ذكريات وتجارب - الحلقة الخامسة والعشرون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
لم يكن استعراض الشاويش بيان السيئ السمعة والتبجح الذي تفوه به في اليوم السابق عن مدى قدرته على انطاق حجر من باب بث
الرعب، انما تباهيا بالجرائم التي كان يقترفها بحق مناضلين اصب العديد منهم بعاهات واعاقات دائمة الى ان اصابه الله بشلل صاحبه الى مثواه الاخير. اما فيما يتعلق بأداء الزبانية فقد اتضح لي ان تمهلهم في لف الرباط حول معصمي ووسطي كان انتظارا لانضمام بيان اليهم وليس رأفة بي كما اعتقدت، فسرعان ما لووا يدي الى الخلف وربطوهما بقيد واحد وامسك كل منهم الجزء المكلف برفعه استعدادا ’للحفلة‘.
كان البرميل حائلا بيني وبين الشاويش بيان وبالتالي لم يستطع الاقتراب اكثر، كان تقديري، حسب ما علمنا الاخ ودي ياسين الذين كان له مركز تدريب للملاكمة ورفع الاثقال في مصوع، انه سوف يسدد لي لكمة يمينية في الفك الايمن، وبالفعل كانت يمينية قوية ولكن في البطن وهذا لتسهيل عمل اعوانه. فما ان كاد يلامس رأسي ركبتي من شدة الالم، قلبني الزبانية رأسا على عقب لأجد نفسي اغرق حتى الصدر في البرميل بينما رجلاي يرفسان في الهواء، ونتيجة الماء البارد في برد قارس جدا شعرت وكأن دمائي قد تجمدت واصبحت كتلة هامدة.
اتذكر عندما أخرجوني منه وانا الهث والمياه تتقاطر من شعرى وتحجب عنى الرؤية، وانفى مسدود بالماء والمخاط واذناي مسدودتان لا اكاد اسمع ما يقولون، وخلال ثواني اعادوا الكرة. لا اذكر كم مرة تكررت هذه العملية، ولكن عندما توقفوا في احدى المرات ليرتاحوا، لا ليريحوني، وجدت نفسى ملقيا في زاوية وقد اصبت بكحة شديدة مع ازيز قوى يصدر من صدري وكأنني احمل بداخلي أوركسترا متكاملة. حاولت ان احرك يداي لأزيل ما يسد انفي لأتنفس ولكنهما كانتا مقيدتين، وبمجرد ان فتحت عيني، هرعوا الى الغرفة وشرع بيان في طرح اسئلته القديمة الجديدة وانا مرمي على الارض مكوم كالقنفذ. في الغالب كانوا يرتاحون بعد كل ربع ساعة تقريبا لعدة دقائق. وفي احدى الاستراحات اجلسوني على كرسي وبدأ بيان يستجوبني الا إنني لم اكن قادرا حتى على الثبات حيث تصطك أسناني بقوة وقد انتابتني شبه ازمة شديدة وضيق حقيقي في التنفس تكاد عيناي ان تقتلع. مع انهم يرون ان حالتي لا تسمح لي باستيعاب ما يقولونه حتى لو اردت الجواب، اعتبروا سكوتي تجاهلا ولربما تحديا لهم فحملوني الى البرميل ولكن لفترة اقل.
كنت اعتقد ان من يعذب في الاخر محظوظ حيث يكون الزبانية منهكين بعد ان استنفدوا طاقتهم عكس ما يكونون عليه في الاول من حيوية وعنفوان، وهذا صحيح. وما لم اعرفه ان من يعذب في الاول يجد من يساعده في ارتداء ملابس وايصاله الى غرفته، بينما من يعذب في الاخر لا يجد من يعينه سوى الزبانية اللئام. لهذا، عندما تأخرت في ارتداء ملابسي في اخر ’الحفلة‘، ضرب احدهم الكرسي الذي كنت جالسا عليه من الخلف حتى سقطت على جبهتي ولم استعد وعيي كاملا الا في ظهيرة اليوم التالي بسبب الجوع والم شديد في اصابعي المتورمة، ولعلى بلعت كمية ماء كبيرة وجدت نفسي مبللا، لم اكترث بما فعلت بالبرش فقد كانت رائحته توحى ان ما فعله به غيري كان اكثر. فسرت عدم استدعائي في الصباح الى مكتب المحقق بانني لم ادل بشي جديد، ومع اقتراب المساء استعدت الشريط واستجمعت روحي المعنوية وظلت انتظر قرع الباب، احيانا كنت اقف بالقرب من الباب ثم ارجع الى مرقدي، واحيانا يهيأ لي انهم فعلا طرقوا الباب او سمعت صوتهم وانا على هذا المنوال انتصف الليل وفرض النوم سلطانه.
التعذيب عن طريق الماء تمارسه معظم اجهزة الامن ووكالات الاستخبارات العالمية مع بعض الاختلافات. فوكالة الاستخبارات الامريكية كانت تشد ايدي وارجل معتقلي تنظيم القاعدة على لوح مسطح مع تثبيتهم بحزام في الوسط ثم تغطى وجوههم بقطعة قماش وتفتح عليهم ماسورة ماء، اعتقد ان هذه الطريقة ارحم بكثير من تلك التي كانت تستعملها المباحث الاثيوبية.
لم يخيبوا ظني في اليوم الثالث، نوعا ما كنت قلقا عندما اخذوني قبيل الغروب الى مكتب بلطي خشية ان يكون قد استجد في الامر شيء، والحمد لله لم يكن لديه جديد يقوله سوى ترديد التهديد بالتعرض لتعذيب انكى وابشع بكثير مما شهدت. كالعادة تلقفني احدهم بنفس الاسلوب السابق، وقبل ان تخطو رجلي في الغرفة دفعني من الخلف لينتزعني اخر بطريقة شديدة البراعة والاتقان لأجد نفسى وسط مجموعة متخصصة ومدربة جيدا تضرب بتركيز وعنف لم تسمح لي فرصة للتنفس او النظر الى وجوههم، كنت اراهم في اشكالهم واحجام تختلف بين كل لحظة اخرى بحيث لم استطع التمييز بينهم، وحسب ما عرفت فيما بعد كان رئيس هذه المجموعة شخص يدعى ودي عندلي في الحقيقة لم اتفحص ملامحه جيدا. عاودوا نفس العملية مرارا وتكرارا وساعدهم حجمي الضئيل على التمثيل بي كدمية يتقاذفها الاطفال كيفما شاءوا. كانت الغرفة اصغر من السابقة خالية من اية ادوات او معدات اشبه بصالة لعبة كرة السلة. لحسن الحظ كان هناك من ساعدني واوصلني في نهاية ’الحفلة‘ الى غرفتي اعتقد انهم سياسيون بالنظر الى عدم تأففهم او تقززهم كما يفعل الزبانية.
في الحقيقة، التعذيب في الماء مع ما يرافقه من تكميم وضرب كان ارحم بكثير من هذا الضرب الذي لم يترك في جسمي مكانا والا اصابها حتى استحال علي لعدة ايام الجلوس او الرقاد وحتى الوقوف بعد ان تورمت قدماي وبعض اعضائي الى درجة انه مضى على وجود الخبز وكوب ماء بالقرب من الباب وقتا طويلا وانا انظر اليه من بعيد كما تفعل الفأرة عندما تخشى ان يكون الاكل مسموما، وعندما اضطرتني الحالة زحفت اليه ثم استسلمت للنوم. بعد هذه الليلة لم اعد اخشى او اترقب قدوم الزبانية كما كنت افعل من قبل بعد ان اصبحت اكثر استعدادا لتحمل المزيد.
لم تختلف الايام التالية لا من حيث اساليب التعذيب ولا من حيث النتائج، الا ان امرا غريبا قد حصل. شعرت صبيحة اليوم الاخير، انني قلت شيئا اثناء التعذيب، وكان الاقسى، ومهما بذلت من جهد لأعرف متى كان هذا وماذا قلت لم اجد ردا كما لم اجد تفسير للألم الشديد الذي اشعر به في الرأس اقرب الى ضربة منه الى صداع، والحك الذي اصاب عيني، وكلما حاولت تحسس جمجمتي آلمتني اصابعي قبل رأسي، فدخلت في غم شديد استمر معي طوال اليوم، لم يكن امامي سوى انتظار استدعائي للتحقيق الامر الذي لم يحصل حتى غابت الشمس مع بقاء الحال على ما هو فيه.
في صباح احد اليوم التالي او بعده كنت انتظر امام مكتب بلطي عندما رأيت الكابتن محمد ابراهيم متجها نحوي، تأكدت في هذه اللحظة انني فعلا ادليت بشيء وان محمد ابراهيم جاء ليشارك في التحقيق معي فشعرت بصدمة مصحوبة برعشة عمت جسدي وتدافعت في ذهني اسئلة وتساؤلات كثيرة. وقبل ان اصل الى رأي محدد وقف محمد ابراهيم امامي وقال ’كيف حالك يا عثمان ’ الله يفرج عنك‘ وواصل طريقه! التقيته بعدها في جدة عام 1986 حيث كان يعمل في الامانة العامة لرابطة العالم الاسلامي في مكة وتبادلنا بعض الذكريات.
كان مع بلطي عندما دخلت اليه في مكتبه الزميل حمدو محمد. وقبل ان يخلي لنا المكتب، نصحني بضرورة التفاهم والتعاون مع حمدو واخذ العبرة مما حل به والا سأكون قد جنيت على نفسي بما لا اطيق. ذكر حمدو ما تعرض له من تعذيب وانه يخشى علي من نفس المصير، وانه يفضل، اذا كانت لدى اية معلومات، ان افسح عنها واخلص نفسي. اول شيء لفت نظري في كلامه استعماله عبارة ’اذا كانت‘، ثانيا، ان اثار التعذيب التي عليه لم تكن اسوأ بكثير مما كانت عليه قبل اعادة اعتقاله، ثالثا، كانت نظراته تنطق عكس ما ينطق به لسانه وكأنه يتكلم مضطرا، ورابعا، انه لم يذكر في كلامه لا اسما ولا موضوعا معينا مع انه يعرف الكثير، وخيل الي ان المكتب مزود بأجهزة تنصت وربما كاميرا تصوير ايضا.
كان ردي جادا اقرب الى عصبية ’تعرف تماما يا حمدو إنني لا افهم في السياسة ولا اخفي معلومة حتى ابوح بها، وعندما اخبرتك حضور بعض الاشخاص الى منزلي لم اكن اعرف نشاطهم – اندهش حمدو عندما ذكرت هذه النقطة -، فاذا لديك ما تعرفه فمن حقك ان تكشفه لتخلص نفسك وتخلصني معك، وانا لست مستعدا لتوريط ابرياء لإنقاذ نفسي. شعرت وكأن اسارير وجهه قد تفتحت وادرك إنني فهمته جيدا. كم كانت سعادتي بثباته وصداقته. سألنا بلطي عما توصلنا اليه، فذكر له حمدو انه اخبرني بكل ما عنده، وعندئذ التفت الي وسألني عما قررته، فقلت له ’اذا كان لدى حمدو يعرف ما اخفيه فليقله الان امامك اما انا فليس لي ما اضيفه. رأيت في خروج بلطي بدون تعقيب اعترافا بالفشل وبهذا تعزز موقفي واملي في الخلاص وبدأ العد التنازلي.
في نفس الليل وانا بين اليقظة والنوم حاولت مطولا ابحث عن العلاقة بين الالم الذي احسه في الرأس والحك في العين ثم الاحساس بانني ادليت بمعلومات، وقبل ان اصل الى نتيجة داهمني النوم، ولكن شيئا ما ايقظني بعنف في وقت متأخر من الليل فجلست، تذكرت انه عندما مرت بخاطر فكرة تخليص نفسي، لأول مرة فتحت عيني في هذا الماء القذر جدا، وانني قمت بحركة لا ارادية قوية ضربت على اثرها برأسي قاع البرميل بقوة، ولعل تأخر الزبانية في معالجة الموقف المفاجئ سبب لي نوع من الدوخة. علما، وحسب ما سمعت فيما بعد، ان العديد من المعتقلين قضوا بسبب اختلال توازن الزبانية وعدم دقتهم في التعامل مع كل حالة على حدة.
وفي صبيحة اليوم التالي استدعاني الشاويش بيان الى احد المكاتب وبدأ يعيد الاسئلة السابقة حرفيا وانا ارد عليه بالمثل الى ان سألني عن الدكان الذي اشتريت منه السجائر، فقلت له انه دكان محمد رمضان حسين، وبينما اتوقع منه سؤالا اخرا قال لي ’كذاب اشتريته من دكان هاشم رمضان‘ ولطمني على صدغي لطمة استمر معي طنينها لعدة دقائق. مع انني كنت محتاطا الا انفعل، وبنبرة تتسم بتحد كررت نفس ما جعله يسدد لي لطمة اخرى ويطلب من احد الزبانية ان يأخذوني. كانت تعرف هذه المجموعة ’بمجموعة الحالات المستعجلة، لم تسألني الا بعد ان اوسعتني ضربا، وكان سؤالها عن الدكان الذي اشتريت منه، وعندما كررت كلامي السابق استمرت في الركل والضرب، وكلما سألتني اجيبها اعطيها نفس الجواب، ونتيجة التبلد الذي اصابني بسبب المباغتة لم اتساءل من اين جاءوا باسم العم هاشم ولماذا يصرون عليه، وبعد ان اخذت نصيبي من الضرب ادركت انهم يريدون ابتزازه ماديا ليس الا وان الموضوع ليست له علاقة بالقضية.
أخذوني في المساء الى مكتب الملازم بلطى الذى استقبلني بروح جديدة حيث ابدى عظيم اسفه على حالي وما حل بي، ثم امر لي بسندويش وكوب شاهي. وبعد ان اعتقد إنني هدأت وافضل حضورا، تحدث عن الاخطاء التي ترتكبها اجهزة الامن اثناء تأدية واجباتها تجاه المواطنين الابرياء، وان السبب في هذا عدم قدرة الحكومة على التمييز بين الصالح والطالح، وان هذا لا يمكن ان يتحقق الا اذا تعاون معها كل المواطنين حماية لسلامتهم وسلامة وطنهم، وان الحكومة دائما تقدر دور ابنائها المخلصين وترفعهم الى المكانة التي يستحقونها، وبعد ان طلب مني التوقيع على اقوالي ذكر انه سيطلق سراحي بكفالة. لم اصدق كلامه.
فوجئت في اليوم التالي بدخول الاخ محمد عثمان الذي سبق ذكره حاملا اناء طعام وبطانية مرفقة بورقة كتب عليها من محمد عامر حمد امير. كانت هذه اول مرة استلم فيها شيء من الاهل او يتصل بي احد. كنت اضحك من السرعة والشراهة التي اكلت بها تلك الكمية الكبيرة. عندما عاد محمد عثمان لاستعادة الاناء طلبت منه اخبار الاخ محمد عامر انهم اتهموني بحيازة سلاح في جبل قدم ومرسى تكلاي وانه سيطلق سراحي بالكفالة. كنت متأكدا ان الاخ محمد عامر سينقل المعلومة الى من يهمه الامر. ولكن عندما اتصلت به في شهر فبراير من هذا العام 2016 لأتأكد اذا ابلغه عثمان المعلومة وانه بلغها للزملاء، ذكر محمد عمر انه سلم الطعام للحارس وهو الذي اعاد اليه الاناء ولم يقابل محمد عثمان.
كل ما كنت ارغب فيه بعد هذه التجربة المريرة والوليمة الدسمة ساعة نوم هادئة خالية من كوابيس ومن أي توتر او ترقب، وبعدها بدأت في تمحيص ما ورد على لسان بلطى وتفسير ما كان يرمز اليه حتى توصلت الى ان انه لربما يفكر في استغلالي لإلقاء القبض على القيادة، وكل ما كنت اتمناه ليس الخروج من هذه الورطة فحسب بل ومعرفة الجواسيس الذين سيربطني بهم وخصوصا في البلدة.
وفى لقاء اخر خلال المساء قال لي بلطي بعد مقدمة طويلة ان الحكومة لا تطلب مني سوى اشعارها اذا زارني احد من المجموعة سالفة الذكر، وبعد ابداء انزعاج ومخاوف من ان ينكشف امرى وتعرضي لمشاكل لا قبل لي بها ومراوغات كثيرة، احس انه اقترب من غايته فاخذ يشجعني ووعدني بان يتم عملي بطريقة سرية جدا وعلى مستوى عال بحيث لا يشعر بي احد، وفى حالة احساسي بأي خطر او حتى اذا رغبت في الابتعاد الى مكان اخر فان الحكومة كفيلة بنقلي الى أي مكان اختاره حتى الى اديس ابابا حيث يمكنني الالتحاق بالجامعة واكون قريبا من شقيقي. كنت قد ذكرت له في اليوم الاول بطريقة عفوية ولكنها متعمدة ان شقيقا لي يعيش في اديس ابابا واتمني ان ادرس هناك.
وفي اللقاء التالي اعاد كلامه بصيغ مختلفة بدون التطرق لا الى الكيفية التي سأعمل بها ولا هوية الأشخاص او الجهة التي سأرتبط بها مكتفيا بالقول انه سوف ينقلني الى معتقل كازيرما موساليني ريثما تتم اجراءات اطلاق سراحي بكفالة وانه ابلغ اهلي بهذا، وسيصدر تعليماته الى ادارة المعتقل لتسمح لي بمقابلتهم. بهذا اتفقنا مع بلطي على ما لم نتفق عليه فعلا واصبحت العلاقة بيننا خلال الايام التالية علاقة مولى بسيده كلها تملق وتذلل ولكن غير متقنة كما يجب.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.