ذكريات وتجارب - الحلقة الثانية والعشرون

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

توفير احتياجات القيادة العسكرية وانطلاقها إلى منطقة ريعوت في ظل ظروف امنية دقيقة كان في نظرنا انجازا كبيرا رفع من

معنويات الزملاء وعزز تفاؤلهم، اما انا شخصيا فقد كانت مشاعري إزاء الوضع العام متناقضة حيث لم يعد حماسي على ذات الدرجة التي كان عليها، وفعلا هكذا ما كنت اشعر به عندما كنت اقوم بتجنيد الاخوة عثمان احمد يمني، ادريس محمد سعيد يمني، محمد ابراهيم حبيب وأحمد (حجي) محمد نائب الذين التحقوا بالميدان كما ذكر في الحلقة السابقة. ويعود هذا التراجع الى تراكمات كثيرة كان آخرها ما كنت استخلصه من المرارات التي كان يتناول بها بعض القادة في الأحاديث التي كانت تدور بينهم تجاه بعض الاشخاص والاحداث التي وقعت في الجبهة ما ولد في نفسي قناعة تامة ان ما حدث تصدع لا يمكن تبسيطه أو اختزاله في عامل واحد وان اية محاولة لعزو منشئه الى ما وقع لاحقا في عهد القيادة العامة انما هو تدليس ولي حقائق، لان العكس هو الصحيح.

لم يهمني في هذا الوقت التعرف على جوهر الخلاف والأسباب والمتسببين فيها بقدر ما همني ما قد تؤول إليه الأمور فيما لو استمرت على هذا المنوال، وبالتالي ظلت طويلا اتساءل بيني وبين نفسي عما إذا كانت هواجسي هذه محاولة للتهرب من الالتحاق بالميدان وأداء الواجب أم أنها استقراء صحيح واحاول النأي بنفسي من صراع ليست لي فيه ناقة ولا جمل كما يقول المثل، وان نظرتي الى العمل الوطني كانت مثالية ان لم تكن بدائية تتلخص في ان الشعب الارتري وبالأخص المسلمين فجروا الثورة تداركا وتصحيحا لأخطاء الماضي وإن جميعهم يناضل بذات الروح ولذات الهدف في انسجام تام.

ليس هذا فحسب، بل واحيانا كنت اتساءل عما اذا يصح لي، اخلاقيا ان لم يكن سياسيا، ان اصدق زملائي الاربعة الذين وثقوا في كلامي بما يخامرني من مخاوف وظنون وان كنت اعلم يقينا أن هذا التصرف بمثابة تخريب يعتبر من يقوم به عميلا أو من الطابور الخامس. وفي الاخر حزمت امري وفي عمرة وداع وفي سياق عبارات التشجيع والتمنيات الطيبة بالتوفيق مررت اليهم ما كان يثقل كاهلي. جاء رد الاخ ادريس محمد سعيد سريعا وحاسما إذ رأى في ما قلت امرا متوقعا بين اقوام لا يعرفون الكثير عن بعضهم وانه لا يمكن التغلب عليه الا من خلال مشاركات واسعة من أبناء كل المناطق، وإن التباينات مهما بلغت حدتها وتعددت مسبباتها لا يمكن ان تصل الى حد اقتتال اهلي لما لدى الجميع من وعي وروابط ومصالح وطنية عليا. كان ردا مفحما سعدت به كثيرا وتنفست الصعداء انني لم اثبط هممهم وادركت ان لفارق السن والتجربة بيننا كان لها دور.

جميل ان يكون المرء متفائلا وان يظل كذلك وإن خيب الزمان ظنه. انفجرت بين الاشقاء (جبهة التحرير الارترية وقوات التحرير الشعبية) وتحت شعار ضمني ’يا قاتل يا مقتول‘ حرب ضروس اشبه بحرب داحس والغبراء كان الزميلان ادريس ومحمد من بعض وقودها. في معركة قرقر التي اعتبرتها الجبهة ام المعارك، وفعلا كانت كذلك، انسحب جنود قوات التحرير الشعبية تاركين جرحاهم فعثر جنود الجبهة على الاخ ادريس شبه ميت وقد تمزقت احشاؤه وتناثرت امعاؤه. حاول احدهم الاجهاز عليه إلا ان زميلا له فضل تركه طعما للذئاب، ولكن جماهير التنظيم الذين تسللوا مع حلول الظلام الى الموقع بحثا عن جرحى نقلوا ادريس إلى مقر الجهاز الطبي. اما الاخ محمد ابراهيم حبيب لم يكتشف مخبأه احد إلا عندما اطلق في جوف الليل رصاصة على ذئاب هاجمته فجاء الجنود واجهزوا عليه بدم بارد وهو مصاب. التقيت ادريس في بورتسودان بعد اكثر من عشر سنوات وقد فقد نصف امعائه ووزنه ولكنه بذات التفاؤل والثقة في المستقبل، لا يحمل حقدا أو ضغينة، يعتصر الما ليس لما حل بشخصه بل لما وصل اليه الحال العام، ما زال ادريس يعيش في مصوع وسآتي الى ما دار بيننا في موضوعه.

عندما يرى المرء امامه صورة قاتمة فيها ي ومضة ضوء تلقائيا ينصب تركيزه عليها لعلها تكون بصيص امل. لم اكترث كثيرا بالأسماء التي كان يحملها بعض القادة مسئولية الشحن الاقليمي الذي سبق عملية تقسيم المناطق وما تلاها من تداعيات ويوجه اليها نقدا لاذعا ولكن عندما سمعت الثناء والتقدير الذي كانوا يخصون به احد الاشخاص وبشكل متكرر تملكني فضول حتى حفظت الاسم وتمنيت لقاء صاحبه. المناضل ابراهيم ادريس (مانجوس) الذي التحق بالجبهة في بداياتها الاولى بعد ان عمل في الجيش السوداني، كان نائب الشهيد محمد سعيد شمسي في الفصيلة التي هاجمت مركز شرطة شعب ومن ثم تولى قيادتها. وعند تطبيق نظام المناطق، توجه على رأٍس نفس الفصيلة الى منطقة البحر الاحمر ضمن القوة التي تم تكليفها بتأسيس المنطقة الرابعة وشارك معها في كل المعارك التي خاضتها ضد العدو وابلى فيها بلاء حسنا الى ان صدر قرار الانسحاب. تراجع ابراهيم بفصيلته الى منطقة امنة للمحافظة على سلامة جنوده ولم يقم بالعبور الا بعد استجلاء الموقف والاستعداد لكل الاحتمالات بعيدا عن اية نزعة اقليمية من هنا اوهناك . علما ان تراجع هذه الفصيلة هو جعل يعتقد لعدة اسابيع انه رد القوة بكاملها الى المنطقة الغربية ما اتاح لمن عبروا عشوائيا فرصة الاستراحة لبعض الوقت.

قابلت المناضل ابراهيم ادريس عندما التحق بقوات التحرير الشعبية عام 1977 اثناء انعقاد المؤتمر التنظيمي الاول. لم يظهر او يتظاهر بين الجماهير كما كان يفعل العديد ممن التحقوا في هذا الوقت لتأكيد مكانتهم وتعزيز موقع قبيلتهم. وجدته في المكان المخصص له في طرف المعسكر بعيدا عن خيمته وحراسه وحيدا يستظل تحت شجرة، رد على سلامي باقتضاب وربما بدون مبالاة، فحاولت ان اعرفه بنفسي واجعل مما سمعته عنه مدخلا للحديث الا انه لم يتفاعل كما توقعت وظل واجما ينظر الى الافق وكأنه يقرأ ما لا اراه غيره. سعدت كثيرا لرؤيته وفي نفس الوقت اشفقت عليه، بدا لي انه ادرك ان التنظيم الذي جاء ليناضل في صفوفه قد ولد ميتا ولا امل لشفائه، كما سيأتي في سياق الاحداث. استأذنته بالانصراف ولم اسمع عنه الا مؤخرا حيث قيل لي انه يعيش في منطقة طوكر، متعه الله بالصحة والعافية.

لم يعلم القائد حامد ادريس عواتي صحبه دروسا في القانون انما غرس فيهم قيما اصيلة اقتدى بها بعضهم وكانوا بها قادة وقدوة، ولو تحلى بها كل من نطلق عليهم اليوم عبارة الرعيل الاول او من ينتسبون اليها حقا لما كان الحال بهذا السوء والهوان.
عصرية اليوم التالي لتحرك القوة ذهبت الى منزل الاخ عثمان احمد يمني حيث قابلت خاله العم عثمان ادريس يمني وكان شيخا طيبا ودودا وعرفت منه مدى انزعاج العائلة وقلقها ازاء غياب المجموعة، اتفقنا على ان يبقى الامر سرا ريثما يتم التأكد من وجهتهم. كان القصد من هذه المحاولة تأخير وصول المعلومة الى الكابتن محمد ابراهيم الذي قد يستخلص منها انتقال القوة الى مكان ما. وفي اليوم التالي نقلت الى العم عثمان وجود شائعات تذكر انهم ظهروا في اسمرا وانني سأتابع الموضوع، الا ان رجلا تربطه بالمجموعة صلة قرابة وعلاقة فاجأني بالقول انه ارسل المجموعة الى الجبهة وانه لم يستثنيني منهم الا بغرض اكمال تعليمي وانه يتفهم دواعي عتبي عليه! لم اعرف كيف ارد عليه وخصوصا انني كنت احترمه، فشكرته على حسن تصرفه مؤكدا انني فعلا لا اهتم الا بالدراسة. لم يكن مستغربا ان يعرف بالمعلومة من الزملاء انفسهم، واستنتاجه مما دار بيني وبين العم عثمان ادريس انني لا اعرف شيئا فاراد ان يتباهى امامي وربما مع غيري. التقيت في نفس اليوم الصديق صالح بشير فأخبرته بما حصل وناقشنا كيفية تحذيره قبل ان يعرض نفسه قبل غيره للخطر. وبينما نبحث عن وسيلة مناسبه، وقع ما لم يكن في الحسبان. أعيد الاخ حجي نائب محمولا نتيجة اصابته بشد عضلي شل رجله تماما حتى اصبح عبئا على القوة بدلا من ان يكون عونا لها فقررت اعادته بسرعة قبل ان يكتشف امره.

فيما يخص بتعامل اهالي منطقة ريعوت مع القوة فقد اتسم بالتحفظ ان لم يكن بالنفور بفعل تحريض من قبل بعض الزعماء والوجهاء الذين وقر الكابتن محمد ابراهيم صدورهم سابقا ولاحقا، ومما زاد من العزلة عدم وجود من يحسن لغتهم ما استدعى الاستعانة بأبناء المنطقة ممن يعيشون في المدن منهم المناضلين احمد حجي اسماعيل، عبد الله شوم صالح والحاج احمد شري. ولقد كان لالتحاق المناضل احمد دين اسماعيل بالميدان في هذا الوقت دور كبير في تأسيس علاقة جيدة بين الطرفين. علما انه كان ضمن الخلية التي استولت على اسلحة مركز شرطة مصوع بقيادة الشهيد محمد سعيد شمسي الا ان اكتشاف امرها وتقديم موعد التنفيذ حال دون الانضمام اليها كما ذكره في موضوع سابق.

اما فيما يتعلق بتنظيم العمل عقب صعود القوة، فقد قررت اللجنة تخزين ما يصل من سلاح خارج البلدة بمعرفة عضوين.، واختيار كل عضو بديلا احتياطيا لا يقوم باي نشاط الا في حالة اعتقاله حتى يكون بعيدا عن الشبهة، ولان الجميع كان معرضا للاعتقال لم يتم تحديد الشخص الذي تقدم اليه اسماء المرشحين، وعليه احتفظ كل عضو باسم مرشحه ريثما يوجد حل وتتضح الصورة. من ناحيتي رشحت الاخ عثمان سعيد كراس بحكم المعايشة الطويلة والاخ عثمان عبد الله بلح اعتمادا على ما كنت الاحظه عليه واعرفه عنه عن طريق الاخ عثمان، وكلاهما كانا يتسمان بالذكاء والرصانة، اما من ناحية الشجاعة والثبات فلم يكن احد منا قد تعرض للتجربة بعد. لا ازعم بهذا انهما التحاقا بالجبهة بناء على ترشيحي ما لم يتم ذلك من قبل الزميلين علي سيد عبد الله وحسن حمد امير في اطار التفاهمات التي كانت بيننا حول الطلبة والشباب الذين سيتم تجنيدهم متى استقرت المنطقة.

على ضوء استقرار الوضع في منطقة ريعوت عاد الفدائيون الاربعة عثمان حرك، صالح جابر، حسين باري امبريقاي (صالح) لاستكمال مهمتهما المعلقة - تصفية الكابتن محمد ابراهيم - الذي جن جنونه حتى اصبح التخلص منه اهم من ذي قبل واسندت مهمة رصده الي والى الزميل رمضان عثمان اولياي كانت المشكلة الكبيرة امامنا ايجاد حل لقصر الزمن الذي يقضيه في البلدة وبمعنى اخر ضرورة معرفة قدومه قبل وصوله.

كانت في بستان عد ديني المجاور لبستان العم احمد ناصر شجرة نبق باسقة جدا يمكن من فوقها رؤية اية سيارة قادمة منذ وصولها بوابة شركة عجيب الاولى، ووارفة جدا بحيث يمكن ان يختفي بين اغصانها اكثر من شخص. اتفقنا على ان يرابط رمضان من الساعة التاسعة صباحا في قهوة عمر طرم بينما ارابط انا في ذات الموعد فوق الشجرة. وفي اول ظهور لها انطلق الى منزل الشيخ سليمان شيخ حامد لأشعار الفدائيين بوصول الهدف، فيتحرك احدهم مباشرة الى مكان مرتفع من الشجرة التي كنت عليها اما زملاؤه الثلاث يتحركون بموازاة السد ولكن في نفس الخط لتلقي اشارة الانطلاق الى موقع الكمين. ولهذا يظل رمضان في مكانه حتى يتأكد من وجود الكابتن محمد ابراهيم في السيارة، وعندئذ يتحرك الى المكان الذي ينتظره فيه احد الفدائيين، وفي حالة عدم ظهور رمضان في المكان خلال زمن محدد يعود الفدائيون الى موقعهم على ان تكرر المحاولة كل يوم حتى تنفيذ المهمة.

حوالي الساعة التاسعة من يوم الجمعة الخامس من شهر رمضان او منتصف شهر نوفمبر من عام 1965 صعدت الى الشجرة وبدأت المراقبة الى ان ظهرت السيارة المطلوبة، ولكنني ظللت في مكاني اتابعها حتى وصلت واقتربت ومرت قريبا مني ثم انحرفت من محطة حجي حسن يمينا الى الحي الذي اسكنه لتتوقف امام منزلي. نزل منها المخبران الشاويش علي قاضي والامين عثمان نائب وكلاهما من العناصر الوطنية، خرج اليهما الوالد وبعد التحدث معه قليلا تحركت السيارة وسط الاحياء في طريقها الى السوق. عندئذ نزلت من الشجرة وذهبت الى المنزل وعلمت من الوالد ان المباحث تطلبني وسألني ان كنت اعرف شيئا في نفسي، وعندما طمأنته قال ’اذن اذهب اليهم فانهم ينتظرونك في السوق‘.

غيرت ملابسي وذهبت الى قهوة عمر طرم حيث التقيت الزميل رمضان واخبرته بما حصل وانني اعتقد انه ليس هناك امر كبير والا لقام المخبران بإشعارنا مقدما كما يفعلان، وافقني الرأي في تسليم نفسي، واذ نتحدث وصلت السيارة فاستفسرت من المخبرين سبب سؤالهما عني فاخبراني انهما لا يعلمان اكثر من طلب احضاري وطلبا مني ركوب السيارة، فسرت عدم معرفتهما بعدم وجود قضية كبيرة وركبت السيارة لأجد داخلها ابن خالتي سعيد ادريس باري، وهنا بدأت تساورني الشكوك حيث قابل سعيد شقيقه حسين في منزلي مرات عديدة. لو كان المخبران اللذين جاء لاعتقالي من مجموعة الكابتن محمد ابراهيم ولو عرفت باعتقال سعيد قبل مقابلة المباحث في الارجح لاختلف موقفي اما الان لم يكن امامي سوى الامتثال حتى وصلنا مركز المباحث في مصوع.

بعد الانتهاء من تسجيله بياناتي الشخصية، سألت الضابط عن سبب استدعائي. قال لي بكل بساطة وبنبرة تنم عن صدق انه لا يعرف شيئا وان رئاسة المباحث في اسمرا هي التي طلبت احضاري، وانني سأغادر الى هناك في الساعة الثانية ظهرا. وقبيل التحرك بقليل جيء بالأخ محمد حمودة (باحبيشى)، كنت اعرفه كشخص ولا اعتقد انه كان يعرفني. وصلنا اسمرا على باص برفقة عسكري لم يكن مسلحا ولم نكن نحن مقيدين. مشيا اكثر من مائتين متر من المحطة قبل ان نتذكر موضوع الفطرة فأعطاني احدهما نقودا اشتريت بها من مطعم حسن مبروك ما يلزم ولحقت بهم امام الكاتدرائية في شارع الملك وواصلنا الطريق حتى بوابة رئاسة المباحث (اجيب). وبما ان السجن كالقبر لا يدخله مرافق استودعكم الله على امل موافاتكم بالتطورات من العالم الاخر!

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click