ذكريات وتجارب - الحلقة السابعة والستون

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

بعد الاطلاع على المشهد الخارجي، سارعت بالعودة الى البوابة الاولى وقد بدأ السجناء يتدفقون وفى مقدمتهم محمد حامد (ابو جمل) وكان عملاقا فارع الطول. لمحته مندفعا صوب البوابة الرئيسية حيث كل الابواب كانت مشرعة. حاولت توجيهه ولكن بدون جدوى، ولو لم اتفاداه في اللحظة المناسبة لحطمني امامه وفى ثواني اختفى كالطيف.

محاولة استوقاف وتوجيه سجناء على وشك عبور هذا السور اللعين وفى عز النهار حتى لو كان لتوجيههم فكرة مثالية وساذجة للغاية، وبالتالي لم يلق عدد من الفوج الاول بالا لما كان يقال لهم وطاروا الى حيث قادتهم اقدامهم ولولا تدارك الجنود الموقف بإقامة حاجز بشرى في محيط البوابة الرئيسية من الخارج والتوجيه الى الباصات والسيارات لما امكن التحكم على الموقف.

بالتوازي مع نقل الادوات والاجهزة القيمة من السجن والتأكد من خلوه من أي سجين، تم حصر عدد السجناء واعداد كشف بأسماء من تم تسليحهم وتعيين مسئول في كل باص او سيارة. وبينما نتبادل قبلات التهاني ولساننا يلهج بالدعوات الصادقة لمن تبقى من الزملاء في السجون الاخرى بالفرج العاجل والموكب، وبينما على وشـك التحرك انفعل احد الفدائيين فاخذ يطلق الرصاص ابتهاجا بالنصر وتحية للمساجين. وسرعان ما تفاعل معه بعض الجنود في السيارات والباصات الاخرى وشرعوا في النار بكثافة ما اصاب الكثيرين بالذعر ظنا أنهم يتعرضون لهجوم فقفزوا من الباصات والسيارات وتفرقوا في الشوارع والتلال المحيطة. لقد أعيدت الغالبية بعد جهد ومطاردة ولم نر للبعض الاخر بعد هذا اثرا.

كان بعض الحراس يودعون اسرهم ومعارفهم من الأهالي المحتشدين ويوصون باهلهم خيرا ثم يصعدون الى السيارات وفجأة يغير بعضهم رأيه ثم ينزل وبعضهم تخلف عن الموكب ثم لحق بسيارات خاصة وبعضهم نزل من السيارات في منتصف الطريق ما يؤكد انهم اتخذوا قرارا صعبا في ظرف اصعب لم يكونوا مهيئين له.

الشاويش ودى حنزي كان الوحيد الذى تم احتجازه من قبل السجناء. كان لئيما وبذيئا مستفزا اكتسب عداوات كثيرة، وبالرغم من هذا لم يتعرض له احد سوى بالتهديد بمحاكمة عسكرية. وهو ايضا لم يستكن ولم يستسلم فقد بادل التهديد بالتهديد ولكن من خلال ابنته التي قال انها التحقت بالجبهة قبل اسبوعين! ظل لسانه سليطا الى ان وصلنا بلدة (عبى عدى). بالكاد توقف الباص حتى سمعنا صوتا انثويا ناعـما ينادى ’يا ابى .. يا ابى .. هل رأيتم ابى، اين ابي!‘ فاذا بودى حنزى يلتقط الصوت وكأنه على موعد معه وينتفض وسط دهشة محتجزيه واقفا ويرد بصوت عال ’انا هنا يا ابنتي.. انا هنا‘. نظر الزملاء الى مصدر الصوت فاذا بفتاة حنطية اللون ممشوقة القوام تسر الناظر وتثير الخاطر في زي صاعقة على خاصرتها مسدس وخلفها جنديان يبدوان حارسين اكثر من كونهما زميلين. نزل ودى حنزى وعانق ابنته بعاطفة جمة..خده على خدها وعينه تغمز لحامد بئمنت الذى كان اشد محتجزيه غلظة! سألت حامد مازحا ’اين اسيرك يا حامد‘ فرد قائلا ’يي .. مى بيى إتا بغل أبا بعلا.. يالطيف حزي تو - لا شأن لي ببغلة لها صاحب، ان ما نشاهده يستدعى الدعاء باللطف‘ كان حامد مقاتلا تم اسره في معركة محلاب عام 1965.

صدق ضيفان عندما نصح الامام باستشارة المأمومين قبل الدعاء ولو كذبه الجميع، فقد سمعت اثناء الراحة بعض السياسيين يتذمرون من خروجهم بهذه الطريقة وانهم كانوا يتمنون لو اكملوا حكمهم وعادوا الى ذويهم ليعيشوا في تبات ونبات – اولاد وبنات! او اكملوا حكمهم ليعملوا في اعمالهم التجارية او وهاجروا الى الخارج رسميا. وفعلا كاد بعضهم ان يعتقل بعد عودته الى منزله فيما بعد. لا اورد هذه النقطة لأبرر اخفاء اتصالاتنا عن زملاء نعتز بمعرفتهم انما لأوضح ان من يحكم بالظاهر والمظاهر ويعمم بدون تدقيق ومعرفة حقيقية كثيرا ما يفاجأ بمواقف لم تخطر له في بال.

بعد قضاء بضعة ساعات في بلدة عبي عدي، تم توزيع الجميع الى مجاميع وبدأنا الرحلة مشيا على الاقدام بطرق مختلف في وقت كانت فيه الطائرات تمشط المنطقة بحثا عنا ولكنها كانت بعيدة جدا.

في اليوم الثالث او الرابع تم تخيير كافة المساجين المحررين بين الاستمرار في الجبهة او الالتحاق بقوات التحرير الشعبية فذهب من ذهب وبقى من بقى. وفي اليوم التالي عقد القائد سعيد صالح سمنارا حضره عدد كبير من المستجدين ومن ابناء ومن تبقى من السجناء، مع اننا كنا تواقين لرؤيته فقد خيب ظننا فيه بما ورد على لسانه حيث قال ’... لقد خضنا غمار الحرب الاهلية ضد ’المضادة‘ يعني قوات التحرير الشعبية - ونحن نضحك، وسنخوضها اذا اضطررنا ايضا ونحن نضحك، ونعلم جيدا أنكم ايضا كنتم تخوضون داخل السجون نفس الحرب بنفس الروح والقوة ضد نفس العناصر ونحن نقدر لكم هذا ...الخ‘. كان كلاما مفاجئا لم نتوقعه من شخص في مستواه القيادي وبهذه الفظاظة وخصوصا في ظل الاجواء المبشرة لإنجاز الوحدة. فرد عليه زميلي صالح جابر وراك قائلا ’اولا.. يؤسفنا ان نسمع انكم خضتم الحرب الاهلية وانتم تضحكون، فعلى الاقل، كان ينبغي ان تخوضوها وانتم تبكون، لأنكم في النهاية كنتم تقاتلون اخوانا لكم في الوطن مهما تباينت آراؤكم. اما بخصوص قولك انه كانت في السجن حرب اهلية بين السجناء فقد كذب من نقل اليك هذه المعلومة لأننا طوال عشرة اعوام التي قضيناها في سجون مختلفة لم نسمع على الاطلاق ولو لمرة واحدة ان مشاجرة سياسية قد حصلت‘. وانطلق صالح في رده من معلومة سمعناه في وقت سابق ان سعيد صالح عقد في اليوم التالي لخروجنا اجتماعا مع بعض الزملاء ممن خرجوا معنا وتم خلاله تصنيف انتماءات المساجين، وبالنظر الى عدم دعوتنا اليه، اعتبرنا ما حصل لا علاقة له بالسياسة.

من المفارقات العجيبة، بينما كنا نجد في السير الى منطقة همبول التي اصبحت وجهتنا حسب قرار القيادة‘ قابلنا عشرات القوافل من السيارات والجمال تتدافع الى جبهات القتال المشتعلة، ورأينا الاهالي الذين يعيشون في شظف العيش يستقبلوننا بحفاوة وكرم وكأننا اول ضيف مر به او اخر ضيف سيمر به، ويتسابقون ليبشرونا بتقدم الحوار الجاري بين التنظيمين، والانتصارات التي سمعوا عنها من اذاعات او مما تتناقله اجهزة القيادات العسكرية التي تمر بهم الى درجة تحمس البعض ممن كانوا معنا ورجعوا مع ادراجهم مع القوافل املا في دخول اسمرا مع الفاتحين الاوائل !

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click