ذكريات وتجارب - الحلقة التاسعة والستون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
مع ان الدخول الى الموقع كان محظورا الا بتعليمات، لم ينقطع تسلل بعض الكوادر والاداريين وخصوصا بعد حلول الظلام لمقابلة
عناصرهم بين الطلبة، وسرعان ما كانت تظهر اثار الاختراق في الصباح المبكر عندما تنعقد الحلقات وتتسع دائرتها بل وتعلو اصواتها، اما نحن فقد كان رجاؤنا الوحيد عقد لقاء مع جهة مسؤولة لمناقشة عملية سجن عدي خالا فجاءت الرياح من حيث لم نشته اذ وجدنا انفسنا في قفص الاتهام. عندما ذهبت لاستلام المصروف اليومي للمجموعة التي كنت مسؤولا عليها اخبرني مسؤول التموين ان اسم مجموعتي تم شطبه فعدت ادراجي لأجد الموقع خاليا الا من زملائي الاربعة وهم: ارمياس، يعقوب، قرماي وبرهاني، وحتى هؤلاء وجدتهم تحت شجرة نائية يخضعون للتحقيق بالصوت والصورة من قبل عضو المجلس الثوري عثمان ازاز.
طلب منهم عثمان اثبات صلتهم بالجبهة قبل الاعتقال ما لم يكن لديهم، فسألهم عن علاقتهم ’بالمضادة‘ - قبل الاعتقال، وحتى هذا لم يستطيعوا اثباته لانهم، بكل بساطة، كانوا يكتبون بمبادرة ذاتية منهم شعارات وطنية ويعلقونها على جدران المدارس والمحال التجارية واماكن عامة الى ان تم اعتقالهم في اسمرا وحكم عليهم.
وعندما جاء دوري، سألني عن سبب وكيفية اعتقالي والتهم التي وجهت الي، لربما كانت اسئلته مقبولة فيما لو كانت من باب التوثيق وليس بهذا الاسلوب، ولم يسألني عن علاقتي ’بالمضادة‘ قبل السجن لأنها لم تكن موجودة ولم يشأ ان يسألني عن علاقتي بـها بعد السجن لأنه وبالمنطق البسيط لو كانت لي علاقة او رغبة لذهبت اليها مع من ذهب من السجناء. وتبقى لديه كلاما كانت تنطق به عيناه بدلا من لسانه الا وهو .. بما إنك من ابناء حرقيقو لابد انك وبشكل تلقائي عضو اصيل في ’المضادة‘، وبالتالي انت خصم للجبهة ان لم تكن عدو، وعليك تحمل وزر ما قام به غيرك ! كما قال الذئب لحمل اراد الفتك به ’ان لم يكن انت من عكر الماء فانه اخ لك!‘. للأسف الى هذا الحد هبطت المقاييس الوطنية.
فبصرف النظر عن النتائج انتشار خبر التحقيق بتهمة الانتماء الى ’المضادة‘ او علاقة بها في حد ذاته كان كافيا لتتغير النظرة الينا. قضينا يومين بدون ان نعرف ماهية الجهة المسؤولة عنا وعن مصاريفنا حتى اضطررنا الى البحث عن اللقمة في موقع الطلبة، ومن حيث لم ندر وضعنا انفسنا في دائرة اتهام اضافية.
كان علي عثمان حنطي الشخص الوحيد الذي استمرت علاقته معنا وكنا نطمئن اليه، كثيرا ما كان يقضي معنا بعضا من وقت فراغه وخصوصا بالليل. كان متواضعا، اجتماعيا، عفيف اللسان، يحب التحدث عن المستقبل اكثر من اجترار مآسي الماضي ورواسبها، ومن خلاله عرفنا الكثير من شئون الجبهة وشجونها العامة في حدود ما تسمح به مسئولياته التنظيمية. ليس هذا فحسب بل واشار الينا بطريقة غير مباشرة الذهاب الى كسلا وبالأحرى مغادرة الميدان، على الاقل، لبعض الوقت. استنتجنا من كلامه ان هناك ما يعرفه بحكم موقعه وعلاقاته.
الخوف من دخول معتقلات الجبهة كان اكبر بكثير من الخوف الذي انتابني وانا ادخل غياهب سجون العدو في ارتريا واثيوبيا. لهذا، عندما جاء شخص يسأل عني في وقت متأخر من الليل فزعنا فزعا شديدا ولم نهدأ الا بعد ان افسح عن اسمه، في الحقيقة لم تكن لي معرفة سابقة ولا علاقة بالأخ ابراهيم محمود قدم - عضو المجلس الثوري - ومع هذا جاء لتهنئني بالسلامة. لقد سعدت به وبزيارته كثيرا حيث خففت عني الضغط، وصراحة ان كلمة ’قدم‘ هي التي طمأنتني اكثر اذ ربطتها بجبل قدم القريب من حرقيقو ظنا ان له علاقة بالمنطقة وبصراحة اكثر حتى لا يبقى مصيري مجهولا في ارض لا يعرفني فيها احد. وفي اليوم التالي خصني الاخ محمود بشير مسعود بزيارة مماثلة وفى توقيت مماثل وهو زميل صبا ودراسة ولربما كان الوحيد في الجبهة من ابناء البحر الاحمر بعد ان تفرقت السبل.
فبينما كنا نتوقع ان يتم توزيعنا في بعض المواقع على غرار ما تم مع بعض الزملاء، جاء التوجيه مخيبا حيث طلبوا منا مغادرة الميدان، زملائي الاربعة الى مواقع الشعبية في منطقة الساحل بدون تزويدهم بزاد او دليل يوصلهم مع ان المسافة حتى لمن يعرف مسالك الطريق تستغرق اسابيع حسب ما سمعنا. اما انا فقد سمح لي بالذهاب الى كسلا بسيارة ولكن بدون اعطاء رسالة تعريف تثبت انني مناضل او، على الاقل، كنت مناضلا. للأمانة، حتى لو اعطيت رسالة ما كنت لأترك زملائي يذهبون الى هذه التهلكة الحتمية بعد ان عايشتهم وعشت معهم سنوات نضالية طويلة توطدت خلالها علاقتنا الشخصية الى اكثر من زمالة وخصوصا انني كنت اكبرهم سنا فاعترضنا على التوجيه مهما كانت العواقب.
وبعد بضعة ايام سمحوا لنا بالسفر الى كسلا على شاحنة تقل عشرات الاشخاص. ومما يحز في النفس، صرف لي مبلغ مائة جنيه سوداني وسجل اسمي ضمن الركاب، لم يحظ زملائي لا هذا ولا ذاك ما خلق فينا شكوكا حول امكانية تعرض السيارة للتفتيش وانزال من ليس له رسالة فعشنا طول الرحلة في قلق واستنفار شديدين الى ان دخلنا كسلا بعد منتصف الليل بسلام ونزلنا في مقر المقاتلين. وحتى هنا منع الزملاء من دخول المقر لانهم لم يحملوا رسالة ولم ترد اسماؤهم في الكشف، ولم يشفع لهم انهم كان من السجناء المحررين، وبعد جهد جهيد تمكنوا من التسلل وغادرنا المكان قبل ان يستيقظ احد.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.