ذكريات وتجارب - الحلقة الخمسون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
لقد عرجت في الحلقتين السابقتين الى الخلافات الدائرة بين القيادات السياسية في الخارج ثم افرازاتها السلبية في شكل مخرجات مؤتمر
ادوبحا الذي عقد في الميدان عام 1969.
وبالعودة الى حياة السجن، والسجن احب الي، في الفترة التي توقفت فيها من عام 1968، فبعد ان ثبت للحكومة بما لا يضع مجالا للشك ان مبادرة السلام التي ظلت تناور بها قد ضرب بها وجهها بدليل تزايد المعتقلين الذين فاقوا قدرة السجن الاستيعابية، لم يكن امامها الا ان تكشر عن انيابها وتكشف ما وقر في صدرها من حقد دفين وعدوانية فقامت بالإجراءات انتقامية التالية:-
اولا: رحلت عدد كبير من المساجين المحكوم عليهم بمدد طويلة وحتى متوسطة الى سجن عدي خوالا الذي كانت تعتبره حتى هذه اللحظة اقل امنا.
ثانيا: ضاعفت وتيرة العمل لإكمال سجن كبير كانت تبنيه في منطقة سمبل في اسمرا وهو سجن سمبل الحالي. عكس سجن اسمرا المركزي الذي بناه الايطاليون، كان التركيز في تصميم السجن الجديد على تخفيض التكلفة المالية اكثر من النواحي الأمنية وهذا ما مكن جبهة التحرير الارترية عام 1975 من تحرير المساجين بتلك السرعة والسهولة. كان طول السور نحو كيلو متر مربع وعرضه نحو خمسين سنتمتر وعلوه نحو ثلاثة امتار وفوق كل ركن من اركانه مظلة صغيرة ثابتة يقف عليها الحارس. اما عدد العنابر فكانت حوالي ثمانية في صفين بعضها متقابلة مفصولة عن بعضها باسلاك شائكة وليس بجدار على غرار السجن السابق ما أتاح لنزلاء العنابر من التواصل ومشاهدة كل التحركات التي تجري في الساحة الفاصلة وفي ساحات العنابر في الجهة الأخرى والى مسافة قريبة من الإدارة والبوابة.
ثالثا:-
• باسم تطبيق القوانين والاجراءات المعمول بها في السجون الاثيوبية، تم تخفيض المصروف اليومي من 57 سنت الى 35 سنت.
• تم الغاء بدل القيود الذي كان يعطى للمحكوم عليهم بالإعدام علاوة على مصروفهم اليومي وهو عبارة عن كوبين حليب وخبزين في اليوم حيث كان وزن القيود ما بين خمسة او سبعة كيلو جرام حسب وزن الشخص.
• حددت كمية الطعام المسموح بإدخالها من قبل الأهالي بالا تزيد عن حاجة شخص واحد.
• أوقفت الجمعيات الخيرية او المحسنين من مسلمين ومسيحيين الذين كانوا يقدمون اطعمة لكل المساجين في المناسبات الدينية اذكر منهم، على سبيل المثال، الحاج محمود محمد نور عبده حروي - مدير مدرسة الضياء الإسلامية وشقيق المناضلين موسى وطه محمد نور باعتباره كان الأول والأكثر التزاما وتنوعا في فيما كان يقوم به. كانت بدايته عام 1963 حينما زار شقيقه المناضل موسى الذي اعتقل مع المناضل سيد احمد محمد هاشم بتهمة إيواء ومساعدة الفدائيين الشهيد سعيد حسن، الشهيد محمد هارون والمناضل محمد نور خليفة قبل تفجيرهم طائرتين حربيتين في مطار اسمر. خرج موسى بعد قضاء اكثر من سنة ونصف، اما محمود فقد استمر في مساعدة السياسيين بطرق ووسائل مختلفة منها نقل اخبارهم او رسائلهم الى ذويهم، توفير احتياجاتهم الأساسية. بما ان والدته الخالة فاطمة زهرة يوسف صالح حالي ابنة عمة الخال يحي حمد حالي الذي كان يملك محل صياغة امام السجن وذي معرفة وعلاقة وثيقة مع الحراس والضباط، كان محمود يسلم كل ما استطاع الى الخال يحي وهو بطريقته الخاصة يرسلها او يهربها الى المساجين.
لم يكن المساجين وحدهم من تأُثر بالمجاعة وأصيب بالضعف والهزال، فالفئران التي كانت تأتيها معيشتها رغدا في المجاري والبالوعات عانت بنفس القدر حتى لجأت الى العنف حيث باغتت ذات ليلة المساجين ليلا وهم نيام في امان الله وفي توقيت واحد وأدخلت العنابر في هرج ومرج. استمرت المعركة ’بالأسلحة الخفيفة ‘فقط،الشباشب والصحون والكبايات لان ’الرشاشات‘ المكانس كانت تحفظ ليلا خارج العنبر. لأول مرة اكتشفنا أن الفئران تتمتع بمثل هذه الوح القتالية اذ كانت تتشبث بكل ما تعضه سواء كانت رجل شخص أو لباسه حتى لو كان داخل بطانيته الامر الذي اضطرت العنابر الى إقامة حراسات أمام باب المراحيض، وعلى كل حال، استمرت المناوشات لبعض الوقت حتى توقفت، ولم نعرف اذا كان سبب اختفائها هلاكها جوعا ام انها عبرت مع شعبها الحدود وحل بها المقام في معسكرات اللاجئين في سمسم وام قرقور وغيرهما.
رابعا:-
• تم الغاء نظام تحويل المرضى الى المستشفيات الخارجية ما حول مستشفى السجن الى مجرد عيادة للإسعافات الأولية تحت اشراف ممرض بلا مساعد ولا مناوب.
• تم الغاء قسم الأمراض النفسية والعقلية والاوبئة المعدية ووزع نزلاؤه في العنابر ما ادى الى تفشي امراض كثيرة منها مرض الكوليرا التي تسببت في وفاة الكثيرين منهم، على سبيل المثال، الزميل عبد الرزاق شوم حمد اري.
• تم تخفيض الملابس من ثلاثة غيارات من النوعية الرديئة من القطن - الدمورية (قميص بكم قصير وسروال قصير حتى الركبة) الى غيار واحد كل ستة اشهر.
• تم ايقاف صرف الصابون والمنظفات والمعقمات للعنبر بما في ذلك للمراحيض، بعد ان كان يحصل كل سجين على نصف صابونة كل اسبوعين لغسل الملابس والاستحمام.
• تم ايقاف صرف بطانيات حتى لو كانت بالية.
• منع الاستحمام الا مرة واحدة في الأسبوع ولبضعة دقائق وبإذن من المشرف، حتى انتشرت البراغيث والقمل وحتى الصراصير أصبحت تسرح وتمرح في قوافل وفي عز النهار بلا خوف او وجل. وعندما ساءت الحالة الصحية والنفسية جراء الوساخة والاوساخ، قام المساجين بإضراب طالبوا فيه حضور مسئولين من الرئاسة العامة للسجون. ابدى نائب المدير العام تعاطفه معنا وقال انه لا يملك الا رفع الشكوى الى اديس ابابا وامر بشراء بعض المبيدات والمنظفات ولمرة واحدة. وما ان غادر الساحة حتى دخل علينا طابور من الحراس المزودين بالعصى المطاطية وجردوا المساجين تماما من ملابسهم بذريعة تعقيمهم قبل تعقيم ملابسهم وغرفهم، وكان هذا عقابا حتى لا نخطئ مرة أخرى.
خامسا: تم تطبيق سياسية اخذ الكل بجريرة فرد حتى لو كانت المخالفة تافهة او من ارتكبها كان مجنونا. ومن ضمن هذه الإجراءات العقابية القاسية، زج المعاقب في غرف مظلمة، تقييد يديه ورجليه، الضرب المبرح بقصد الحاق عاهات مستديمة، الحرمان من الاكل الا نصف (كسرة) وكوب ماء في كل وجبة ولمدة غير محددة. اذكر من بين ضحايا هذه الممارسة، على سبيل المثال، المناضل الشيخ بيرق نوراى اول اسير من الجبهة والمناضل لوقاص كحساى.
سادسا:-
• استبدلت المحاكم المدنية بمحاكم عسكرية، وحرم المعتقلون من حق تعيين محامين حتى لو كان على حسابهم، واصبح تدخل الامن في سير المحاكمات والشهود مباشر بعد ان كان من خلف الكواليس.
• انشئت محاكم عسكرية مستعجلة، لا تزيد جلساتها عن جلسة او جلستين فقط وتنتهى بصدور احكام جائرة جدا.
• بدأ تنفيذ الاعدام فور صدور الحكم في المكان الذي وقعت فيه ’الجريمة‘ او اقرب مكان اليه مع حشد الجماهير قسرا حتى يعتبر كل من تسول له نفسه بالانخراط في السياسة.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.