لأنه هو من يتعاطى مع السياسة وليس بشير صالح، وبدون ان يدروا اصبحوا مخبرين متطوعين يصححون خطأ الحكومة. وفعلا اطلق سراح الاستاذ بشير صالح بعد اعتقال صالح بشير لاحقا في موضوع اخر. مثل هذه الهفوات حصلت في اماكن كثيرة نشط فيها حراك سياسي او ظهرت فيها الجبهة وادت بعضها الى اعتقال مناضلين بل واعدام بعضهم سأذكر بعضها.

في غمرة الاجواء الملبدة عسكريا وامنيا، قررت القيادة تصفية عناصر معينة بتهمة التخابر مع العدو خلال اسبوع وابتداء وتحديدا من عشية زواج الاخ سعيد ادريس باري، وتم تكليف الزميل رمضان اولياي بتنفيذ العملية الاولى. بما انني كنت ضمن من استطلع رأيهم في تصرفات هؤلاء يمكنني القول انه لم تكن لدى القيادة اية معلومات مؤكدة وموثقة تدينهم، فمن ناحيتي ذكرت في حينه انهم ابعد من اية شبهة لاعتبارات وحيثيات كثيرة. وحسب ما علمت فيما بعد كان راي بقية الزملاء متطابقا لما قلت حتى من حيث ابداء تحفظ على صحة القرار اذ لم نملك حق الاعتراض ناهيك الرفض. وبالتالي كنا على يقين ان الغرض من وراء القرار كان بث الخوف بين الاهالي ليس الا.

فعلى الرغم من استعدادي وتحمسي للقيام بواجبي الوطني بلا تردد أيا كانت طبيعته، وجدت نفسي عاجزا اذا لم يخطر ببالي البتة انه قد يكون اعدام شخص اؤمن ببراءته تماما فعزمت في قرارة نفسي الاعتذار وتحمل التبعات. بحكم العلاقة الوثيقة كانت بيننا صارحت الاخ صالح بشير بما يجول في فكري في هذا الخصوص. فذكر لي حتى اللجنة معترضة على القرار واقنعت القيادة بمراجعة تقديرها لما ينطوي عليه من اثار سلبية اذا ما ثبت مستقبلا العكس، وسرعان ما تم الغاء القرار لأنه لم يكن مبنيا على مكايدات او دوافع شخصية، وهكذا زال اكبر كابوس عشته في حياتي. والجدير بالذكر في هذه المناسبة انه كثيرا ما اهرقت في الثورة دماء زكية سواء بسبب التسرع او تصفية حسابات خاصة، ولم تبرأ من كل هؤلاء الا ساحة ثلاث عشر شخصا اعيد اليهم الاعتبار وفقا لبيان اصدرته جبهة التحرير الارترية جناح عبد الله ادريس بعيد الاستقلال، وحتى هذا على ما يبدو، لم يكن من منطلق وطني واخلاقي بقدر ما كان لدواعي خاصة حيث كلهم من الشخصيات الاجتماعية والدينية البارزة.

وفي نفس الاسبوع تقريبا، قررت القيادة تفجير الاحتفال السنوي بمناسبة عيد ميلاد الامبراطور هيلي سلاسي لعلها هذا يؤدي الى تشتيت وارباك مجهودات الحكومة العسكرية والامنية على ان يقوم بتنفيذ العملية ثلاثة من الفدائيين شريطة الا تتكرر مأساة عام 1962 في اغردات عندما قامت الجبهة بمحاولة اغتيال ممثل الامبراطور ابي اببي في احتفال كبير اقيم على شرفه تسبب في قتل واصابة عشرات من الموطنين الابرياء بينما لم يصب هو ومن معه بأذى.

كان الاحتفال في مصوع امام عمارة عد بشير وسط شارع مسدود شرقا وغربا بعمارات متراصة وعلى مسافة نوعا ما بعيدة من مدخليه الشمالي والجنوبي بحيث يصعب قطعها بسرعة وخصوصا في ظل اجراءات امنية. اما المكان المخصص لجلوس كبار المدعوين يقع تحت شرفة شقة صالح بشير مباشرة، ولهذا اقترح صالح ان يقيم الفدائيون في شقته قبل الموعد بوقت كاف، وفيما بعد استقر الرأي على ان يقوم بالعملية فدائي واحد وهو الزميل عثمان عبد المنان.

صباح يوم الاحد، موعد التنفيذ، ذهبت الى محطة الباصات لعلي اودع الزميل عثمان ولكنه غادر في باص سابق والتقيت بالزميلين علي سيد عبد الله وحسن حمد امير اللذين جاءا لنفس الغرض. كنا في قهوة عمر طرم نتسلى ونحتسي كوبا من الشاهي عندما جاءنا حوالي الساعة الحادية عشرة شخص لا استحضر اسمه يحمل رسالة من القيادة تطلب فيها اللحاق بعثمان في مصوع وابلاغه بإلغاء العملية. وجدنا انفسنا امام موقف لم نعرف التصرف حياله لان اول باص يغادر الى مصوع في الثالثة عصرا وقطع المسافة مشيا على الاقدام في عز الحر يستغرق وقتا طويلا وفي نفس الوقت ملفت للنظر، فلم يكن امامنا سوى الانتظار لعلنا نجد سيارة عابرة.

لم نصدق اعيننا عندما رأينا سيارة (كاميون - بكب) يسوقها العم عبد الله محمد صايغ تخرج من السوق. كان عائدا بعد ان قام بتوزيع منتجات مصنعه من المشروبات والعصائر بمناسبة قرب حلول شهر رمضان والعيد. نزلنا في عداقة حيث علمنا من عضو اللجنة الاخ عبد الله محمد سعيد صايغ ان عثمان وصل مبكرا واستلم القنابل وتوجه الى مصوع. توزعنا في شوارع مصوع ندق كل مكان يتوقع انه يذهب اليها.

اول ما خطوت داخل قهوة سراج واجهني ابن عمي عثمان احمد عمريت بشبه صرخة ’الله اكبر.. ما الذي جاء بك‘ لفتت نظر من حولنا وفي وجهه علامة دهشة واضحة، فعلا ارتبكت ولم اعرف بماذا ارد، فقلت له متضاحكا ’نشارككم الاحتفال‘ اخذ يتأملني ثم نظر الي ملابسي التي لا تليق بالاحتفال وقبل ان استأذنه بالانصراف خشية ان يضيف سؤالا محرجا اخرا، دخل من الباب الثاني الزميل حسن وهنا زادت دهشته وقال ’اللهم صلي على سيدنا محمد‘ ومجددا بدأ الكل ينظر الينا باستغراب. ولولا دخول الزميلين علي سيد عبد الله وعثمان عبد المنان في الوقت المناسب لأصبحنا في موقف صعب، فتنفسنا الصعداء وجلسنا معه مسترخين مستأنسين، اما هو ظل صامتا شارد الذهن لربما يتساءل بينه وبين نفسه.. بماذا جئنا بعد ان تركنا في المحطة عندما غادر في اخر باص ولماذا يشترى!
السبب في مفاجأة عثمان واستغرابه الى هذه الدرجة انه طلب مني منذ يومين ولأول مرة ان ارافقه الى مصوع لحضور الاحتفال مع اغراء بوجبة غداء دسمة، ولم يتوقع البتة ان ارفض له طلبا كهذا باعتباره اخا كبيرا ولما اكن له من احترام، ولكنني لم اعتذر فحسب بل حاولت اقناعه بعدم الذهاب وتجشم المشقة وحرارة الجو لمجرد انه موظف حكومي، وكلما اضاف حجة اضفت اخرى الى ان انتهى بيننا النقاش وفي نفسه مني شيء.

فمنذ عودتنا انا والزميل حسن وهو ابن خالته ويسكنان في نفس الدار - من رحلة تسني الفاشلة، بدأ الاخ عثمان يشك في تصرفاتنا وتحركاتنا وبالذات بعد ان علم عدم تواجدنا في البلدة يوم وقوع معركة عقمدا التي سمعت عوائلنا هدير اسلحتها. ولهذا فسرت دعوتي للمشاركة معه في الاحتفال محاولة منه للتأكد من عدم وجود ما يعكر صفو الامن اثناء الاحتفال، او هكذا تراءى لي، لم استطع تحذيره صراحة وافشاء سر بهذا القدر من الخطورة خشية ان يصل الى الشخص الخطأ وان عز علي كثيرا ان اتركه للحظ وانا ادرك ما قد يترتب على العملية. اول سؤال سألنيه عندما التقينا بعد اكثر من عشرة اعوام كان بهذا الخصوص!

اما فيما يتعلق بأسباب إلغاء العملية، فقد كان بناء على إعادة تقييم الموقف قامت به القيادة على ضوء تداعيات معركة عقمدا والاحتياطات الاحترازية التي لابد ان تتخذها الحكومة واجهزتها الأمنية وبالذات من ناحية مشاركة مسئولين كبار في الاحتفالات العامة حتى لو اقامتها الحكومة ناهيك مثل هذا الاحتفال الذي يقوم بتنظيمه موظف عادي هو عبد الكريم محمد نور نائب وان كان بتشجيع ودعم حكومي. وامكانية تفتيش كل العمائر المطلة والمحيطة بالموقع ولربما احتلالها لضمان الامن والسلام، ولهذه الاعتبارات مجتمعة تم استبعاد حضور القيادات العسكرية والمدنية المستهدفة مثل الامير اسكندر دستا حفيد الامبراطور وقائد القوات البحرية ما سيجعل معظم الحضور وبالتالي الضحايا من الموظفين المغلوبين على امرهم او القاء القبض على كل من يشتبه في امره.

وعودة الى الثعلب المكار الكابتن محمد ابراهيم الذي غادر البلدة بوجه السرعة كما ذكر، فقد ارسل بعد يومين او ثلاث سيارة لاعتقال مجموعة قرويين يترددون الى البلدة من ضمنهم المناضل سعيد صالح عكا، وبعدها ببضعة ايام تم اعتقال مجموعة اخرى من بينهم المناضل عثمان برح، وبعده المناضلين علي قعدر ومحمد علي طاهر. وفي اليوم الذي جاء فيه شخصيا كان الفدائي صالح جابر ينتظره على بعد امتار من الكان الذي كان يلتقي فيه مع مجموعة من رجالات القبائل الذين لم يفارقوه حتى وصل وركب سيارته التي كانت تنتظره تحت ظل شجرة نبق كبيرة بالقرب من عد محمد جابر على بعد مائتين متر تقريبا وغادر بسلام.

لهذا قررت القيادة ان يشترك في العملية فدائيان واستخدام قنابل اذا استدعى الامر، يكمن الاول في نفس المكان الذي كان فيه صالح في اليوم السابق والثاني بالقرب من موقف السيارة كان الفدائي الثاني امبريقاي حسب ما سمعت (ولعله الكولونيل صالح امبريقاي) علما ان صالح وامبريقاي لم يكونا معروفين في البلدة فصالح من الريف وامبريقاي على ما اعتقد من اغردات. وفعلا عاد الكابتن محمد ابراهيم بعد بضعة ايام. نزل من السيارة امام دكان عثمان رمضان حيث استقبله نفس القوم وواصلت السيارة طريقها الى مصوع لإيصال المناضل جابر محمد علي حرك الذي تم اعتقاله ثم عادت ووقفت في نفس المكان تحت نفس الشجرة على بعد امتار من امبريقاي الذي كان بالقرب من قهوة عمر طرم.

عندما تحرك محمد ابراهيم الى سيارته وسط عدد من الوجهاء الذين كان معهم كان على بعد بضعة امتار من صالح الذي وجدا نفسه مكبلا بالتعليمات، وعندما اقترب من مكان السيارة لم يبق معه سوى المخبران عمر كارتو ورمضان، وبالكاد بدأ امبريقاي يعد قنبلته للقضاء على الثلاثة معا فاذا اكثر من عشرة اطفال من خلوة الشيخ ادريس يتسابقون الى السيارة ويحيطون بها من كل جانب وكأنهم فعلا مكلفون وهكذا تحركت السيارة بسلام، ما ادى الى صدور قرار تصفيته برشاشات ولكن خارج البلدة.

فبينما كان الكابتن محمد ابراهيم يقترب اكثر فاكثر من القاء القبض على اللجنة، بدأ الجيش بفضل المعلومات التي وفرها رجال القبائل للكابتن محمد في التحرك ويقترب من موقع القوة. وبهذا دخل سباق الماراثون مراحله الاخيرة بما يمكن اعتباره اسبوع الحسم وفعلا كان.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click