إرهاصات مذبحة عونا
بقلم الأستاذ: أحمد أسناي - كاتب ارتري
يصادف يوم الفاتح من ديسمبر يوم مذبحة عونا ففي صبيحة يوم 1 ديسمبر من العام 1970م
وقعت تلك المذبحة التي لا تخفى على أحد هي وما سبقتها وما لحقتها من مذابح تعرض لها شعبنا الأبي في شتى بقاع إرتريا من حرب إبادة جماعية لا هوادة فيها ولا رحمة نفذها المستعمر الذي كان يهدف كما قال ذلك صراحة الإمبراطور هيلي سلاسي (أنا بحاجة إلى الأرض الارترية وليس إلى شعبها) واتبع سياسة الأرض المحروقة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى وأعمل آلته التدميرية في الحرث والنسل قتلا وحرقاً ونهباً وتشريداً ومن تلك المذابح التي تردد صداها على مستوى إرتريا مذبحة عونا وبسقديرا وغيرها الكثير كلى سبيل المثال لا الحصر (عد أبرهيم، عد أكد، عد نصور، أم بيرمي، حرقيقو، شعب، قد قد ومسيام ومذابح في شتى أنحاء أكلي قوزاي وحلحل ورورا بيت قبرو وقلب، [1] ...الخ والقائمة تطول) وقد كتب الكثير عن مذبحة عونا وبالتفصيل ولكن ولكي لا ننسى وحتى تعلم الأجيال التي ولدت بعد هذه المذابح والتي نشأ أكثرها خارج أرض الوطن وفي خضم هذا التضليل الهائل والإصرار على طمس معالم التاريخ وخاصة التاريخ ما قبل العام 1978م فلا بد من تسليط الضوء على هذه المذابح وهذه الجراح التي مازال ضحاياها يعانون التهميش والإقصاء والنظرة الدونية بل أصبحوا مهددين في وجودهم ومواطنتهم بشتى الطرق التي كانت بشكل خفي فأصبحت الآن بشكل مكشوف وخاصة بعد الشروع في عملية توزيع المستوطنات في مناطق بركا لعلاي وقد تناول الأخ جابر سعيد هذا الموضوع ومر مرور الكرام، أعود إلى عنوان هذه المقالة التي اخترت لها هذا العنوان (إرهاصات مذبحة عونا) فقد يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم تساؤلاً عن ما هو المقصود بهذه الإرهاصات، والإرهاصات كما هو معروف للجميع هي العلامات التي تسبق الحدث فهل كانت قبل تلك المذبحة مذابح (إرهاصات) كانت توحي بوقوعها ولأنني من تلك المنطقة وممن عايشوها رغم صغر السن بل وممن ذهب أقاربهم ضمن ضحاياها فليسمح لي القارئ الكريم أن أتناول ولو جزءاً بسيطاً من مشاهداتي لتلك الأيام.
بداية الأمر كان من مقر القيادة العسكرية الإثيوبية التي تشرف على قوات الاستعمار في إرتريا، فحين اشتدت ضربات الثوار على قوات العدو المدعومة من القوات الارترية العميلة والتي كانت تُعرف (محلياً) بالكمندوس والمدربة تدريباً اسرائلياً للقيام بالعمليات الخاصة في سبيل وائد الثورة جن جنون العدو فأصبح يقتل ويحرق ويدمر ويسجن وكل ما يخطر في البال من أسلوب القمع ضد كل من يشك في ولائه للثورة ولكن لم يثني كل ذلك من عزم الشعب الارتري وثورته الباسلة فتتابعت الضربات الموجعة في صفوف الجيش الإثيوبي ذلك الجيش الذي بسبب شهرته كان قد اشترك في حربي الكوريتين وحرب الكونغو بين الخصمين اللدودين باتريس لوممبا وتشومبي إبان أزمة كاتنقا المفتعلة والتي راح ضحيتها الأمين العام للأمم المتحدة المستر داغ همر شولد، حين تعرض هذا الجيش للهزائم النكراء وفشل في تقصير عمر الثورة رغم تفوقه في العدد والعتاد حضر على العاصمة الارترية البريقادير جنرال تشومي عرقتو (Brigadier General Teshome Ergetu) قائد الفرقة الثانية الإثيوبية والعاملة في إرتريا واجتمع بقادة الأفرع ثم توجه إلى كرن ليكمل ما بدأه من مخطط للقضاء على الثوار ولكنه لم يكن يدري بأنه على موعد مع القدر حيث كان الثوار قد علموا بمقدمه وأهدافه التي أتى من أجلها فأسكتوه إلى الأبد في كمين محكم نصب له بالقرب من بلدة مقرططت ونظراً لصغر البلدة وعدم شهرتها فقد قيل بأنه قتل في هبرنقاكا (هبرم قاخا) والذي يعرف المنطقة يفهم كلامي لأن هبرنقاكا (هبرم قاخا) كان فيها مركزاً للتفتيش بإدارة ثلة من قوات الكمندوس تم انتقائهم بشكل غريب لأن 99% منهم كانوا من أسواء ما أنجبتهم قوات الكمندوس (رغم أن الكمندوس لم يكن فيهم خيراً يذكر إلا ما ندر وذلك بعد أن تأكد لهم قرب انهيار العدو وبذوق بوادر الحرية) حيث كانوا لا يتورعون عن فعل أي شيء في سبيل إذلال الأحرار، فمات تشومي عرقتو ولكن لم تمت فكرته في قتل الحرث والنسل فهل يسكت الاستعمار أمام هذا المصاب الكبير وهذه الغنيمة الكبيرة التي نالها الثوار؟
كلا بل بدأ القتل بتلك القرية الواضعة (مقرططت) كان ذلك في يوم 9 ذي الحجة أي في يوم الوقفة وكنا أنا وشقيقي الأكبر قد ذهبنا من كرن إلى (عيلا برعد) لقضاء عطلة عيد الأضحى المبارك حيث كان الوالد يعمل هناك لدى شركة السنيور (دناداي) وكان الجو كئيب حيث كانت الحرائق تحيط بنا من كل جانب حريق هنا وحريق هناك وقتل هنا وقتل هناك ورغم كل ذلك فقد ذهبنا إلى المسجد برفقة الوالد رحمة الله عليه لأداء صلاة العشاء ثم البقاء لليلة العيد ومرت الدقائق حيث أدى الناس صلاة العشاء وبدءوا في المولد أو الحضرة، وفجأة يأتي إلينا أحد كبار السن ويطلب من المنشدين التوقف قليلاً لأنه يسمع أصوات إطلاق نار وبالفعل توقف الناس عن النشيد (المديح) فكانت أصوات المدفع الرشاش الشهير بـ المشينقان تسمع بوضوح فقام رجلان من كبار السن بالذهاب إلى نقطة البوليس للاستفسار عن مصدر هذه الأصوات فقيل لهم بأنه في ناحية (بالوا ) وقالوا لهم يمكنكم العودة إلى المسجد وطمأنت الناس والاستمرار في إحياء ليلة العيد فعاد الرجلان ونقلا لنا الخبر، فقام أحد سكان تلك المنطقة وأبدى عزمه على ألذهاب مهما كانت العواقب ولم يتمكنوا من صده فذهب وبات الناس في حالة ترقب وقلق وهم موقنون بأن هناك أمر ما قد حدث ولكن من يأتي بالخبر؟ فجاء في يوم العيد وبعد صلاة العصر ذلك الأخ الذي ذهب بالأمس وتحلق الناس حوله في فناء المسجد فطلبوا منه أن يروي ما الخبر ولكنه كان رابط الجأش فطلب من الناس إذا أرادوا أن يعرفوا ما جرى فعليهم أن يتعهدوا بعدم البكاء أو الصراخ فبدأ يحكي قائلاً: (إبلا إيديه سلس حوّيه قابر هليكو) - وتعني لقد دفنتُ ثلاثة من أشقائي بيدي هاتين، فبدأ الناس البكاء فتوقف عن الكلام وقال إذا كنتم ستبكون فسأتوقف والوضع الأمني خطير فقد يأتي من يسوقه إلى حتفه بسبب هذه المعلومات، ثم بدا يسرد أسماء وعدد القتلى (شيخ إبراهيم مع أولاده الخمس فلان بن فلان وولديه فلان بن فلان وأشقائه الأربع...) وختم كلامه بالقول: (لقد ساهمت مع بعض الإخوة ممن كانوا خارج القرية في دفن 69 (تسعة وستين جثة) قتل معظمهم في المسجد وهم مجتمعون للعبادة وإحياء ليلة الوقفة ومن لم يجدوه في المسجد ذهبوا إليه في مسكنه. هكذا مرت الليلة الأولى من عيد الأضحى في ذلك العام حزينة وبعد أن قضينا اليوم الثاني من العيد مع الأهل حزمنا أنا وشقيقي أمتعتنا وتوجهنا إلى كرن لأن المدارس ستفتح أبوابها في رابع أيام العيد ولابد من معايدة الجدات والأهل والجيران في كرن في اليوم الثالث، ونحن في طريق العودة قيل لنا بأن هناك مذبحة حدثت في بلدة بسقديرا حيث تم تجميع الناس داخل مسجد البلدة بحجة أن الطيران سيقصف المنطقة وسوف يستثني المسجد ولكن بعد قليل فتحوا نيران الرشاشات فيهم فحصدوهم عن بكرة أبيهم إلا رجل واحد هو الذي أبلغ القرى المجاورة بخبر وقوع تلك المذبحة.
وفي مساء اليوم الثاني (ليلة الثالث) من عيد الأضحى سمع سكان مدينتي الصامدة كرن أصوات تبادل إطلاق رصاص، فاعتبروه كما هي عادة الثوار بأنه نوع من عملية إقلاق العدو حتى لا يطمئن ومضى الليل ولم يكن يخطر على بال أحد أو يدر بأن العدو سيقوم بمذبحة بهذه الوقاحة وفي وضح النهار وفي عونا التي طلب العدو من سكان القرى المجاورة التجمع فيها بهدف السيطرة والتحكم في تحركات الثوار الذين كانوا يعتمدون بعد الله على الشعب، استيقظنا مبكراً وبعد أن تناولنا الإفطار مع جدتنا الكبيرة (أم أبونا وسعمنا بسوتها كما قال الأخ العزيز دكتور جلال في رائعته العيد في مدينة كرن) توجهنا تاركين عد حباب إلى حشلا حيث الجدة (أم أمنا) وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث إذا بأصوات رصاص كثيفة تنطلق، فظن الناس بأنها عملية فدائية ولكن استمرار إطلاق النار لا يوحي بذلك فالعمليات الفدائية لا تستغرق إفراغ عدة رصاصات ثم سرعان ما تتوقف، فما هذا إذاً، وبدأ الناس ينسجون قصص خيالية فمنهم من يقول بأن الثوار استولوا على جزء من سوق المدينة ومنهم من يقول غير ذلك، وما هي إلا لحظات حتى كانت أعمدة الدخان الكثيفة تغطي سماء المدينة وترتفع إلى الأعلى والناس من حارتنا (عد حباب وحلت وربا وكرن جديد والختمية) يتجهون صوب (حلة سودان) قاصدين حوش آل الميرغني طلباً للنجاة والبعض في ذهول حيث لم يصدق بأن ما يدور هو في عونا التي لا يفصلها عن وسط المدينة إلا تل صغير، وعدنا أنا وشقيقي أدراجنا إلى عد حباب وهناك وجدنا الخبر المحزن عن المذبحة وأبلغتنا جدتنا رحمها الله بوجود شقيقتها التي ذهبت لزيارة ابنتها في عونا وبالفعل قتلت هناك ولم نتمكن في التعرف عليها بسبب الاحتراق إلا بسنة نيكل في فمها فاضطررنا لفك فمها للتعرف عليها بينما ابنتها أحياها الله اسأل الله لها ولكل الأمهات اللواتي حملنا هم هذا الشعب دوام الصحة والعافية هذه باختصار بعض المشاهدات واخلص إلى القول بأن العدو كان قد بيّت نية سيئة للقضاء على تلك القرية، أما الإرهاصات التي ورد ذكرها هي:-
• مقتل البريقادير جنرال تشومي عرقتو
• مذبحة مقرططت [2]
• مذبحة بسقديرا
• تجميع الناس في قرية عونا
وبهذه المناسبة أسأل الله أن يتقبل شهداء عونا وكل من سبقوهم والحقوا بهم في الجنة وأن يعيد الحقوق إلى مستحقيها وأن يجنب من بقي من شبابنا ويلات الحروب، وأتوجه إلى قوى التحالف الوطني الارتري بهذه البرقيات العاجلة:-
1. إن ما يقوم به النظام الآن من نزع الأراضي يجب أن تعيروه الاهتمام، لأن الإنسان إذا فقد المصداقية فيمن يمثله وأحس بأنه لا يتفاعل مع آلامه فقد ينتكس ويكون من الصعب رجوعه، وقد يتسبب ذلك في الذوبان البطيء لأن العضو ليس مملوكاً لتنظيم أو حزب بعينه فمتى ما وجد مصلحته اتجه نحوها.
2. في الوقت الذي يهدد فيه الجانب الإثيوبي بل يؤكد فيه رفضه لترسيم الحدود يقوم النظام بتوزيع الأراضي فهلا أتخذ التحالف خطوات سياسية في سبيل إيقاف هذه العملية حتى لا يتعرض الوطن لفتنة قد تقع بين مالكي الأراضي الأصليين ومالكيها بالشراء ؟
3. إلى متى نجامل بعضنا البعض وعلى حساب الجماهير المطحونة في الداخل والخارج ؟ ولماذا لا ينزل التحالف إلى الشعب ويعقد جلسات وندوات لمناقشة المعوقات التي تحول دون تقدمه فإن كانت داخلية أي من داخل التحالف فما الفائدة من التمسك بالمصلحة الخاصة وادعاء الاهتمام بالقضايا العامة ؟
ختاماً هذه المعلومات لكي لا ننسى وليست كاملة فما كان من نقص أو سهو فمن نفسي ومن الشيطان وأرجو ممن يجد أخطأ أن لا يتردد في تصويبي فالكمال لله وحده.
والله من وراء القصد.