ذكريات وتجارب - الحلقة الرابعة والعشرون

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

لا شك في ان انتظار البلاء اشد من وقوعه ولكن كل ساعة من ساعات يوم الأثنين كانت اطول من اليوم كله، وعبثا حاولنا ان ننسى

او، على الاقل، نتناسى ما سيحمله المساء معه من سوء. كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة ليلا عندما نادي احدهم بأسمائنا للخروج ولم يفتح الباب بعد ما اعطانا فرصة لتوديع من استطعنا ممن كان معنا الزملاء، وبالكاد خرجنا حتى هرول بنا بين الدهاليز المكاتب الى ان دفع بنا الى زاوية في مكان محدد. كنا وحدنا ولكننا نسع حركات ووقع اقدام توحي ان الورشة قد انطلقت وان ضحاياها كثر.

بين حالة القادم الى غرفة العمليات والقادم الى غرفة التعذيب سمات مشتركة: الاول يأتي الى الغرفة موافقا وموقعا على كل ما سيجرى عليه، اما الثاني يؤتى به مقيدا مستنكرا لما سيجرى عليه. كلاهما يصاب برهبة واعراض صحية كارتفاع ضغط الدم، ارتفاع نسبة السكر، هبوط في القلب وضيق في التنفس الخ. فالأول يتم الكشف عليه للاطمئنان على حالته، والثاني لا يحصل على هذه الرعاية. اذا لم تسمح حالة الاول تؤجل العملية وربما الغيت، بينما لا تؤجل ولا تلغى للثاني الا اذا فارق الحياة ولهذا مات الكثيرون تحت التعذيب. يمنع الطعام عن الاول حفاظا على سلامته، ويحرم الثاني من الطعام عقابا له. كلاهما يدخل الغرفة مجردا من ملابسه الا ما يستر العورة. الاول مراعاة له والثاني اذلالا له. الاول يدخلها محاطا بأناس تشع من عيونهم الرحمة يتمنى لهم التوفيق، والثاني يدخلها محاطا بشياطين تتطاير من اعينهم الشرر يتمنى لهم الهلاك. الاول لا يرى الادوات والاجهزة التي ستستخدم عليه احتراما لمشاعره، والثاني تعرض امامه ما تستخدم وما لا يستخدم عليه من ادوات امعانا في تعذيبه. الاول تجرى عليه العملية وهو فاقد الوعى واذا استفاق تم تخديره ليرتاح، والثاني لا يخضع للعملية الا اذا كان واعيا واذا فقد وعيه افاقوه. الاول يدرك انه اذا فشلت العملية سيموت وحده راضيا بينما الثاني يعرف انه اذا نجحت العملية سيجر غيره مكرها.

بعد نحو ساعة من الانتظار بدأوا بسـعيد، وبعد ما يقارب نفس المدة تقريبا الحقوا محمد باحبيشي الذي اعيد بعد وقت وجيز، لم الحظ عليه اية اثار غير عادية سوى ان عمامته تحولت من الرأس الى الكتف. دعوت الله ان يسهلها علي كما سهلها عليه، وواصلت تلاوة م تيسر لي من الآيات القرآنية ابتداء من آية الكرسي حتى وقع المتوقع.

من لحظة دخولي المكتب عرفت ان المحقق الجالس خلف الطاولة ما هو الا كبير القوم الذي وصفته شقيقة حمدو يوم اعتقاله- المقدم بلطي اثيوبي من قومية الامهرا في الثلاثينات من العمر في منتهى الرشاقة والاناقة. استقبلني بنظرة تنم عن استخفاف واضح، لربما كان هذا لحداثة سنى وضآلة حجمي وملابسي التي لا تليق بأسمرا، او انه كان يتوقع شخصية كبيرة الحجم والوزن تملا العين، كما يقول المثل، وهذا ما كنت اتمناه وبنيت عليه جزء من خطتي. اشار الي بالجلوس على كرسي امامه مباشرة، وبعد ان قلب بعض الاوراق في ملف كان في يده، بدأ السؤال باللغة الامهرية:

س. منذ متى انخرطت في الجبهة، ومن الذى جندك وما هي النشاطات التي قمت بها.

ج. نظرت اليه وبدأت اتمتم كمن لم يفهم المعنى وليس كمن يتهرب من الرد، ثم قلت له بكل دعة واستكانة ’انا ادرس في مدرسة الامير لؤول مكنن في عداقة‘. قال ’اعرف هذا‘ وعدل صيغة السؤال.

س. متى دخلت في السياسة ومن الذى ادخلك وما هي النشاطات التي قمت بها.
ج. انا لا افقه في السياسة وكل ما اتمناه ان اواصل تعليمي وادخل الجامعة. (شعرت ببعض الراحة لعدم تعقيبه على الجوابين السابقين).

س. صمت قليلا ثم قال ’هل سمعت عن شخص يدعى محمد على عمارو‘ (قائد المنطقة الرابعة).
ج. بل.
س. كيف عرفته.
ج. تربطني به صلة قرابة.
س. هل حصل ان قابلته.
ج. بل.
س. متى.
ج. منذ بضعة اسابيع (اعتقادا ان حمدو ذكر النقطة، ولكن من خلال لمحة استغراب سريعة بدت على وجهه شعرت انه فعلا فوجىء).
س. من كان معه.
ج. ,رمضان محمد نور، عثمان عبد الله حرك ومحمد حجى شيخ عمر (ولم اذكر اسم حسين بارى حسب اتفاقي مع سعيد).
س. اين قابلتهم.
ج. جاءوا الى منزلي.
س. لماذا جاءوا.
ج. طلبا للعشاء
س. هل عشيتهم.
ج. لا.
س. لماذا.
ج. كنت وحدى واسرتي كانت في قندع.
س. لماذا جاءوا الى منزلك تحديدا ولم يذهبوا الى مكان اخر.
ج. لا اعرف، ولربما بحكم صلة القرابة.
س. هل اعطيتهم مالا.
ج. لم املك مالا حتى اعطيهم.
س. هل قابلوا احدا في منزلك.
ج. لا.
س. هل طلبوا منك ان تأخذهم الى أي مكان.
ج. لا
س. هل طلبوا منك شيئا.
ج. نعم، اعطوني نقودا لأشتري لهم بعض السجائر.
س. وهل اشتريت لهم.
ج. بل.
س. من اين.
ج. من دكان محمد رمضان حسين وبعد ذلك انصرفوا.

(بالمناسبة، استغرب الاخ محمد عندما طلبت منه سجائر لأنه كان يعرف انني لا ادخن، فسألني اذا كان ’للجماعة‘ لم اجد ردا الا ان اقول الحقيقة فرفض أخذ القيمة. اما بخصوص ما قد يترتب على اقوالي تجاهه، كنت ادرك تماما ان العملية عبارة عن بيع وشراء لا تترتب عليها اية مساءلة قانونية، ولكنها تعطي اقوالي نوعا من المصداقية).

هنا ارتبك بلطي لأنني، من ناحية، انكرت جازما إنني اعرف معنى الجبهة ناهيك الانخراط فيها، ومن ناحية اخرى، اعترفت انني قابلت قادتها. حملق في وجهي مطولا ليرى حالتي النفسية. قرأ من ورقة اخرجها من درجه عشرات الاسماء من بينها اسماء اعضاء اللجنة، ثم سألني ان كنت اعرفهم. اخبرته أنني اعرف بعضهم. وردا على سؤاله عن مدى علاقتي بكل منهم، بينت له انه تربطني ببعضهم صلة قرابة واعرف بعضهم اجتماعيا اما من ناحية العلاقة الشخصية فسني لا يسمح لي بذلك.

واذ هو يتظاهر لبضع دقائق وكأنه يبحث عن شيء في درجه، سألني ان كنت أكلت شيئا. فهمت انه يحاول اشغالي بموضوع جانبي. وضحت له إنني لم اذق طعم الاكل طول اليوم الا كوب شاهي ورغيف واحد. قال ’فقط!‘ وفى عينيه بريق خاص ناولني البوم صور وسألني ان كنت اعرف احدا منهم. أشرت الى صورة حمدو. سألني اين ومتى وكيف تعرفت على حمدو. قلت له أنني تعرفت عليه من خلال ابن خاله ومن ثمة نشأت بيننا علاقة شخصية، مع ان العكس هو الصحيح. واخيرا سألني عن المدن التي زرتها. ذكرت: قندع، اسـمرا، كرن، تسنى، اغردات، مندفــرا، دقـي امحري وماي حبار.

استنتجت من عدم سؤاله عن تاريخ كل زيارة واسبابها ومكان الاقامة خلالها والاشخاص الذين كانوا معي ان معلوماته محدودة، فلو رجع الى مباحث مصوع وتسني لربما لكان وجد شيئا يبني عليه.

كان بلطي طوال الوقت مهذبا هادئا يتحدث بنبرة عادية جدا يمكن اعتباره مثاليا بالمقارنة مع الوحوش التي قابلتني فيما بعد. ولأول مرة استخدم تعابير وجهه وحركات يديه للتعبير عن تعاطف انساني زائف يظهره كمن يحرص على مصلحتي وسلامتي.. ’بصراحة، يا عثمان، نحن لم نعتقلك جزافا انما بعد اجراء تحريات طويلة ودقيقة افضت الى معلومات وافية وموثقة بشهود عيان رجالا ونساء اثبتت انك عضو في الجبهة وانكم تختزنون اسلحة‘ في هذه اللحظة شعرت بحالة أنقاض شديدة، لحسن الحظ لم يلاحظها، خوفا من ان يكون فعلا توصل الى معلومة ولم اتنفس الا عندما اكمل الجملة ’في منطقة جبل قدم ومرسى تكلاى، واذا لم تعترف بالحقيقة ستعرض نفسك الى تعذيب لا قبل لك به لان السجن كجهنم لا يمتلئ والجلادين كالزبانية لا يفترون، اما اذا اعترفت طواعية فان الحكومة تعفيك من اية تبعات قانونية وتعتبرك شخصا مغررا به ولاسيما انك دون السن القانوني!‘

هنا ارتكب بلطي خطأ مهنيا فادحا ما كان له ان يقع فيه الا وهو تحديد مكان تخزين السلاح، لان تحديد المكان اذا لم يكن مبنيا على معلومات اكيدة يعطي بنتيجة عكسية. فلو لم يذكر ’جبل قدم ومرسى تكلاي‘ على الاقل لارتبكت لبعض الوقت.

ولابد لي من الاشارة هنا الى ان العهد الذي الزمت به نفسي والوعد الذي اعطيته للأخ سعيد فيما يتعلق بعدم الاعتراف مهما بلغت قساوة التعذيب، فعلا كان كلاما مثاليا لا تسنده ادنى معرفة بما لدى الطرف الاخر من معلومات، وان مثله لا يصدر الا عن غر مغتر او شخص يتمتع بقدرات خارقة، ومع هذا، لولا تمسكي بما قلته على علاته ورسخته الى لحظة التحقيق لأصبحت نهبا للتخبط والاضطراب حتما كانا سيؤديان بي الى انهيار قبل بدء المواجهة الفعلية. اما الان وبعد ان اتضحت الرؤية وثبت جليا انه لم يكن لدى المباحث اكثر مما توقعت وقلت، وبعد ان اجهضت شهادة الاشخاص الذين كان يعتمد عليهم بلطي، شعرت بطمأنينة اكثر وثقة اكبر لمواجهة ما هو قادم بعون من الله، لان الشيء السيء في التحقيق ان يضبط المرء متلبسا او يكون عليه مستمسك مادي والاسوأ منهما ان يكون هناك من يشهد ضده، وكلها غير متوافرة في حالتي، على الاقل، حتى اللحظة.

بينما اتحدث اليه محاولا اقناعه بأنه لا علم لي لا بالسياسة ولا بالسلاح، وفي ذات الوقت اقيم وضعي، فاذا بيد غليظة تمسك بلياقة قميصي من الخلف وتجرني والكرسي معي وتجري بين الغرف كالعبد الابق. الهدف من هذه التصرفات المستهجنة بث الرعب وارهاب المعتقل قبل ’الحفلة‘ كما كان يطلق عليها بعض الزملاء. ورب ضارة نافعة، بما ان وجهي كان الى الخلف وهو يسحبني، لمحت في احدى الغرف التي مررنا بها الاخ سعيد معلقا كالدجاج وهو يشوي، منزوع الملابس الا مما يستر العورة، متدلي الرأس وليس حوله احد.

كانت الغرفة التي ادخلوني اليها واسعة جدا تشبه صالة عرض للأدوات الرياضية تزخر بأجهزة ومعدات مختلفة الاشكال والاحجام: اصفاد، سلاسل، حبال، علاقات، شناكل، عصى بلاستيكية وخشبية، كمامات، سياط، جهاز صدمات كهربائية، وبعضها لم اعرف ما هيتها ولا طبيعة استعمالاها. في الحقيقة، لم اعرف المعايير التي يتم بها اختيار طريقة التعذيب لكل الشخص. على كل، تلقفني ثلاثة من الزبانية واوقفوني امام برميل لا يتجاوز طوله المتر شبه مليء بماء وسرعان ما جردوني من ملابسي على قلتها، ثم شرع كل منهم في اداء مهمته، الاثنان في اليمين والشمال يلفان رباطا حول معصمي والثالث يلف رباط مماثل حول وسطي. كنت اجول ببصري متعجبا في ما يخترعه الانسان لتعذيب انسان مثله ثم انظر الى تصرفاتهم البهيمية التي لا تختلف عن الوحوش عندما تقبض على فريستها.

لست ادرى لماذا كنت اخاف احد الزبانية يدعى ارآيا اكثر من غيره مع انه لم يكن اسوأهم، لربما بسبب شكله الغريب حيث كان فارع الطول نحيلا وهزيلا كالسواك، ذا شعر كثيف طويل جدا مع شاربين على النمط التركي، وعيناه احولان لا تعرف اهو ينظر اليك ام الى غيرك. كان هو المكلف برفعي من الخلف عندما تبدأ ’الحفلة‘ فكان يتراءى لي انه لن يحسن التقدير ولربما اسقط رأسي على حافة البرميل فيشطره نصفين او يعتقد انه ما زال في رمق بعد واكون قد فارقت الحياة! وتساءل مرة اخرى هل فعلا سأصمد، بدأت رجلاي ترتجفان بشكل مرئي ومهما حاولت لتثبيتهما لم استطع، هل هذا نتيجة خوف ام بفعل البرد القارس جدا، لربما كلاهما، لا يعني هذا انني لم اكن خائفا، على العكس كنت خائفا حتى النخاع ولكن لم افقد رباطة جأشي الى هذا الحد، فقط كرهت ان اظهر امامهم بهذا الشكل. وفجأة تذكرت سعيد وحالته وتساءلت عما اذا كان حيا، وهل اعترف ام لاء، تارة أرجح انه اعترف ثم ادرك ان هذا سيقودني الى تشاؤم وما لا تحمد عقباه، فأتراجع وأقول لو اعترف فعلا لسألوني عن شيء مما ذكره، وبالتالي انه ما زال صامدا، وطالما هو صامد ما الذي يمنعني من الصمود، فاشد من عزمي واذكر نفسي بعهدي فأرى نفسي بينهم عملاقا.

لم اعرف ان بطأهم في لف الرباط كان مقصودا من ناحية لانهاك نفسيتي ومن ناحية اخرى لحين حضور رأس الافعى، الشاويش بيان المشرف عليهم. كان بيان ملاكما ولربما خريج معهد كمال الاجسام، عبارة عن صخرة من لحم ودم. ما ان دخل ووقف امامي، قال لي محذرا ’يا ود بدوي.. اعلم انني اجعل الحجر ينطق ناهيك طفلا مثلك، فما من شخص دخل هذا المكان الا واعترف ومن لم يفعل لم يخلف ولم يهنأ بالحياة ابدا‘. تذكرت انني سمعت هذا الصوت الاجش ونفس العبارات من قبل. عندما دخلنا السور في اليوم الاول مررنا تحت البلكونات كان يقف فيها ثلاثة اشخاص، ذكر احدهم اسمي وقال نفس المعني، ومع انني كنت متأكدا انني سمعته، اقنعت نفسي بانه ليس في اسمرا من يعرفني وخصوصا في هذا المكان واعتبرته مجرد تهيؤ، وهذا نوع من خداع النفس. اما الان فلا مجال للشك والتشكيك.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click