ايام في التاريخ الارتري مزبحة عونا
بقلم الأستاذ: ود عد - كاتب وناشط سياسي ارتري
يصادف في الفاتح من ديسمبر ذكري مذبحة قرية (عـونا) التي أقترفها الإستعمار الإثيوبي
ضد مواطنين أرتريين عزّل في عام 1970 وهي احدي المجازر المروعة التي أرهقت فيها مئات الأرواح بين شيخ وإمرأة وطفل لتضاف بذلك الي عشرات المذابح التي أرتكبها الاستعمار البغيض، وكان يهدف من ورائها الي نشر الفزع والرعب وإبادة الشعب الاريتري بقصد إيقاف مد الثورة وتجفيف منابعها الرئيسية، ولم يدر في خلد المستعمربأن دماء الشهداء في هذه المذابح كانت دافعة لمزيد من الأضاحي في طريق الحرية وإسترداد الحقوق. وأنها عملت في شحذ الهمم لمواصلة العهد والتمسك بالعزة والكرامـة ـ نحن اليوم إذ نتذكر شهدائنا في تلك المذابح ونتذكر جميع الأهالي والزوجات الذين فقدوا عائلهم والأطفال الذين ذاقوا اليتم مبكراً، نسأل لهم الرحمة والمغفرة، ويسرنا أن نقدم فيما يلي ـ ونظراً لما جاء فيه من معلومات هامة بمذبحة (عونا) ـ تقريراً أذيع في (صوت أرتريا الديمقراطية) صوت جبهة التحرير الأريترية ـ المجلس الثوري وذلك بمناسبة ذكري المذبحة في عام 2001م.
مذبحة عونا!!
كانت مذبحة عونا انتقاماً لمقتل الجنرال تشومي أرقتو قائد القوات الإثيوبية في أرتريا في كمين نصبه له جيش التحرير الأرتري البطل في 1970/11/21 في الطريق بين أسمرا وكرن علي بعد 30 كيلومتر من كرن. وكان الجنرال قد توعد واقسم حين دخوله الي ارتريا بأنه سوف يقضي ويمحو الثورة والثوار الأرتريين. وكما أن ملك إثيوبيا كان قد علق كل آماله علي هذا الجنرال بعد فشل كل من سبقوه في المهمة. إلا أن المسئول الجديد الذي أوكلت اليه قيادة القوة العسكرية الثانية، لم يمض وقت طويل منذ تحمل مسئوليته حتي قضي عليه الثوار الذين كان ينوي القضاء عليهم. وهنا خُدش كبرياء الملك هيلي سلاسي، حين تناقلت وكالات الأنباء العالمية نبأ مقتل الجنرال علي أيدي الثوار الأرتريين الذين كانت تقسم إثيوبيا باليمين علي عدم وجودهم حتي ذلك الحين، ليتأكد الشعب الإثيوبي والعالم بأن هناك فعلاً ثوار في أرتريا.
وبموت أحد أكبر الجنرالات دون أن يخطو خطوة واحدة نحو تحقيق هدفه، تكون قد تبددت أحلام ملك إثيوبيا. ومن هنا كان لابد علي الامبراطور هيلي سلاسي ومسئولي جيشه الثأر والانتقام. ولكن كيف سيتم ذلك... حيث لا أثر للثوار...؟ إذن يجب أن يدفع الثمن هذا الشعب الذي يتحركون وسطه كما يتحرك السمك في الماء. وحتي يعرف هذا الشعب والعالم أجمع مدي مقدرة جيش الامبراطور وقسوته علي الانتقام.. بدأوا عملياتهم البشعة.
ويقع الخيار الأول علي (عـونا):
أولا: لقربها من مدينة كرن، التي تعتبر الداعم الأساسي للثوار منذ بداية الكفاح المسلح، كما أن الجنرال قتل في منطقة قريبة من كرن.
ثانياً: لكون (عونا) أكبر بلدة آهلة بالسكان بعد مدينة كرن إثر تنفيذ قرار السلطات الإثيوبية بتجميع سكان القري المحيطة بكرن فيها. وجمع المواطنين في المناطق التي تقع بالقرب من الطرق الرئيسية التي تعسكر فيها قوات العدو، كان واحداً من المخططات الإستراتيجية للعدو الإثيوبي لمحاربة الثورة. والهدف هو عزل الثورة من الدعم الشعبي ولتسهل عليهم مراقبة العناصر النشطة عن كثب. ويذكر بأن قوات المستعمر كانت تبيت نية تنفيذ القتل الجماعي علي سكان مدينة كرن أثناء قيامهم لصلاة العيد في المسجد. ولكن وبذريعة إطفاء النيران التي كانت تشتعل بالصدفة في أحد المنازل بحي (حلة سودان) أمر الإمام القاضي/ محمد إدريس المصلين أن يخفوا الي هناك دون إتمام ما أجتمعوا لأجله. ولما فشلت خطتهم في كرن تحركوا في الغد الي منطقة (بسكاديرا) التي تبعد حوالي 25 كيلومتر منها، لتنفيذ خطتهم. ففي صبيحة الإثنين الموافق 1970/11/30 دخلت قوات من الجيش الإثيوبي الي تلك القرية. وأمر قائد تلك القوات سكان القرية بأن يدخلوا الي المسجد لينقذوا أنفسهم، بإدعاء أن الطائرات ستقوم بالتحليق في أجواء القرية. ولما أكتظ المسجد بسكان القرية، أمطروهم برشاشات البرينات عبر النوافذ والأبواب حيث تجندلت جثث المواطنين الأبرياء فوق بعضها البعض... وسالت دماءهم أنهاراً حمرا... وتلطخت جدران المسجد بالدماء. وكان عدد ضحايا هذه المذبحة يزيد علي 150 مواطناً. إلا أن هذا العدد كان لايطفئ ظمأ أولئك المتعطشين للدماء. وما مذبحة (بسكاديرا) إلا مجرد تمرين بسيط بالنسبة لما سيلحق بأهل قرية (عـونا) في صبيحة الغد.
في الأول من ديسمبر 1970م، أحاطت قوات العدو بـ (عـونا) من كل جانب. وفي الساعة التاسعة صباحاً دخلت القرية. وعلي الفور أطلقت نيران رشاشاتها الخفيفة والثقيلة التي كانت علي متن العربات علي كل من بالقرية بشراً كان أو حيواناً.. حطم جنود العدو الأبواب بأعقاب البرينات.. وبقروا بطون النساء والأطفال الذين يختبئون خلف جدران منازلهم بالسونكي دون تمييز. وأختتموا مذبحتهم بإشعال النيران في كل منازل القرية حيث غطي اللهيب والدخان عنان السماء. وأُحرقت منازل القرية عن بكرة أبيها ولم يبق فيها منزل واحد.
في هذه المذبحة البشعة أستشهد مايربو علي ألف مواطن. ولم يستطع النظام الإثيوبي أن يخفي عن أعين العالم هذه العملية البربرية. وكتبت صحف العالم كثيراً عن مذبحة (عـونا)، وأدانها كل من له ضمير.
ولبشاعتها دونت في سجلات تأريخ المذابح الإستعمارية. وفي الزيارة التي قام بها الامبراطور الإثيوبي الي الفاتيكان في اعقاب تلك المذبحة، أعرب بابا الفاتيكان بولس السادس خلال لقائهما عن حزنه العميق مما حدث وأدان تلك العملية البربرية. كما صبت كل قطاعات شعبنا ـ بصرف النظر عن اختلاف آرائها وأماكن تواجدها ـ عندما علمت بنبأ المذبحة، جام غضبها علي المستعمر الإثيوبي. حتي أن بعض الطلاب الذين كانوا يدرسون في جامعة أديس أبابا قاموا بحلق رؤوسهم حزناً علي شهداء (عـونا). كما قام أعضاء جبهة التحرير الارترية في السويد بإقتحام سفارة العدو اٌثيوبي وإحراق محتوياتها.
لهذا كانت مذبحة (عـونا) واحدة من أبشع المذابح التأريخية التي يرتكبها المستعمرون، ليس علي مستوي إفريقيا وحدها بل علي مستوي العالم. وكانت (عـونا) هي التي كشفت القناع عن بربرية المستعمر الإثيوبي، وفتحت أعين العالم أمام جرائم اثيوبيا التي أرتكبتها في إرتريا، وعونا كانت المذبحة التي شهدت أكبر عدد من الشهداء وفي أقل زمن، مقارنة للمذابح الجماعية التي نفذها العدو الإثيوبي في ارتريا. وعونا التي تجمع فيها المواطنون من عنسبا، جنقرين، بيت جوك، عد تكليس، عد تماريام، سكونيتي... وغيرها من القري كانت نموذجاً للمصير المشترك لأبناء الشعب الأرتري. لقد وحدت مذبحة (عـونا) شعور الشعب الإرتري تجاه العدو الذي أرتكب تلك الجريمة البشعة دون أن يرف له جفن.