مرثية الباشا صالح احمد كيكيا
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
كنا مجموعة من الاتراب نلهو ونعلب خلف المدرسة عندما سمعنا حوالي الساعة الرابعة والنصف
مساء ’ملكتيت‘ - قرع طبل خاص بإعلان وفاة - وكان قريبا جدا، في العادة تقرع في اقرب مسجد من مكان الوفاة حتى يمكن للاستدلال بها. ويمكن من خلال سرعة ايقاعها معرفة اذا كانت الوفاة محلية ام خبر، واذا كان الدفن وشيكا ام لا، وحتى معرفة مكانة المتوفي الاجتماعية ولكن باستعمال طبل معين.
دخلنا المدرسة من باب سكن المدرسين، فاذا بنا نجد في المزيرة - غرفة خاصة بأزيار ماء خاص بالمدرسة - رجلا واضعا جبهته على ذراعيه مستندا على الجدار، تارة يصرخ واخرى ينوح بمرارة شديدة، كانت هذه اول مرة اشاهد فيها مثل هذا الموقف حيث عهدنا ان البكاء للنساء فقط، وقفنا للحظة ثم اتجهنا الى مصدر الصوت.
لم يكن في الدار احد سوى رجل يقرع طبل امام المعهد الديني، هو ايضا كان يبكي وعيناه مغمضتين ويهمهم وكأنه يقول شيئا في نفسه ورأسه يجاري حركة يديه، ودموعه تنهمر وتختلط بمخاطه وتتسلل مع لعابه من خلال لحيته الكثة حتى بللت ثوبه.
لم يكن الرجل سوى جارنا الطيب العم احمد ابوبكر الذي عرفناه منذ الطفولة يضحك مع الاطفال ويضاحكهم حتى في الطريق. ايضا كانت هذه اول مرة اشاهد فيها العم احمد ابوبكر يضرب ملكتيت اذ كان وشقيقه الاكبر العم ابرهم متخصصين في ضرب دف (كتن كتن تن) في مناسبة ختان او زواج، وإبلاغ الاهالي اوامر الحكومة او تعليمات النائب من الطواف بين الاحياء مناديا مع قرع طبل ’سُماعْ.. سُماعْ.. لَسَمْعَ لِسْمَعْ‘ اما ’ملكتيت‘ في الغالب كانت من شأن الشقيقين العم محمد واحمد جابرة فضلا عن قيامهما بقرع الطبل ’مولود‘ في ليلة الدخلة وهو عبارة عن مديح مع رقص جماعي في حلقة متحركة عكس ’حضرة‘.
لم يشعر بوجودنا ولم نجرأ على سؤاله الا بعد مدة، وعندما حاول الاجابة وبدون ان يفتح عينيه جاء الاسم متقطعا ’كك... ككك.. ككككك.‘ هز رأسه بعنف يمينا وشمالا ثم انتقم من الطبل شر انتقام.
عرفنا ان الباشا قد توفى وبالطبع كلنا يعرفه حيث رأيته مرارا وحضرت له موقفين يذكران في موضوعهما ومع هذا هزتني حالة العم احمد ابوبكر اكثر من خبر الوفاة لان الموت بالنسبة لنا لا يختلف عن زواج وكلاهما مناسبة اجتماعية يجتمع فيها الكبار ويلهو فيها الصغار.
رجعنا الى صاحبنا في المزيرة لنجده اسوأ حالا مما كان عليها، رجلاه ترتعشان وقد بح صوته وصدره يئز ومع هذا يتنقل بين صراخ ونحيب وكلما تعب يضرب بكفه على الجدار. فلولا معرفتنا ابني الباشا لقلنا انه احدهما. ادركنا هذه المرة ان ما يقوله كلاما منظما منسقا مؤثرا جدا وكأنه يصف لوحة او حالة يراها امامه حتى جاشت نفسي وان لم استوعب كله.
واخيرا لمحنا رئيس الفراشين وخدمات المدرسة العم سليمان محمد (او احمد) متجها الى المعهد الديني. جاء معنا واستطاع بعد جهد جهيد تحريكه وضمه الى صدره وهو لا يرى ولا يسمع مغطيا وجهه بذراعيه واخذه الى احدى البيوت. عرفنا انه الاخ يحي ادريس نائب. سوف اتناوله في موضوع اخر.
انصرف كل منا في اتجاه مثقلا بحزن لربما لم يعهده من قبل. على ما يبدو كان مرض الباشا معروفا لدى الجميع، فما خرجت من باب سكن المدرسين الشمالي وابتداء من منزل العم ادريس على طيواي والى ان وصلت منزلي واصوات البكاء المكتوم يسايرني ’بيزاكا لديني ود اميي .. بيزاكا لديني بيزاكا لديني‘ - جعلني الله فداك يا ابن امي. كل امرأة تبكي في بيتها بكاء المفجوع الموجوع اقرب الى ازيز لا بكاء العلاقات العامة المعتاد الذي سرعان ما يخبو ويتحول الى عكسه، فاليوم العزاء واحد فلا قريب او غريب. وكنت اتساءل وانا اسير هل كل هؤلاء النسوة اقارب الباشا!
لم يختلف الحديث هذا اليوم لا في المنزل ولا بين المارة امام المنزل ولا اولئك الاباء الذين بقوا في مسجد حجي احمد بين صلاة المغرب والعشاء. كله يدور حول ’وفاة الباشا‘ وبأصوات خافتة وبنبرة مأزوم او مهزوم يستشفى منها ان ما حصل اكبر بكثير مما اعتقدت. ذهبت في عصرية اليوم التالي الى دار الباشا على امل لقاء بعض الزملاء - علما ان دار الباشا والمدرسة ومدرسة البنات والمدرسة الصناعية مقامة في سور واحد عدا جدار فاصل تتوسطه بوابة كبيرة يفصل المدرسة الصناعية.
كان الدار عبارة عن خلية نحل مزدحما جدا بالأهالي كبارا وصغار. عدد كبير من المواشى امام سكن معظمها بقر وابل بعضها تم ذبحها وفرش لحمها على حصائر وبرش امام الفصول لتناول المساكين كل حسب قدرته، وبعضها ينتظر دوره، وكانت هذه المرة الاولى التي اشاهد فيها طريقة ذبح الابل، وكان الجزارون من غير اهل البلدة. البعض يحفر الارض في الساحة الممتدة بين الفصول ومكتب الباشا من الناحية الشمالية و خلف المكتب لنصب سرادق لاستقبال الضيوف بل ولمبيتهم، ومجموعة مماثلة تقوم بنفس العمل خارج السور في الساحة الفاصلة بين عد سيد عثماني وعد شيخ الامين. واعداد كبيرة تتوافد حاملة ما توفر لديها من اسرة وفرشان ووسائد او من جيرانها، والبعض ينظف حمامات الدار والمدرسة، وفريق يتولى ملء الازيار والاباريق. اختصارا كان لكل شخص مهما كان صغيرا عمل يؤديه. كلفت بمرافقة احد الاشخاص الى المنازل المجاورة التي اخلاها اصحابها لاستقبال الضيوف للتأكد من جاهزيتها.
هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى كان في المدرسة الصناعية - الجراج لاحقا - نشاط وعمل اكبر حيث تم تسوية الارضية وتنظيفها تماما لنصب سرادق، ووزعت الفصول على عشرات الطباخين رجالا ونساء من اصول مختلفة وذات تخصصات مختلفة بما يتناسب مع نوعية الضيوف المتوقعين، وموقع خاص لمعدي القهوة والشاهي بأنواعها - اذكر منهم العم عبد الله ود شريفة المشهور بهذه المهنة في البلدة.
شاحنات تحمل المؤن والاطعمة وعدد من الجمال تحمل حطبا وعشرات من الحمير تجلب ماء للشرب بصفة خاصة، وبوط خاص بالبراميل، ومجموعة ترش الساحات امام السرادق بماء من بئر المدرسة الذي لا يصلح لا للشرب ولا للاستعمالات الاخرى بسبب ملوحته الزائدة. عندما غادرت الموقع مع حلول المغرب كان عدد الاهالي وعدد الضيوف في تزايد ووتيرة العمل ترتفع في سباق مع الزمن لإعداد وجبة العشاء.
صبيحة اليوم الثالث، كان الوضع قد تغير تماما، فالباب الخلفي للمدرسة مقفل، والبوابة الامامية تشرف عليها شخصيات مهيبة لم اعرف منها احد مهمتها استقبال الضيوف وتوجيههم الى السرداق المحدد لكل فئة، اما العامة من الاهالي فخصص لهم سرداق في المدرسة الصناعية. لم اجرأ على الوقوف في المكان ناهيك الدخول فالتحقت ببعض الزملاء الذين كانوا يلعبون كرة القدم في ميدان المدرسة، وظللنا كذلك بالرغم من شدة الحرارة الى ان اصيب الزميل احمد اسماعيل (ابعلي) بضربة شمس كادت تقضي عليه فحملناه الى المدرسة الصناعية حيث تم انعاشه، ولم نغادر المكان الا بعد ان اصبنا بتخمة من الاطعمة المختلفة التي كانت تزخر بها السفرة المفتوحة.
مع انني شاهدت موكب الجنازة من امام منزل الخال صالح سانقور حيث تجمع الاطفال والنساء، الا انني لا اذكر بعد كم يوم كان الدفن. ولكن تحضرني بعض الذكريات. اولها انه كان هناك قلق وتذمر لتأخير الدفن، فالبعض عزاه الى انتظار شقيق الباشا الحاج عثمان للحضور من اديس ابابا، والبعض قال انه وصل والانتظار لمشاركة الامبراطور او الوفد الحكومي، والبعض انتقد حضور الامبراطور متهما اياه بتسميم الباشا من خلال دكتوره اليهودي. الطبيب الخاص بالإمبراطور هو الذي كان يعالج الباشا في مستشفى مصوع. فلا ادري تاريخ الدفن ولا من مثل الحكومة وكل ما قلته ما كنت اسمعه قد يكون صحيحا وقد لا يكون.
ثانيا، ظهر قبل وفاة الباشا بايام نجم سيار لا يظهر منه الا جزء صغير قبيل اختفائه مع نهاية الفجر، شاهده معظم الاهالي لان الجميع ينام في الحوش والافق مفتوح وشخصيا شاهدته عدة مرات (لا اذكر هل كان ظهوره يوميا ام اسبوعيا). وزعم البعض ان هذا النجم لا يظهر الا عندما يقترب موت رجل عظيم، وربما كان المقصود الامبراطوزر. واكدوا صدق نبؤتهم بوفاة الباشا بحجة انهم لم يحددوا اسما. استمر ظهوره لبعض الوقت واتضح في النهاية انها اثار طائرة نفاثة تحلق على ارتفاع عال. كذب المنجمون ولو صدقوا.
كان لصوت المولد الكهربائي الذي ينطلق مع الغروب من منزل الباشا نغمة محببة لدى الاهالي وخصوصا الجيران الذين كانوا يعتبرونه مؤنسا حتى جعلوه توقيتا لهم. وعندما توقف بعد نحو اسبوعين من الوفاة تأكدوا انهم لن يسمعوه ثانية فتحركت المشاعر والشجون والكل بدأ في اجترار ذكرياته، مشاهداته وانطباعته وحزنه بل وندمه على عدم ايفاء الباشا حقه من التقدير المستحق. في محاولة لتلخيص الحالة الانسانية والعاطفية كتبت هذه اﻻسطر وكل املي ان يقوم الزملاء بتطويرها وتسجليها حتى تبقي ضمن الذكريات.
يوم طلام تا يومتي يتطبح ديبك ويتمسى
سني طلام تا يومتي يتطبح ديبك ويتمسى
يــــوم عـــد زمّتا فقـــر البـــــو واتــــي
سبو جفر لستنتن وانسو حبر لتباكـــــي
قلــي افـــوه لقّـــم وقلي هجاين لتهاقـــي
اجنيتْ سفر وطعتوم بلـــع البــــو وســــتي
ونواي طحاي ذبطتو ات حرّتو لتناغـــــــي
يوم باشا طلمــينا طلال طنحــا وحقــي
ورح طنح دب عستر ومحــــبر دولا لتقسي
منتو اقلو نتوالــب ومنتو لأقلو نتاكــــي
منتو لقلو نطــبر ومنتو لقلو نتلاكــــي
منتـــو هليكو لبلـــنا أمــبل فيــــنا وليكـي
منتو أمّت حِرم لودي واقــــل حقوز لسدي
منتو يتيمنا لطاســس ومنتو علومنا لساسي
يـــوم يتـــم اناتــــو يتيم ديما ويســـــئي
مرانــت ودي قروبي اقل مرار وطنعــي
سدت مطيت من ربي إتكـبتيـــــا اب إدي
ربي ايمان لهبكي كلل ادام تو لشكـــي
تعلمـــــــو بيليـنا قِلْ نقبأ ســـب قديت
سودّن امطأ قل علم وغوث الدين قل لفتي
حتـــي قبئو بيلينا قل نتفـــرّه ونفـــــتي
قل نأمــر حظوتنا وقل ننسأ ونفــــــــدي
حــــوان كل قببو وغيور حقـــو لبـــدي
منتو انكــــا لبلك ســـــــني لقبأ ولئكـي
منتو حقو لركب امبل كرتف وجربـي
قِلْ كُلُ ود احمد يعارا ديبنا ويفنتــــي
عباينا ديب حشم ونؤشنا ديب تاتــــي
آمرنا ديب قمّي واقل كــــــل لتنسي
عشور طنح ود احمد اباي إكيت يسكــــي
عرر تُقْبَأ ادنيا ولاد أمات تفنتــــــي
ترُف بيكو حقوه يئتمني ديبا ويحـــزي
يوم طلام تا يومتي يتطبح ديبك ويتمسى
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.