من ذا الذى ينسى؟ المناضل آدم محمد قدوف (أبو محمّد) الحلقة الرابعة والأخيرة

بقلم الأستاذ: عبدالفتّاح ودّ الخليفة - كاتب ومؤرخ إرتري، المملكة المتّحدة

فى بدايات معرفتى به كان فقط يحكى ويسأل عن مدينته (كرن) عن من بقى فيها

ومن رحل عن الرّموز و الشّخوص، وعن كلّ الّذين وهبهم الخالق "قوّة تحمّل" أذى المستكبرين والمستعمرين و عناصر (الطّابور الخامس) من الجواسيس والمخبرين (نخّاسة الإستعباد...

وعندما عرفنا تنظيمات الكفاح الإرترى كان العم (آدم قدوف) يناقش معنا الأمور بلغة العارف والمتابع كان له رأى مغاير لوضع الثّورة وكانت (القيادة العامة) التى أفرزها مؤتمر (أدوبحا) محور نقاشاته وكان يعتقد جازما فيها ومنها بدأت الدوائر نحو الطرق الوطنية الأخرى، وكان يعتقد بأنّها عطّلت عمل لجنة (تقصّى الحقائق) وإعتقلت أعضائها الستة..

ولكن (عمّ آدم) كان ذو صدر رحبا وأبا وراعيا لكلّ المختلفين، وكان إحد أسباب إلتصاقى به أخوالى الذين عرفوه من أيام (زراعة الفول السّودانى) فى منطقة (دعروتاى) و(حرّت شندق) لأنّهم عملوا فى مزارعه وعرفوه فى عاصمة منطقتهم مدينة (حقّات) لوجود شقيقتى المناضل (آدم قدوف) فيها...

وبعد المذابح الإثيوبية فى العام 1967 فى (بركا) والقاش) و(سنحيت) فرّق الحرق والقتل سكان منطقة (فانا) فهجروها بحثا عن الأمن والأمان إلى السّودان وتحديدا إلى قرية (تبارك الله) (1) فلحق بهم (عمّ آدم) وأسّس هناك (مخبزا) عمل فيه بعضا من أهل (فانا) وبعضا من أقاربه، وبوجود (مخبز عمّ آدم ) وحضوره فى القرية وجد لاجئى (فانا - لعال) و(فانا - تحات) مركزا إجتماعيا وقائدا، يفتى ويساهم فى حلحلة مشاكلهم الإجتماعيّة، ويوفّر لهم إحتياجاتهم ويؤمّن لهم الدخول التى تساعدهم فى إعالة ذويهم.

وبعد فترة بدأ (عمّ آدم) فى مزاولة الزّراعة لأنّه كان قد كسب قبول ومودة أهل القرية و (شيخ القرية) فوهبه أرضا وأقام فيها مشروعه الزراعى، وأضاف عليها بحنكته وإقدامه ثقة وودّ أهل قرية (القريشا) التى هى أيضا فى الصعيد السودانى وهى (حاضرة الإقليم ) تقع فى نفس الطريق المؤدّى إلى مدينة (الحمرا) الإثيوبية من مدينة القضارف وعمل هناك حانوتا جمع فيه وحوله الكثير من الرعاة والمزارعين الإرتريّين الذين زحفوا إليها من إرتريا هربا من المذابخ الإثيوبية، وجلهم كانوا من منطقتى (بركا والقاش) و(حانوته المبارك) كان بؤرة نشاط ومركز نقاش ومصدر أخبار لكل ما يتعلق بإرتريا الوطن، حضرت ذالك فى الحانوت لأكثر من مرّة رحم الله (عمّ آدم قدوف) فكان رجلا وتراثا ووطنا متحركا، فأين ما حلّ يحل الوطن والتراث الإرترى وتلك هبة الله لأحبّ خلقه...

كان الأخوال يشجّعون (عم آدم) لإقتناء منزلا ملك فى القضارف فكان يقول دائما: أنا هنا بصفة مؤقّتة أنا هنا لاجئ واللاجئ يجب أن لا يمتلك بيتا فى مواقع اللجوء ليظلّ مرتبطا بالبيت الذى تركه عنوة ، وليظلّ الإرتباط بالبيت الأصلى سرمديّا وأبديا حتّى يوم العودة... هكذا كان (عمّى آدم) محبّا لأرضه ومرتبطا وجدانيا بتلك بالأرض الّتى أنجبته فوهبها كلّ حبّه وكلّ عشقه، ولم يستطع أن يرى غيرها ولا بديلا لها رحمه الله.

كان (عمّ آدم) محسنا يتفقّد أحوال المحتاجين والمعوّزين، فعندما يعاون أهل القرية فى الزّرع ثمّ القطع والفرز والجمع، كان يصرف لأهله وأحبابه أهل القرية من الإرتريّين مستحقّاتهم من المال مقابل العمل زائدا كميّة وفيرة من الذّرة ليعينهم فى العيش ويكون لهم إدخارا وسندا فى أيّام الشّظف،وحتّى اللذين لم يعملوا فى مشروعه الزراعى كان يأتيهم نصيبهم من خيرات (آدم قدوف) وهم جلوسا فى المنزل ولم ينسى (عمّى آدم) اليتامى و الأسر التى فقدت عائلها وكبار السّن، فكان (آدم قدوف) محسنا ومصلحا وراعيا لكلّ أهله من اللاجئين والمحتاجين فى قرية (تبارك الله) رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى مع الصّديقين والشهداء.

الهوامش:
1. قرية (تبارك الله) تتبع لمحلية أو مركز (القُرّيشة) فى الصعيد السودانى وفى الطريق بين القضارف ومدينة الحمرا الإثيوبية عبر (بربر الفقرا) و(جبل قنا) و(خور زراف) و (بركة نورين) و (أم قزاز) و (التمرقو) و (الدّرابى) و (قدبى) والأخيرة نصفها إثيوبى والنصف المتبقّى سودانى وفيها ولد قائد المهدية الجبرتى الحبشىّ الأصل (النّور ودّ فقرا) وكلّها قرى كان يعمل بها اللاجؤون والنازحون الإرتريّون بقيادة المتعاهدين الصوماليين فى الجبال لجمع (العلك البرّى) عندما عرفت هذه القرية فى عام 1975 كان أغلب من يسكنها هم من قبائل المساليت) و(القمز) سكان الغرب السودانى والعمق الإفريقى..

وإن وجد فيها أفراد من الشّماليون السودانيون فكانوا إمّا عناصر الشرطة أو (تمرجية) فى مستوصف القرية.. وفى عهد المهدية كانت معسكرا لجيشوشهم ومنها كان ينطلق قائد المهدية الحبشىّ الأصل (النور ود فقرا الجبرتى) فى عهود أمارة (يونس ودْ دكين) و(حمدان أبو عنجة) و(الزّاكى طمل) لمحاربة مملكة الأحباش بقيادة (الملك التقراوى - يوهنّس) وحاكم (بقّى مدر) (تكلى هايمانوت وأخيرا (منيليك حاكم (شوا) وفى حروب الطليان والأنجليز كان قد إستعملها الإنجليز مركزا خلفيا فى حربهم مع الطليان الذين كانوا قد سيطروا على مناطق واسعة من منطقة (بقّ مدر) المجاورة وكلّ المناطق المحاذية لنهر سيتيت إنظلاقا من مدينة (أم حجر) وإنتهت المواجهة بينهم بمعركة القلابات فى صيف عام 1940 بإنتصار الإنجليز.

كان قد سكن القرية شيخ إرترى إسمه الشيخ (حامد) من منطقة أسماط فى (ماريا طلام) كان مقرءا للقرآن لأبناء (القمز) والمساليت) وكان شيخا يعمل فى التمائم والعلاج النّبوى أحبّوه أهل القرية ووهبوه أرضا يزرعها ولأنّ الشيج هذا كان له صديق إرترى آخر من (فانا) إسمه (محمّد أدقوى) عرفه فى منطقة خشم القربة أيّام بناء الخزّان و(كبرى البطانة) فعرض عليه لاحقا الإرتحال للسكن معه فى (تبارك الله) وبسبب (محمد أدقوى) وجد اللاجئون من أهالى منطقة "فانا" ملجئا ومسكنا غير رسمى بلا تسجيل وبلا أوراق، فى بلدا واسعا ومتّسعا للكل فى (السّودان السّمح) و فى تبارك الله القرية.

هامش الهوامش: ولمن أراد معرفة المزيد عن قرية (تبارك الله) وتأريخها فى عهد المهدية يمكن الرّجوع والإطّلاع على كتاب (المهديّة والحبشة) للدكتور السّودانى محمد سعيد القدّال مطبعة (دار الجيل بيروت).

Top
X

Right Click

No Right Click