لمسات في تاريخنا المهمش ذكريات معركة حلحل - الجزء الثالث
بقلم المناضل الأستاذ: أحمد هبتيس - كاتب ارتري، ملبورن أستراليا
نفض الغبار عن أحداث حلحل: فالبدء نشير إلى الأجواء التى كانت سائدة في تلك المساء قبل معركة حلحل.
وكان الموسم بداية فصل الربيع ونهايات تنظيف الحشائش من المزارع، والوضع كان في هدوءٍ تام حتى المواشي غير موجودة في البلدة، ولاسيما الأبقار نظراً في مثل هذا الموسم دائماً تنزل إلي المناطق المنخفضة (بركه) أو (عنسبا).
الي جانب ذلك معظم سكان (فيشو) رحلوا بعيداً من هذه المنطقة قبل فترة طويلة نتيجة للحروب والحرائق التي شملت المساكن والمتاجر، وكانت (فيشو) شبه مهجورة خالية من السكان، حتى (حي الكنيسة) لجأ سكانها الي (كرن).
وكان الطقس لطيفا جداً والسماء صافية قمر ١٤ ساطع كوضح النهار، والزمن كان بعد صلاة المغرب بين الساعة ٦.٣٠ الي ٧ مساءً، قد فوجئنا عندما سمعنا إطلاق النار وسرعان ما اشتعلت النيران، وأيضاً استخدم العدو الإضاءة النارية تكاد ترى أمامك حتى إذا وقعت إبرة على الأرض. وكل الناس خرجوا من داخل البيوت ولا ندري ماذا نفعل، وتجمعنا في مكان واحد وجلسنا، نحن والجيران خلف بيتنا في زاوية مصلى صغيرة وامامنا سور ليس مرتفع كثير ، ونحن في حيرة من الأمر بعد ساعة تقريبا أتي إلينا جندى من الخلف، وهو قائد مجموعة (احمد حامد قطوم) رحمة الله عليه وعلى إثره خلفهِ خمسة مقاتلين ، حاملين جندى سادس جريح وهو (المناضل/ محمود طاهر سالم) متألم شديد، وطلبوا منا إحضار سرير (أي عنقريب) و بطاطين، بأسرع وقت وتحركنا به وهم كل واحد منهم حامل أكثر من قطعة سلاح، وأخذنا الجريح وذهبنا به إلى (وشي مندر).
هنا لفت نظري جندي كان حاملاً قطعتين (أي بندوقيتن) وكما تعلمون أن الجندي في الثورة كان أكثر حفاظاً على البندوقيه من روحه وفي الطريق كنا نتبادل حمل الجريح فالجندي أراد يساعد على حمل الجريح فأعطى البندوقية الثانية لمدنيّ شعبي ونحن لازلنا في الطريق تخلف الشخص الشعبي والبندقية معه والجندي عندما أخذوا منه الجريح التفت حوله يميان ويسارا ولم يجد الشخص الذي سلمه البندوقيه وصرخ صراخاً شديداً قائلاً (بندقيتي التشيكية التشيكية!) -وكانت البنادق جديدة قد وصلت لتوها من جمهورية تشيكا Czech Republic - وكاد أن يفقد عقله وسبب تأخر الرجل مع البندوقيه أنه كان كبير السن فما استطاع الهرولة ليلحق بنا والحمد لله وصل متأخراً.
وتركناهم هنآك وعدنا، ونحن في طريق التقينا بمجموعة يحملون جريح آخر، وهكذا طول الليل يا لها من الليلة؟ نوصل ونعود حتى صباح الغد الباكر، وذهب الشعب إلي الغابات والي الجبال تاركين كل ممتلكاتهم، لم نأخذ شيئا من بيوتنا!
اذكر هنا أن الوالد رحمه الله كان عنده سيف لا يخرجه من غمده ولا يستخدمه إلا نادراً مثلاً ليحمله العريس كما هو بغمده وإسم هذا السيف (أب قمرة) ، قال لي (خبئ هذا السيف في مكان بعيد) وذهبت به إلى (سخرينخ) وأخفيته وسط صخور وأشجار التين الشوكي (بلس) لم نأخذ من غيره أي شئ.
ورجعنا الي الجرحى وتركوا معنا بعض الجرحى الذين كانت أصابتهم خفيفة واخذوا الذين كانت إصابتهم البالغة واليوم التالي ليلاً عادوا واخذوا باقي الجرحى، واستمر البحث عن الجرحى والشهداء في كل وديان وأماكن خفية و تحت الأشجار لمدة ثلاثة أيام، وتم دفن الشهداء في عدة مواقع، على سبيل المثال ثلاثة أو أربعة من الشهداء دفنوا في (قننّاعت) 2 منهم قادة فصائل الشهيد (أدم درع) والشهيد (إدريس عثمان عبيلو)، رحمة الله عليهم أجمعين، وتم دفن ثلاثة شهداء أيضاً في (مأتو) كما قال الشاعر (أه يا مأتو نحن أتون إليكِ العشيا) في مزرعة آل هنقلا تربعَ الشهيد البطل طيب الله ثراه أدم ابوبكر، يعتبر هذا البطل (جڤارا إفريقيا) شد الرِحال من (مأتو) لدخول معركة حلحل ودفن في (مأتو) ومن هنا نقول وعداً علينا لنضع نصب تذكاري لشهيد ود البكر فى الأرض التي ارتوت بدمائه الطاهرة نعلم قد تم نُقل رفاته ضمن الاخرين إلي مقبرة الشهداء في حلحل ولكن هذا لا يمنع وضع نصب تذكاري لشهيدنا البطل في (مأتو).
عدد كبير من الجرحى مروا عبر (مأتو) إلي (طروم) ثم (محابار) (سبر) إلخ... أحد الحرحى القائد البطل الشهيد/ (عمر حامد ازاز) وقد رافقهم بعض الناس لمساعدة الجرحى ومن بينهم بنات وفعلاً كن يقمن بواجب عظيم ولكن عند النهاية هُنّ فتيات يغلبُ عليهنَ روح العاطفة والحنان وعندما رأى (القائد عمر) تصرفاتهنَّ متألمات من الواقع ويبكين همس الشهيد لعمنا (محمد إبراهيم عبي) أحد الذين رافقوا الجرحى الي (همبول) قائلاً له (رجع البنات على الفور يا محمد إبراهيم) يوصي بكل إهتمام وهو في أصعب حال كانت إصابته عميقةً متحملا ألماً لا يطاق وضل يلاحظ ما يجري حوله.
ولقد انسحب الجيش بعد نهاية المعركه بعدة إتجاهات وكانوا متفقين على نقطة التجمُع في (سبر) كما تعلمون كان عدد الجرحى يفوق 65 جريحاً واسلحتهم كانت حملاً ثقيلا جداً وبرغم ذلك الشعب من كل المناطق المجاورة بدأ استعداده ونقلوا الجرحى واستشهد البعض منه في الطريق وباقي الجرحى و السلاح وصل إلي (بركه طعده).
ووضعوا الأسلحة في أماكن مؤمنة وتم نقل الجرحى بالجِمال وغيره من الوسائل المتاحة إلي السودان لم يكون هذا بسهلٍ. ولكن يجب هنا ان أشيد بكل فخر واعتزاز بموقف المنطقة العسكرية الأولي، أحيهم عبر هذه المقالة على موقف الجميل المُشرف قيادة و جيشاً وشعباً بقيادة عمنا المناضل البطل (محمود ديناي) فك الله أسره إن كان حياً ورحمة الله عليه ان كان ميتاً ورحم الله كل القيادات التاريخية التي تكبدت العناء المشاق لإنقاذ جرحي المنطقة الثانية موقف يدل على عمق الشعور الوطني و نضال تلقائي دون أن ينتظر قراراً أو توجيهاً إداري، موقف إنساني ل مثيل له، فالرجال عند الشدائد.
إلي جانب ذلك بعثت قيادة المنطقة العسكرية الأولي وفداً إلي موقع المؤتمر برسالة تقول نطلب تأجيل المؤتمر وإلم يتسنى ذلك فنعتذر لعدم تمكننا من الحضور لظروف طارئة وذالك لإنشغالنا مع جرحي (معركة حلحل).
ذكرتني هذه الرسالة بمقال قرأته قبل عام تقريبا كتبه أخونا المناضل (محمد سعيد) الذي أكن له كل الاحترام والتقدير فهو مناضل وشاهد عيان لمعركة حلحل وضح في مقاله كل الحقائق والملابسات ولكن مع الأسف يمكن اختلاط عليه الأمور مع طول الزمان وتقدم السن واخطأ في بعض الأشياء.
الأن سأنقل إليكم ما قاله حرفياً من مكتوبه الفقرة التي أخطأ فيها وأي خطأ يشوش على القارئ ويكتنفهُ الغموض في الرواية.
فيقول الأخ المناضل (محمد سعيد): قبل معركة حلحل،كانت قد شُكلت قيادة موحدة للمناطق الثلاثة، والذي عرفت ب"الوحدة الثلاثية" بقيادة المناضل محمد احمد عبده. على كل حال وفي مثل هذه الأجواء بدأت قيادة المنطقة الثانية تخطط لمعركة حلحل حيث كانت ترى بأن الدخول في معركة لن يكون بأي حال من الأحوال عائقاً أمام تحقيق الوحدة.
كلام (المناضل مَفلس) ليس فيه ما يسيء ولكن تلك معلومة خاطئه فلهذا السبب دعوني أوضح أكثر للجيل الصاعد على وجهِ الخصوص الذي لم يحالفه الحظ أن يكون جُزءًا من مرحلة الثورة.
تم عقد مؤتمر (عرادايب) العسكري في يونيو '68 بحضور كل القيادات المناطق العسكرية الخمسه وقد كان الاجتماع تمهيدي أي تحضيري للمؤتمر العسكري شامل للخمسه المناطق وتم الاتفاق بالإجماع على الزمان والمكان في أراضي تابعة للمنطقة الثانية. وقد قرأت مرة قبل 40 عاماً في أدبيات الثورة جبهة التحرير الارترية بالتحديد في كُتيب "تجربة جيش التحرير" يقول فيها الكاتب اجتماع (عرادايب) بعد أن اتفقنا لعقد المؤتمر (الشهيد عمر حامد ازاز) تقدم باقتراح يقول فيه يجب أن نُشرك معنا المجلس الأعلى والقيادة الثورية ويقول الكاتب هذا الاقتراح كان رأي متقدم في ذاك الوقت ولكن لم يُأخذ بعين الاعتبار.
ما جعلني أتي بهذه الدلائل لأكد أن مؤتمر (الوحدة الثلاثية) لم يكن منعقداً قبل معركة حلحل إنما كل الوفود كانت في طريقها إلي مكان المؤتمر بل و قد أرسلت المنطقه الثانية ثورين إستقبالاً للضيوف التي وصلت إلى مكان المؤتمر والإخوة الذين أتوا بالثورين المناضل (ياسين محمد بره "جنوبي") و(محمود عمر طوراي) وهم من قوة الرئاسة ومن ثم بعثت المنطقة الثانية وفداً على مستوي قيادة الشهيدين (محمود شكينى) والشهيد (حليب ستي) برسالة بطلب تأجيل المؤتمر لظروف التي نحن نمر بها. وايضاً لم يأخذ بعين الاعتبار برغم أن هناك بعض شخصيات من المناطق الثلاثة الأخرى الذين حضروا في المؤتمر كانوا مع تأجيل ولكن تم حسمهم بالتصويت وعقد المؤتمر وشكلوا قيادة "الوحدة الثلاثية" برئاسة المناضل (محمد احمد عبده). رحمة الله عليه وعليهم أجمعين.
هنا ربما البعض يقول هذه الأحداث مرت عليها عقوداً و اكل وشرب عليها الدهر ولكن الغرض لنأخذ الدروس والعبر وها نحن اليوم نعيش مرارات أخطاء الماضى ويجب علينا أن نصحح الحاضر ونصنع مستقبل أفضل.
الآن العودة إلى مسار الذي كنا فيه خرجنا من الموضوع لأجل تصحيح معلومه خاطئة ولكن لأ بأس نُدلي بما ندري كما أسلفنا، كل الجرحى ذهبوا إلى السودان والعدو أخذ جثثهم وجثث الشهداء الذين استشهدوا في داخل سور المركز وحوله ذهبوا بهم إلى (كرن).
هنا يأتي سؤال إذاً الثورة أخذت جرحاحها وذهبت بهم إلى السودان وإثيوبيا أخذت كل الجثث إلي (كرن). فماذا يكون مصير الشعب الذي تركناه في العراء دون مأوى يا ترى؟ وماذا كان رد فعل العدو الأثيوبي بعد المعركه؟
نواصل بإذن الله... في الجزء القادم