الاستاذ محمود صالح سبي رئيس جهاز التعليم الارتري

المصدر: مجلة الناقوس الثقافية - رابطة ابناء المنخفضات الارترية

دأبت مجلة الناقوس أن تفرد في اعدادها مساحة للتعليم وحاملي مشعله وذلك انطلاقا

من فهمنا لأهمية التعليم ودوره في تقدم المجتمعات، إذ أن التعليم هو ركن أساسي لبناء الحضارة وسلاح الفرد في المجتمعات لمواكبة العصر الذي يعيشه، ويعتبر العلم حجر الاساس لنهضة المجتمعات والمحرك لتطور الشعوب، وإن قوة أي مجتمع تكمن في أفراده من المتعلمين والعلماء، إذ يُحصن التعليم الافراد بمعرفة ما يترتب عليهم من واجبات تجاه مجتمعاتهم وما لهم من حقوق، كما يسلح التعليم الفرد بالقدرة على الإبداع والابتكار ويحسن وعي الفرد، ويغير من طريقة تفكيره، ما ينعكس بشكل إيجابي على دوره وسط مجتمعه وتقدمه.

ان الحديث عن التعليم يقودنا لتسليط الضوء على هؤلاء الذين حملوا راياته في إرتريا أبان العهد الاستعماري أو في عهد الثورة، وهنا نجد أنفسنا أمام أحد هؤلاء الذين كرسوا حياتهم للعلم والتعليم وكان له باع طويل في هذا المجال خاصة عند الحديث عن التعليم في عهد الثورة.

لا يمكن لأي كان أن يتناول التعليم في عهد الثورة دون ذكر شخصيتنا لهذا العدد، ألا وهو الاستاذ المربي محمود صالح سبي، الذي سنحاول من خلال متابعة مسيرته تسليط الضوء على إنجازات أكبر جهاز للتعليم في عهد الثورة -جهاز التعليم الارتري.

الاستاذ محمود صالح سبي رحمه الله هو الأخ الاكبر للمناضل الشهيد عثمان صالح سبي، وهو من مواليد قرية حرقيقو في عام 1928م حيث عاش طفولته مثله مثل أبناء جيله ونال قسط من التعليم الديني، وعند افتتاح مدرسة حرقيقو التي أسسها الباشا صالح أحمد كيكيا عام 1946م التحق بها وواصل فيها تعليمه الابتدائي والمتوسط وبعد تخرجه منها عمل فيها معلماًومنذ ذلك الوقت كرس الأستاذ محمود حياته لرسالة التعليم، وكانت البلاد آنذاك تمر بحالة من الغليان في ما عرف بفترة تقرير المصير ومن ثم إعلان الاتحاد الفدرالي، ولقد ساهم الاستاذ كمختلف أبناء جيله في الحراك السلمي الذي عم البلاد في تلك الفترة عندما ظهرت النوايا الحقيقية لأثيوبيا تجاه الاتحاد الفيدرالي وتغولها على الأسس التي قام عليها الاتحاد، مما دفع العديد من أبناء مجتمعنا في مختلف أماكن تواجدهم للعمل على مواجهة ذلك، فنشأت حركة تحرير إرتريا بقيادة المناضل محمد سعيد ناود وعمت البلاد الاضرابات والتظاهرات السلمية الرافضة لمساعي الضم الذي تقوم به الإمبراطورية الإثيوبية، وصولاً إلى تأسيس جبهة التحرير الإرترية بقيادة المناضل إدريس محمد آدم، ثم إعلان الكفاح المسلح في عام 1961م بقيادة الشهيد البطل حامد ادريس عواتي.

ولقد ارتبط العديد من الأساتذة والمعلمين في تلك الفترة بالحراك السلمي الذي عم البلاد واستبشروا خيراً بإعلان الكفاح المسلح. ونظراً لارتباط الاستاذ محمود سبي بالثورة وتعاونه معها، تم اعتقاله في العام 1965م وحكم عليه بالسجن لمدة عشرون عاماً إلى أن تم إطلاق سراحه بعد العملية الفدائية البطولية التي نفذتها جبهة التحرير الارترية وحررت فيها المعتقلين والمساجين من سجن سمبل في عام 1975م، لتبدأ مرحلة جديدة من النضال في حياة الأستاذ والمتمثلة في العمل بمدارس الثورة لإكمال رسالته التعليمية.

شهد منتصف السبعينيات من القرن الماضي وصول الدرق للسلطة في إثيوبيا، وفي محاولة منه لمواجهة الثورة مارس سياسة القتل والبطش في أوساط الشعب مما ترتب عليه نزوح أعداد كبيرة من أبناء شعبنا ولجوئهم للسودان وحتم ذلك على فصائل العمل الوطني إقامة المدارس لاستيعاب الطلاب النازحين وتأمين فرص التعليم لهم، وعينت قوات التحرير الشعبية آنذاك في عام الأستاذ محمود صالح سبي رئيساً لجهاز التعليم الارتري التابع لها، واجتهد الأستاذ للعمل على إقامة المدارس وانتشارها بأماكن تواجد اللاجئين الارتريين بالمعسكرات ومدن كسلا، القضارف بورتسودان، ود الحليو والشوك الخ... ولقد حرص الأستاذ منذ بداية تعيينه رئيساً للجهاز على أن يضع الاهداف التالية نصب عينيه لتحقيق الغاية التي تأسس جهاز التعليم الإرتري من أجلها:-

أولاً: توفير فرص التعليم للمواطن الإرتري أينما كان.

ثانياً: تأهيل الطلاب الإرتريين لمواصلة تعليمهم في الجامعات والمعاهد العليا في البلاد التي يقيمون فيها أو في غيرها.

ثالثاً: تحقيق طموحات الشعب الإرتري في الحفاظ على هويته الثقافية من الضياع في متاهات اللجوء حتى العودة للوطن.

رابعا: تعريف الشعب الإرتري بتاريخهم الثقافي والحضاري من أجل ترسيخ وحدة فكرية تبرز ملامح الشخصية الإرترية.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف سعى جهاز التعليم للتوسع في انشاء المدارس بالرغم من شح الميزانيات المرصودة لذلك وقتها، ولكن فلسفة الجهاز بقيادة الاستاذ محمود في الانتشار قامت على اتباع سياسة الخطوة خطوة كما أوضح ذلك في البحث الذي قدمه في ندوة التعليم الإسلامي في أفريقيا والتي شارك فيها العديد من أساتذة الجامعات السودانية والأفريقية، وقد حدد الاستاذ في بحثه الكيفية التي اتبعوها في جهاز التعليم لأنشاء المدارس بالرغم من شح الموارد، إذ يقول: تم مرحلة العمل على النحو التالي:-

المرحلة الاولى: كانت وجود الطالب والمعلم والفصل، وهذه المرحلة شهدت إنشاء المدارس وكانت غالبية الفصول الدراسية من القطاطي (بناء من الطين والقش).

المرحلة الثانية: مرحلة تأمين الكتاب المدرسي لكل طالب.

المرحلة الثالثة: كانت مرحلة تأهيل المعلمين وإعداد المنهج الارتري الذي تم إعداده بمشاركة منالمختصين التربويين من الجامعات السودانية ومعهد بخت الرضا.

ان التوسع في إنشاء المدارس دفع الاستاذ للقيام بالعديد من الزيارات للدول العربية الشقيقة بحثا عن الدعم للمدارس وإيجاد منح دراسية جامعية للطلاب، وتحقق له ذلك إذ تبنت المملكة العربية السعودية دعم الجهاز وذلك بالتزامها بتقديم ميزانية سنوية ثابتة له.

وشهد العام 1986م تطوراً متميزاً في مراحل عمل جهاز التعليم الإرتري، إذ قرر الأستاذ مع إدارة الجهاز أن يكون جهاز التعليم الارتري جهازً مستقلا عن التنظيم السياسي، وأن التعليم يجب أن يكون متاح للجميع دون النظر للانتماءات السياسية والتنظيمية للطلاب أو لأسرهم، وهكذا استطاع الاستاذ محمود سبي أن يحافظ على استقلالية الجهاز بتشكيل إدارة منفصلة مما مكن الجهاز وإدارته من تجاوز العديد من الاشكالات التي يمكن أن تفرضها التبعية الإدارية للتنظيم السياسي.

توسع جهاز التعليم الارتري وتجاوز عدد المدارس التابعة له أكثر من أربعين مدرسة بمختلف المراحل الدراسية من ابتدائية، ومتوسطة، وثانوية، بالإضافة للمعاهد الدينية والخلاوي التي فاق عددها الخمسة وعشرون، وقد بلغ عدد الطلاب في المراحل ما دون الجامعية أكثر من ثلاثة عشر ألف طالب، وعدد الأساتذة الذين عملوا بالجهاز تجاوز الثمانمائة معلم.

أما على الصعيد الجامعي فقد تمكن الجهاز من تأمين المنح الدراسية بمختلف الجامعات، ويمكن الاشارة هنا لبعض الارقام على سبيل المثال لا الحصر: إذ بلغت المنح الدراسية بالجامعات السودانية للطلاب الإرتريين عن طريق الجهاز الى أربعة وأربعين منحة دراسية، وبالجامعات والمعاهد الليبية تجاوز العدد الثمانمائة طالب، أما في الجامعات السورية فبلغ العدد خمسة واربعون طالباً، كما أن من تم استيعابهم بدول الخليج تجاوز عددهم الستون طالباً، وهكذا استطاع جهاز التعليم الارتري تحقيق أهدافه والقيامعلى أكمل وجه إذ أتاح الفرصة للعديد من أبناء شعبنا للالتحاق بالمدارس والمعاهد والجامعات دون النظر أو التمييز بينهم على أساس انتماءاتهم السياسية، ويعود الفضل في هذا للأستاذ محمود سبي والأساتذة الذين رافقوه في إدارة جهاز التعليم الارتري.

وفي مجال بحثنا للتوثيق لجهاز التعليم الارتري وإنجازاته تحت إدارة المرحوم المناضل محمود سبي، التقينا بالأستاذ نافع جيواي الرجل الذي رافق المرحوم محمود سبي في كل مراحل عمل جهاز التعليم منذ بداياته وحتى انتهاء تجربة عمل الجهاز الغنية بالعطاء والانجازات العظيمة، وحقيقة ما كان لنا أن نوفق في ذلك لولا التعاون الكبير الذي وجدناه من قبله، في تزويدنا بالمعلومات ومسيرة عمل الجهاز ورصد إنجازاته.

وكنا نود أن نسلط المزيد من الضوء على نضالات الاستاذ محمود سبي من خلال تسجيل شهادات المعلمين الذين عاصروه وعملوا معه عن قرب، ولكن ظروف الشتات ورحيل العدد الأكبر منهم لم تمكننا من ذلك، وسوف نكتفي هنا بشهادة الأستاذ نافع جيواي باعتباره من أقرب الذين عاصروه وعملوا معه في خدمة العلم والتعليم.

وفي معرض حديثه عن الأستاذ محمود سبي يقول الأستاذ جيواي بأن المرحوم محمود كان رجل متفاني ومخلص لرسالة التعليم التي آمن بها ولم يفكر في يوم من الأيام بأن يتكسب من ورائها أو أن يحقق شيئا لنفسه أو لأسرته، وأذكر هنا طلبه مني أن أجهز له أحد الغرفتين اللتين كان يتكون منها المكتب الذي استأجرناه لإدارة عمل الجهاز في طريق المدينة بجدة، وذلك حتي يوفر لميزانية الجهاز أجرة وتكاليف الإقامة في الفنادق عند زياراته المتكررة لمدينة جدة، فقد كان رجلا عصاميا يؤثر على نفسه سبل الراحة لمصلحة الجهاز وتقدم عمله، وكان يسعى دون كلل أو ملل من أجل توفير المال وتوظيفه في خدمة العملية التعليمية عبر الجهاز الذي كان شغله الشاغل، وهذا غيض من فيض عن شخصية الاستاذ محمود المعطاءة وتفانيه في خدمة رسالة التعليم التي آمن بها ووهبها جل حياته.

رحم الله الاستاذ محمود سبي، فقد وافته المنية في الخرطوم في يوم 1992/1/4م تاركاً تلك السيرة العطرة بما قدمه لأبناء شعبه، وتزامناً مع وفاته وافت المنية جهاز التعليم الارتري والمدارس والمعاهد التابعة له، اذ تم الاستيلاء عليها من قبل الحكومة الإرترية وأصبح الجهاز تابع لوزارة التعليم الإرترية، وهكذا كتبت شهادة وفاة هذا الصرح العظيم وأغلقت المدارس التي كانت تابعة له تمشياً مع سياسات دولة التجهيل التي ما فتئت تعمل من أجل محاربة أبناء شعبنا وخاصة أبناء المنخفضات، انطلاقا من سياسة الإقصاء والهيمنة ومحاربة أي تقدم أو تطور لهذا المجتمع.

Top
X

Right Click

No Right Click