ذكريات وتجارب - الحلقة الثامنة والستون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
من الاماكن المهمة التي مررنا بها كانت منطقة انقرني المعروفة بزراعة الموز حيث استرحنا في بعض بساتينها لساعات ثم واصلنا
المسيرة الى مدينة منصورة وهي اكبر بلدة مررنا بها، كان سوقها عامرا جدا بالمواشي والبضائع والاهالي القادمين من كل الاتجاهات بعد ان اصبحت في الآونة الاخيرة معبرا للقوافل المتجهة الى السودان والقادمة منه.
وصادف ان التقينا شخصا تربطه علاقة قديمة مع بالزميل صالح وراك فاسترحنا في منزله بضعة ساعات واخبر الزميل صالح ان عائلته غادرت كرن مع عدد كبير من العوائل وانهم يتوقعون وصولها في غضون ايام، فتخلف صالح لاستقبال عائلته، وعندما ذكر ان قافلة كبيرة من اهالي مدينة عدي خوالا مرت بالمدينة منذ بضعة ايام في طريقها الى كسلا سألناه عن الاخ عثمان ادريس وعائلته فأكد انهم كانوا ضمن الفوج الذي غادر المدينة فور اقتحام الجبهة السجن بالملابس التي كانت عليهم خشية تعرضهم لقصف جوي او اجتياح ارضي. فرحت جدا لسلامة هذه العائلة الكريمة وفي نفس الوقت تحسرت على المدونات التي تركتها معها على امل استعادتها مستقبلا. وعرفت كذلك ان الدكتور شافنر رئيس الكنيسة الانجيلية (Evangelical Nile Mission) وعدد من طاقمه المدرسي توجهوا الى كسلا في سيارات خاصة.
يمكن القول ان منطقة همبول عبارة عن غابة كثيفة مغطاة بأشجار وارفة الظلال يصعب على الطائرات اكتشاف من فيها تتخللها وديان صغيرة ذات رمال نظيفة خالية من البعوض والشوائب الاخرى. عرفنا فور وصولنا اننا سنقضي في الموقع الذي خصص لنا فترة راحة ريثما يتم تحديد وجهة كل منا. كان موقعنا قريبا من مكان اقامة اللجنة التنفيذية والمجلس الثوري اللذين كانا يعقدان اجتماعاتهما تمهيدا لعقد المؤتمر التنظيمي الثاني.
وفي اليوم التالي اقامت لنا الفرقة الفنية حفل فنى افتتحه رئيس اللجنة التنفيذية الزعيم ادريس محمد ادم بكلمة ترحيبية ضافية هنأ فيها السجناء المحررين مع التأكيد على عزم الجبهة على تحرير كامل تراب الوطن. ومن ثم سدح الفنان الشعبي يماني باريا بأغنيته الوطنية المؤثرة (ودبات عدى يرأينى آلو - تتراءى لي موانئ وطني) وكاد يجهش بالبكاء ما الهب المشاعر والوجدان، كان يماني من الفنانين الذين يتفاعلون مع كلمات اغانيهم بصدق. ثم حلق بنا عثمان عبد الرحيم برائعته العاطفية (اب كتما مصوع) لتتمازج كلماتها مع لحنها الراقي فعاش كل من عرف مصوع مع ذكراه او ليلاه.
استحضرت بدوري ذلك البحر الصافي والشاطئ الدافئ الذى طالما تنافسنا فيه صيدا او سباحة قبل ان ينصب فيه الامبراطور هيلي سلاسي تمثاله البغيض ويحوله الى بؤرة صراع دولي. وتذكرت هنا رجلا يدعى قعص ناخودة من قومية عفر وصف ظلما بالجنون. كان يقف قعص عصر كل يوم امام التمثال ويخاطبه بصوت عال ”والله انت كذاب يا هيلي سلاسي.. انت كذاب.. من اين لك هذا البحر.. من اعطاك هذا البحر.. هذا البحر لنا.. لنا نحن.. الخ“ وكثيرا ما كان يتجمهر العقلاء حول التمثال ليسمعوا ما يقوله ”المجنون“ نيابة عنهم بعد التريث لبضعة ايام طلبنا تنويرنا بالتطورات والاحداث التي شهدتها الساحة بصفة عامة، ومناقشة عملية اقتحام سجن عدي خوالا والتغييرات التي طرأت عليها في اخر لحظة والادلاء بإفادتنا عما قمنا به لتوثيق الحدث. كلفت القيادة على عثمان حنطي - عضو المجلس الثوري - بالمهمة الا أنه لم يتجاوز العموميات واعتذر عن الرد على استفساراتنا.
لم نقتنع بما سمعنا، ونتيجة الحماس المبالغ فيه والتقييم الزائد للذات” كررنا الطلب فالتقطه بعض الطلبة الذين كانوا في موقع مجاور لنا وتقدموا بطلب مماثل بحجة انهم مستجدون لا يعرفون الكثير عن الثورة، كانوا يعدون بالمئات من الجنسين حتى بدا موقعهم وكأنه ساحة جامعة معظمهم جامعيون قدموا من اديس ابابا واسمرا. بعد نحو اسبوع عقد ابراهيم محمد على - عضو اللجنة التنفيذية ورئيس مكتب الشئون الاجتماعية سمنار حضره حشد كبير من جميع الفئات مقاتلين، مستجدين، طلبة وجماهير غفيرة من الضواحي. حسب رأيي الشخصي، اتسم حديث ابراهيم بالعصبية، حدة التعابير وتوجيه اتهامات وادانات واجترار مرارات اكثر من اعتماده على السرد التاريخي والتحليل السياسي الهادئ وحتى النقد الموضوعي والنظرة التفاؤلية الى المستقبلية. ومما زاد الاستياء انه رفض تقديم اسئلة بل ورفض ترجمة ما قاله الى التجرينية مع ان نصف الحضور، على اقل تقدير، لا يعرفون العربية تماما.
فوجئ الجميع بتحول السمنار الى خطاب. وفور عودة الطلبة الى موقعهم نشبت بينهم نقاشات وجدل حاد حول مواضيع لم نعرف عنها في حينه شيئا واصبحوا بين مؤيد ومعارض وحسب ما فهمناه فيما بعد انهم كانوا من ناحية متحدين طائفيا وموزعين في اتجاهات سياسية واقليمية متصارعة وكان لكل منها اسئلة منسقة ان لم تكن اجندة خاصة كان يحاول تمريرها عبر السمنار.
فعلى سبيل المثال كانوا متفقين على ضرورة انتخاب قيادة وطنية، قيادة مؤهلة، قيادة تقدمية، قيادة ديمقراطية وكل هذه المفردات بديهيا لا يختلف عليها اثنان لو لم يقصد بها الكثير منهم ”قيادة مسيحية“ حتى كان بعضهم يطالب بالوحدة بين القوى التقدمية في الجبهة والقوة التقدمية في قوات التحرير الشعبية، وبعبارة اخرى كلمة ”تقدمي“ تعني ”مسيحي“ وكل هذا كان على علاقة مع ما كان متداولا همسا وغمزا.
هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى، كانت هناك تسريبا تؤكد ان خلافات جوهرية تعصف باجتماعات اللجنة التنفيذية وقد تؤدي الى تفجر الموقف. ومن اهم النقاط الخلافية التي ظلت تتكرر:-
اولا: اصرار قيادات مسيحية على تمثيل المستجدين البالغ عددهم نحو خمسة الاف - تقريبا كلهم مسيحيون - في المؤتمر على قدم المساواة مع سائر المقاتلين، بينما ترفضه قيادات اسلامية بحجة عدم خضوعهم للتثقيف السياسي الكافي.
ثانيا :اصرار قيادات مسيحية على ضرورة تجنيد كل الشباب القادمين الى الميدان - جلهم مسيحيون - بدلا من تشجيعهم او دفعهم للعبور الى السودان، الامر الذي يرفضه الطرف المسلم بحجة عدم قدرة التنظيم الاستيعابية فضلا عن ارتباط بعضهم ب ”المضادة“ - قوات التحرير الشعبية.
ثالثا :اصرار قيادات مسيحية على محاسبة القيادة السياسية والعسكرية على قصورها قبل الدخول في المؤتمر، ما لم يقبل به الطرف المسلم بحجة ان الجميع عمل وفقا للإمكانات المتاحة.
ومما قيل بالإضافة الى ما تقدم، ان الزعيم ادريس محمد آدم يصر على عدم التنازل من منصب الرئاسة الا اذا كان لصالح ابنه. ومما عزز هذه الاشاعة بالذات وجود خيمتين في موقع مجاور لنا يقيم في احداها إبراهيم ادريس محمد ادم - ابن الزعيم ادريس محمد ادم، وفي الثانية أحمد محمد ناصر. كلاهما شابان الاول تخرج حديثا من احدى الجامعات السورية والثاني تخرج من احدى الكليات العسكرية العراقية. وحسب ما قيل، انهما مرشحان سلفا لمنصب الرئيس مع انه لم تكن لأي منهما تجربة سياسية تتناسب مع المنصب الذي يعده له اخرون.
واكثر ما كان يشغل الكثيرين سواء ما سمعته في الميدان وبعد خروجي منه، كيفية تعامل القيادات الاسلامية والاصح ابناء بني عامر مع ارتفاع نسبة المسيحيين في الجبهة كما ونوعا، فهل سيتعاملون بعقلانية وبعد نظر فيتقاسمون السلطة ام سيصرون على اولويتهم في الريادة حتى لو هدم المعبد على رؤوس الجميع. وانتشرت في هذه الآونة ما تعارف على تسميتها ”نبوءة اسياس“ قال فيها ان الجبهة في طريقها الى الاضمحلال. في نظري لم اكثر من قراءة صحيحة للعقلية التي كانت تتحكم على مصير الجبهة.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.