المسيرة الدعوية للشيخ الشهيد محمد آدم، العالم الرباني - الحلقة الأولى
بقلم الأستاذ: عثمان محمود جابر - كاتب ارترى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
قال لله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
وفي الحديث: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر).
الشهيد الشيخ محمد آدم إسماعيل، العالم الفقيه والداعية الحصيف، كان معلما ومربيا وداعيا إلى الله، آتاه الله العلم والحكمة تحمل أعباء رسالة الدعوة وأبلى فيها بلاء حسنا، بتوفيق من الله ثم بحكمته وحلمه أن أصلح الله على يديه البلاد والعباد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم).
من خلال هذه المساهمة المتواضعة، سنحاول إلقاء الضوء على بعض الجوانب من حياة شيخنا ومعلمنا الجليل وعن سيرته الملهمة وجهاده في نشر الدعوة وتنوير المجتمع في منطقة مصوع، وسنقف إن شاء الله على بعض المحطات عن الأسلوب والسياسة المنهجية التي سلكها الشيخ في أنشطته الدعوية بهدف تصحيح وتنقية المفاهيم العقدية من الخزعبلات الشركية التي هيمنت في أذهان شرائح واسعة من الناس في ذلك الزمان.
المعلومات الشخصية عن الشيخ:
الشيخ محمد آدم الإبن الأكبر لأسرة تمتهن الزراعة والرعي، تتكون من ثلاث أولاد وخمس بنات، ولد في عام ١٩٣٢م في مدينة حلحل في منطقة عنسبا حسب التقسيم الإداري الجديد، أكمل حفظ القرآن الكريم في سن مبكر على يد والده وكان الوالد قد حفظ القرآن في منطقة القدين على الحدود السودانية الارترية.
وفي نهاية الثلاثينات من القرن العشرين انتقلت الأسرة إلى حقات وكان الشيخ محمد آدم يسافر من حين لآخر إلى أغردات لزيارة بعض الأقارب هناك، وفي إحدى زياراته تعرف على داعية سوداني الذي أعجب بالشاب محمد آدم حينها وحفظه المتقن للقرآن الكريم ورغبته الشديدة للعلم. وفي عام ١٩٤٥م سافر الشيخ محمد آدم إلى السودان بصحبة هذا الداعية ولم يكن قد تجاوز عمره آنذاك الثالثة عشر ربيعا، ونزل في ام ضوابان في مسجد الشيخ أبو قرون في الخرطوم حيث تعلم قواعد التجويد ومنها التحق بمعهد أم درمان العلمي (جامعة أم درمان الاسلامية حالياً) وتخرج منه تخصص شريعة.
وفي عام ١٩٥٨م عاد إلى الوطن ثم انتقل في عام ١٩٦٠م إلى بلدة حرقيقو بمصوع حيث تم تعيينه معلما لمواد التربية الإسلامية لمرحلتي الابتدائية والمتوسطة بمدارس حرقيقو الأهلية التي أنشأها المحسن المرحوم الباشا صالح أحمد كيكيا من حسابه الخاص وقفا لله تعالى.
وفي عام ١٩٧١م، بينما كان الشيخ خارجا من مسجد كابو مارتا في مصوع بعد أدائه صلاة الجمعة، جرى اختطافه من قبل رجال الأمن الإثيوبي ولم يعرف مكانه حتى ظهر أخيرا في سجن دنقولو بعد سنة كاملة من إخفائه القسري وقد حكم عليه بالسجن لمدة سنة دون أن يعرف سبب إدانته، وبعد أن أتم محكوميته في سجن أجيب بمصوع تم إخلاء سبيله وعاد إلى حرقيقو لمزاولة عمله في التدريس وظل يؤدي مهمامه كمدرس التربية الاسلامية حاملا بيده الأخرى لواء رسالة الدعوة حتى سقط شهيدا في مجزرة حرقيقو الثانية التي ارتكبها الجيش الإثيوبي بحق الأهالي من المدنيين العزل بتاريخ ٣١ ديسمبر ١٩٧٦م، وترك خلفه ولدين وخمس بنات، أسأل الله العلي القدير أن يجزيه عنا خيرا على ما قدم من تضحيات عظيمة في سبيل دينه ومجتمعه وأن يتقبله شهيدا ويسكنه في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
كان الشيخ رحمه الله ذوخلق رفيع، أنيقا في مظهره، لطيفا في سلوكه، متواضعا وحليما في تعامله مع الآخرين سرعان ما اندمج في المجتمع ودخل في قلوب الناس خلال فترة وجيزة من وصوله بلدة حرقيقو ووجد قبولا وترحابا في أوساط المجتمع، فاحبه الأهالي حبا جما، وشاع اسمه على لسان كل فرد وفي كل بيت من مجتمع حرقيقو، بنى صداقات وعلاقات اجتماعية واسعة مع أعيان وشيوخ البلدة، وما من مناسبة اجتماعية أو دينية إلا وكان الشيخ محمد في مقدمة المدعوين فيها محاضرا وواعظا ومصلحا، وقد آتاه الله علما غزيرا وقدرة فائقة في الخطابة والإلقاء وبساطة في الأسلوب، مواعظه البليغة تأسر القلب وتجذب اهتمام المتلقي، أما محاضراته عن السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وطريقة سرده لوقائع السيرة تخترق القلوب بلا استئذان وتسكن في النفوس، وبالتالي أحدثت دعوته المباركة ثورة دينية وثقافية في المجتمع.
قدوم الشيخ محمد آدم إلى المنطقة كان بغرض العمل كمعلم لتدريس مواد التربية الاسلامية في مدارس حرقيقو الأهلية، لكن بجانب مهامه الرسمية في المدرسة كان يحمل في جعبته هموم تبليغ الدعوة لعموم المجتمع بشكل عام ولسان حاله يردد قولله تعالي: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، وقوله تعالى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
خلال المرحلة التي سبقت قدوم الشيخ محمد، كيف كان حال المجتمع في المنطقة بشكل عام؟ سؤال يطرح نفسه في هذا السياق ويحتم علينا أن نجيب عليه بتجرد، ونحن نتحدث عن الفترة التي سبقت عام ١٩٦٠م بقليل إلى عام ١٩٧٦م.
لا شك من أن المجتمع المصوعي عموما متدين ومحافظ بالفطرة، ومتمسك بالقيم والأخلاق الإسلامية، إلى درجة أنك في ذلك الزمن لا تكاد ترى امرأة مسلمة تتجول خارج منزلها من غير حجاب، وأن اختلاط الجنسين ممنوع منعا باتا حسب الأعراف والتقاليد السائدة في عموم المنطقة الأمر الذي أدى إلى حرمان البنات من التعليم في المدارس الحكومية التي لا مجال فيها للفصل بين الجنسين عدا مدارس حرقيقو الأهلية، وهناك الكثير من المظاهر والسلوكيات الاجتماعية الحميدة التي كان يتميز بها المجتمع المصوعي.
غير أن هذا المجتمع المحافظ والغيور على دينه كان يعاني من ندرة العلماء والدعاة المصلحين الذين لا يستغني عنهم أي مجتمع مسلم في كل مكان وزمان، الأمر الذي جعل عامة الناس تغرق في مستنقع البدع والخزعبلات الشركية لعقود من الزمن حيث طغت في المنطقة مظاهر الحفلات والمهرجانات الحولية، زيارة امبيرمي وزيارة سيدي هاشم وزيارة الشيخ أحمد ربتو وكلها تقام سنويا وكأنها حج أو عمرة، وجمع غفير من الزوار يأتون إليها من كل فج عميق، والطواف حول الأضرحة وتقديس القبور والتبرك فيها وطقوس غريبة لا أصل لها في الكتاب والسنة، ومولد النبي والحركات الهستيرية، وزيارة النجاشي الذي يشد لها الرحال من مصوع إلى إقليم تيغراي في شمال إثيوبيا، والتكلفة المالية التي تتطلبها الرحلة، وهناك قصص وأساطير كانت متداولة بين البسطاء عن كرامات الأولياء من شيوخ الطائفة الصوفية وإحاطتهم بهالة من التقديس، وكل ذلك كان يمارس في المنطقة تحت مسمى العبادات أو تقربا إلى الله ورسوله، هكذ كان الحال تقريبا في عموم أرجاء ارتريا إلا من رحم الله، نسأل الله العفو والعافية.
في تلك الأثناء، ومن حسن تدبير الله سبحانه وتعالى أن وفق الله المرحوم الشيخ إدريس عمر كيكيا رئيس مجلس إدارة مدارس حرقيقو الأهلية آنذاك، في حسن اختياره للشيخ محمد آدم معلما ومربيا لمواد التربية الإسلامية في مدارس حرقيقو الأهلية، وبالتالى جاء الشيخ في الوقت الذي كانت فيه المنطقة في أمس الحاجة إلى دعاة مصلحين وعلماء عاملين.
حين نتأمل مسيرة الشيخ محمد ونشاطه الدعوي في منطقة مصوع، كانت أموره كلها ميسرة وسهلة منذ البداية ودعوته وجدت قبولا وترحابا في المجتمع، أعتمد الشيخ في نشر دعوته بعد الله سبحانه وتعالى على الأدوات والوسائل التي تعتبر أساسية لكل داعية، وكانت سببا لنجاح مشروعه الدعوي في المنطقة، وهنا نذكر بعضا منها كمثال:
أولا: الأهلية العلمية، كان الشيخ رحمه الله متمكنا في العلوم الشرعية بجميع فروعه.
ثانيا: التقوى والإخلاص في الدعوة ونشهد أن الشيخ محمد كان من أهل التقوى والإخلاص، صادقا في دعوته نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.
ثالثا: اتسم خطاب الشيخ محمد للجمهور دائما بالمرونة والبساطة وباللغة التي يفهمها العوام، وهكذا استمر في نهجه طيلة مسيرته الدعوية.
رابعا: من صفات الشيخ الصبر والحلم والتواضع في أسلوب التوجيه والإرشاد الدعوي مع سياسة النفس الطويل، والأخذ بالأسباب في تبليغ الدعوة وترك الهداية بيد الله، (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء).
خامسا: من عادة الشيخ الترفع والإعراض عن الصدام والجدال والتحلي بالحكمة والموعظة الحسنة.
سادسا: فهمه لواقع البيئة التي يعمل فيها وإندماجه السريع في المجتمع ساهم كثيرا في تقبل الناس دعوته بيسر وسهولة.
نواصل بإذن الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة