ذكريات وتجارب - الحلقة الاحدى والخمسون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
كان عدد نزلاء العنبر الذي اودعت فيه في سجن سمبل يربو عن المائة من مختلف القضايا من ضمنهم رأٍس الافعى قبري سلاسي
رئيس مجموعة الجواسيس التي كانت سببا في نقلنا الى سجن اديس ابابا. قبري سلاسي اثيوبي من قومية تقراي، يعتقد ان كان من فدائي حزب الاتحاد الموالي لأثيوبيا ثم عمل محاميا وحكم عليه بالسجن بجريمة قتل، كما ورد في حلقات سابقة.
كان معي في العنبر من العناصر التي كانت لي معها تجارب في مقاومة مجموعة قبري سلاسي، وان كانت بسيطة، الزميل سيوم عقبا ميكائيل الذي اعيد في نفس اليوم من سجن عدي خوالا الذي نقل اليه بوشاية من مجموعة قبري سلاسي تقريبا في نفس الفترة التي نقلنا فيها الى سجن اديس ابابا. وها نحن اصبحنا مع قبري سلاسي وجها لوجه، يعد أنفاسنا ونعد أنفاسه لا يفصل بيننا سوى مترين بعد ان كان في السجن السابق يعيش في غرفة انفرادية معزولا عن المساجين يصعب الوصول اليه.
كان هادئ الطبع لا تبدر منه اية عبارة أو حركة تلفت النظر او تشي بما يفكر فيه او يجول في خلده، اما عناصره التي الفناها فسرعان ما بدأت تؤدي عملها، تراقب وتتابع بشكل مبالغ فيه الى درجة التحرك خلفنا كالظل، فلو تأخر أحدنا في المرحاض دخل أحدها ليتأكد من كوننا نقضي حاجتنا ولسنا مشغولين بقراءة أو كتابة، علما انه لم تكن للمراحيض ابواب توسد.
رؤية قبري سلاسي صباحا مساء امامنا في حد ذاتها كانت مستفزة جدا، تناقشنا انا وسيوم حول كيفية مواجهة الاختراقات التي تقوم بها المباحث من خلال شاكلة قبري سلاسي ومجموعته، والتعرف على العناصر التي تنشط ووسائل تواصلها. وفي نفس الوقت، كيفية التأكد من هوية أي معتقل سياسي جديد وخصوصا اذا كان فردا لان من واقع تجاربنا، المباحث قلما كانت تسرب مجموعات مرتبطة بقضية واحدة، والاسلوب الامثل لتنبيه المعتقلين الجدد الى وجود مخبرين ينتحلون صفة سياسة للإيقاع بالمناضلين، إضافة الى كسب ثقة المساجين الغير سياسيين وبالذات من يعمل منهم في النظافة والمطبخ ومشغل السجاد ومن يحتكون بالإدارة والحراس لعلنا نحصل من خلالهم على معلومات لا يمكننا الوصول اليها وعلى الاقل، حتى لا يقعوا في براثن العدو فيستخدمهم ضدنا.
لم تكن هذه الافكار وليدة اللحظة، فقد كان كل منا يمارسها بطريقته الخاصة لانعدام امكانية التواصل والتنسيق فيما بيننا الا لفترة قصيرة عمل فيها الزملاء عمر ايم، عبد الرحيم بادمي، عبد الرحمن بادمي، حمد شيخ، الصافي عبد الله في مجال النظافة. على كل، في اعتقادي ان الافكار التي نوقشت وطبقت كانت موفقة جدا وبالضرورة، لا يعني هذا ان كل ما قمنا به كان صحيحا حيث كثيرا ما كنا نكتشف ان سوء ظننا في البعض وحسن ظننا في البعض الاخر كان في بعض الاحيان في غير محله، وما الحياة الا عبارة عن تجارب.
الثغرة الاولى التي يسرت واسرعت من تحركنا ان الفواصل بين العنابر كانت من الاسلاك الشائكة، فمن خلالها استطعنا رؤية من نعرفه من الزملاء في العنبر المقابل والتعرف على من كنا نسمع عنهم وعرفنا من خلالهم من من الزملاء ما زال موجودا في هذا السجن ومن منهم تم نقله الى سجن عدي خوالا.
اما الثغرة الثانية، وهي الاهم، فكانت عملية الذهاب الى العيادة في فوج يسوقه حارس واحد في رحلة تستغرق نحو ثلاث ساعات. تمكنا من خلالها عقد لقاء يومي نتناوب فيه الى ان توصلنا الى خطة عمل موحدة، وعندما ادركت الادارة ان البعض منا لا يذهب الى العيادة للعلاج انما لأغراض خاصة واجرت بعض التعديلات تقضي بفصل مرضى كل عنبر بعضهم او اخذهم وحدهم، كان الوقت قد فات ولم نعد بحاجة الى هذه اللقاءات.
ظللنا لأكثر من شهر ونحن واياهم في حالة ترقب ان لم تكن استنفار نتابع كل شاردة وواردة في ما يبدو هدوء يسبق العاصفة الى الوقت الذي خرج فيه قبري سلاسي ولم يعد. لم نشغل بالنا عندما خرج حوالي العاشرة صباحا مع المرضى المتجهين الى العيادة باعتباره امرا عاديا حيث سيكون ضمن المجموعة احد الزملاء من العنابر الاخرى، ولكن عندما عادوا ولم يكن بينهم اختلف الامر.
في البداية اعتقدنا انه ادخل المستشفى التي كانت عبارة عن استراحة بلا غذاء ولا دواء وكل نزلائها من الذين يتعللون بالمرض حتى لا يناموا على الارض الى ان وصلت اشارة من عنبر رقم واحد القريب من الادارة ان قبري سلاسي شوهد خارجا من الادارة متجها مع اشخاص باتجاه البوابة، اعتقدنا انه تم تحويله الى مستشفى خارجي وهذا ممكن لمن له وساطة، مستبعدين اطلاق سراحه لأي سبب من الاسباب لان هذا يستدعي تغيير ملابس السجن بملابسه الخاصة ما لم يحصل حسب نفس المصدر. واخيرا وردت معلومة نقلا عن احد عمال النظافة في المكاتب الادارية ان المباحث هي التي اخذت قبري سلاسي وان المدير كان منزعجا من المفاجأة وامر بتفتيشه بدقه عند خروجه. وحسب ما بدا لنا حتى عناصره في العنبر فوجئت بغيابه كما فوجئنا ما يعني حتى قبري سلاسي لم يكن على علم مسبق بما حصل والا لا خبرهم، او على الاقل لم يعلم التوقيت بالضبط.
دخل علينا حوال الخامسة من مساء نفس اليوم وكأنه تأخر في الساحة كما يفعل دائما ليس الا ولا تبدو على وجهه اية امارات توحي باي تغيير في حالته النفسية. مر يومان بدون ان يظهر أي بصيص من المعلومات سوى بعض الرضى في نظرات مجموعته. فلم يكن امامنا سوى الصبر واجترار المزيد من التوقعات والاحتمالات.
والغريبة، عندما تجمعت لدى الزملاء بعض المعلومات عن سبب الزيارة وما تمخضت عنه، اعتبرناها مجرد اشاعات يتم ترويجها بدليل عدم وجود ما يشير الى هذا او مشابها له في عنبر وهي المركز، ولربما كان هذا الاستخفاف من جانبنا نابعا من سوء تقييمنا لمصداقية قبري سلاسي لدى المباحث بالنظر الى المعلومات الخاطئة التي ظل ينقلها اليها عنا والتي ثبت بطلانها ولم تستفد منها شيئا، ولهذا لم نأخذها على محمل الجد الى ان اثبتت الايام اننا كنا على خطأ وغيرنا على صواب. فبعد شهر من الزيارة الاولى خرج قبري سلاسي الى الساحة مرتديا بدلة جديدة وخلال دقائق نودي اليه وغادر العنبر الى الادارة ومنها الى البوابة صحبة اشخاص جاءوا لاصطحابه.
خلاصة المعلومات التي تجمعت لدى الزملاء عن رحلة قبري سلاسي والتي لم نصدقها كانت تتضمن: التأكيد على انه استدعي من قبل المخابرات للاستماع الى ما لديه من معلومات، الوعد بدعمه لتوسيع نشاطه، قيامه بزيارة شهرية الى رئاسة المباحث، السماح له بارتداء ملابس الخاصة عندما يذهب الى، الوعد بحماية ومعاملة خاصة له ولمجموعته في السجن مع امكانية حصولهم على عفو عام وفقا لإنجازاتهم. وهكذا اتضحت الرؤية.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.