كنتيباي محمود... السيرة والمسيرة - الجزء الثاني
بقلم الأستاذ: عثمان همد نور الدين (ود ابيب)
السياسات الظالمة التي انتهجتها ايطاليا ضد الحباب، واحتج عليها كنتيباي محمود،
وكانت السبب في تمرد الحباب...
ومفاصلتهم المعلنة لإيطاليا... حيث تمثلت تلك المظالم في النقاط التالية:-
• طلبات الطليان المتكررة للحصول علي الجمال والحصين لنقل العتاد الحربي الإيطالي.
• تجنيد الشباب الحبابي والزج بهم في القتال.
• فرض ضرائب وعشور باهظة علي الشعب.
• التدخل المستمر في تغيير نمط حياة البدو الرحل وتقييد حركتهم في التنقل بين المراعي الغنية.
ومقابل ذالك قرر كنتيباي محمود الأتي:-
1. اللغاء جميع الإتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت بين الحباب وإيطاليا، في عهدي (والده، وعمه).
2. إنفصال الحباب الكامل عن الإدارة الإيطالية.
3. الإعلان رسمياُ بإنحياز الحباب وانضمامهم إلي الإدارة البريطانية المصرية في سواكن...التي كان يتعبها الحباب تاريخياً، قبل حدوث الإحتلال الإيطالي لمناطقهم في الساحل...
4. الإنتقام من إيطاليا التي سجنت كنتيباي محمود، وقتلت (والده وأعمه) بعد حقنهم بمصل سام في السجن.
كل هذه النقاط، شكلت الزخم السياسي، وأعطت حججاً مقنعة، وآيدلوجية فكرية، ومنطقية سياسية، بني عليها السيد كنتيباي محمود خلافه السياسي العريض مع إيطاليا... ومنحته أسباب مقنعة للخروج علي حلفها، والإنضمام إلي الحلف البريطاني المصري المناوئ لها في سواكن. وكوالده كنتيباي حامد بك، تمتع ايضاً كنتيباي محمود بدهاء سياسي، وحس امني، ومكر اجتماعي، عندما استدرج الجميع، بريطانيا، وايطاليا، وحتي شيوخ وأعيان الحباب.حيث استعان بالكتمان، والسرية في تنفيذ خطة الرحيل من مناطق النفوذ الإيطالي دون أن يشعر احداُ به...
واصدر أوامره للجنود المسلحين، والرديف السوداني، والباش بزق، بحراسة وسوق الماشية، وتوجيه القبائل للرحيل الي مراعي (ود قان) كمرحلة أولي لخطة الإخلاء... وعندما تعالت بعض الأصوات من المشايخ عن جدوي هذا الرحيل الجماعي الي المشاتي الساحلية، رد عليهم كنتيباي محمود بفكاهة ودعابة لا تخلو من المكر، بقوله (حباب بدير سبك وساقم) أي الرحيل عزة الحباب، ومن عادتهم المعروفة الرحيل شتاءً، وصيفاً...
وفي يوم 1895/1/27 تم الإنتهاء من انجاز المرحلة الثانية، من خطة تمرد ومفاصلة الحباب مع ايطاليا بنجاح، عندما نزل وخيم كنتيباي محمود ومن معه بمنطقة قرورة... وهنا تم صدور البيان الرسمي لكنتيباي محمود، بتأكيد اعلان إنفصال الحباب عن نفوذ وسيطرة السلطات الإيطاليه، وانضمامهم إلي النفوذ البريطاني المصري في سواكن.
وبذالك وضع الجميع (ايطاليا، بريطانيا، مصر، الحباب) أمام مسؤولياتهم في التعامل مع الوضع الجديد، كأمر واقع، وكحقيقة يجب التعاطي معها بإيجابية... وبعث بخطابين رسميين... الأول (للكولونيل لويدا) حاكم إقليم شرق السودان بسواكن... والثاني للسيد محمد عثمان تاج السر رجل الدين بسواكن... مع إصراره و تأكيده المضي قدماً في استمرار خطة سير رحلة الحباب بسلام حتي الوصول إلي منطقة (جنت) في 1895/1/28.
وفي يوم 1895/2/4 وصل الحباب منطقة (عدارت) وفيها تجلت عظمة ومكانة، وقدر وكبرياء الحباب، ممثلة في قائدهم وزعيمهم السيد كنتيباي محمود... وكيف تسابقت الدول بحجم بريطانيا وايطاليا ومصر والحبشة لخطب ودهم...وكيف يتحرك (الكولونيل لويدا) حاكم إقليم شرق السودان، وممثل بريطانيا العظمي... وفي معيته السيد محمد عثمان تاج السر راعي الختمية، وذراع مصر الناعمة في المنطقة... للسفر إلي منطقة (عدارت)، برغم وعورة الطريق، ومشقة السفر، والبعد الجغرافي للمنطقة من مركز سواكن... وذالك من اجل لقاء واستقبال زعيم امة الحباب كنتيباي محمود، ومن معه من أعيان وشيوخ، وجموع شعب الحباب... وكان بحق وحقيقة لقاء قمة، واجتماع رؤساء، ومؤتمر قادة، نال حظاً وافراً من المتابعة والإهتمام والتوثيق... وتناولته الوكالات الإعلامية... والجهات الإستخبارية التابعة للدول المتصارعة في المنطقة الكثير عن ما تمخض عنه...من تقارير...وتوصيات... وبموجب مقررات مؤتمر (عدارت)، سافر كنتيباي محمود في 1895/2/18 إلي سواكن، للإجتماع بالحاكم العام وإدارته... وعرض وجهة نظره الرافضة بعدم العودة، لأي من الذين قدموا معه، إلي النفوذ الإيطالي مرة أخري... بحجة وفرة المراعي الغنية، والمزارع الخصبة... وهنا تبلورت بشكل واضح وجهة نظر أخري من بعض الشيوخ والأعيان، تعارض قرار كنتيباي محمود بعدم عودتهم.
وعلي الأقل من بين 41 شيخ، 12 منهم يريدون العودة... ومطالبهم كانت واقعية (برجماتية)، حيث أنهم ملاك ثروة حيوانية (أبقار، ابل، ماعز، نعاج)، وأراضيهم الواقعة تحت النفوذ الإيطالي، تكثر فيها المراعي الغنية بالأعشاب، والغطاء البستاني الكثيف، ووفرة للمياه... أما أراضيهم الواقعة تحت النفوذ البريطاني في (مقدام) فقيرة المراعي، وشبه صحراوية، وتقل فيها نسبة هطول الأمطار، والعشب والغطاء البستاني التي تحتاجه ماشيتهم، وترتفع فيها درجة الحرارة... وعموماً (مقدام) تناسب أجواءها السكان، و الثروة الحيوانية في فصل الشتاء... وفي العادة الحباب ينزلون إلي هذه المشاتي الساحلية التي تجاور البحر شتاء، ويسمون رحلتهم (سبك) وعندما يقترب فصل الصيف، وترتفع درجات الحرارة، يشدون الترحال إلي المناطق المرتفعة الماطرة ويسمون تلك الرحلة (ساقم).
وتقابل رحلة (سبك، ساقم) رحلة (الشتاء، والصيف)... إضافة لهذه الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الواضحة من قبل الطرف المعارض لقرار كنتيباي محمود بعدم العودة والرجوع لأي منهم للنفوذ الإيطالي... ايضاَ برزت أسباب أخري ذات طابع سياسي وتاريخي، تتعلق بصرع السلطة، والتمسك بوحدة الأرض، والإنسان، والإعتزاز بما تركه الأباء والأجداد علي تلك الأرض من ارث سياسي واجتماعي وتاريخي... حيث تعتبر مدينة (نقفة) الواقعة تحت النفوذ الإيطالي، (الأيقونة) الملهمة التي شهدت تأسيس سلطة الحباب في الساحل... فبعض الشيوخ صعب عليهم مفارقة هذه المدينة الجميلة جوهرة الساحل (نقفة)، واستغربوا كيف يمنعون من زيارتها...ناهيك من عدم السكن فيها... وظهر ذالك جلياُ في أشعارهم، وقصصهم، وحكاويهم... فيقول الشاعر الكبير إدريس ود محمد ود نور الدين... مادحاً كنتيباي حسن ود كنتيباي محمود، عندما رجع إلي نقفة، مطالباً بمنصب (الكنتيباي) بعد فترة طويلة من الزمن...
* قندا ليلا إنقرار ... قنحت كاما تأطقب.
* كنتيباي انت إت نقفة ... وانجليزي انت إت عيدب.
* لتحقدا نوسو ورد ودقق ... حدي سهم أبوكا.
* إللي وداي ود ملك تو ... وتركب تو وتحقل.
أي من طريقة قدلك وهندام ملبسك، و قوة شخصيتك، النظرة اليك مشبعة...يعني رجل قيادة مقنعة، وأنت في نقفة تسمي كنتيباي، و في (عيدب) تسمي انجليزي، والمحتاج بنفسه يطحن، و يجلب الماء... ابحث عن حقوق والدك، وان فعلك هذا، فعل ابن ملك، قد تحقق ما تريد، وقد لا تحقق... يعني ما ضاع حق وراءه مطالب... و(عيدب) هي منطقة في مقدام، كانت واقعة تحت النفوذ الإنجليزي... وهكذا في ظل تجاذب صراع (القدبو) والأحلاف تتعزز قوة الاستقطاب الحاد بين الطرفين. كما عبر بذالك الشاعر الحبابي الكبير (همد ود عوال)، مخاطباً بقربته... مستهجناً شوقها، وحنينها إلي مراعي (قطاب) الواقعة تحت النفوذ الإيطالي.
فيقول:-
* إللي ما مدر أمسيلو، إيتأ نوكي إت قطاب...
* عدوبنا هريرك، إماتو نتل إت رعداب...
* مسل شرف وارتيقا، مسل ولاد حسناب...
* قدبو مسل ود بشير حبن، إقليي وطقاب...
أي اعتبري هذه أرضك، ولا تحني الي (قطاب)، وعدوبنا برغم الحر، وبقاء الأبقار، في حظائرها... يحلو عيشها بجانب الأشراف والأرتيقا والحسناب... و البقاء الي جانب حلف ود بشير، ويقصد به هنا (كنتيباي محمود)، يعني الشرف والكرام، والشبع الباذخ... وهكذا تنامي الصوت المعارض لكنتيباي محمود، وأصبحت لهم قيادة وزعامة، وتكونت قوتهم ممن يريدون العودة إلي أرضيهم الواقعة تحت النفوذ الإيطالي... ومن ابرز الشخصيات التي تزعمت تيار المعارضة و العودة، السيد اكد عجيل، والسيد عثمان هداد حسن، والسيد إدريس همد حسن، والسيدة الفضلي حليمة كنتيباي حامد بك، شقيقة كنتيباي محمود، ومعهم 12من الشيوخ والأعيان... والمرأة في مجتمع الحباب، (كجدة، وأم، و زوجة، وآخت، وابنة، وعمة، وخالة) لها دور كبير في مجالس الشوري والصلح والحرب والسلام.. والسيدة حليمة كنتيباي حامد بك، كانت امرأة ذات عقل استراتجي، وفكر تخطيطي كبير، ووالدها كان يستشيرها، ويستأنس برأيها في كثير من الأمور والقضايا.
وفي أيامه الأخيرة وقبيل وفاته، التقاها بجانب شقيقها كنتيباي محمود وأوصاهما... وعند المفاصلة كان للسيدة حليمة كنتيباي حامد، موقفا مخالفا... ومغايرا تماماً... لأخيها، وشقيقها كنتيباي محمود، عندما وقفت الي جانب الصف المعارض له... حيث كان لها دورا بارزاً في تقوية وتعزيز المعارضة ً... واستطاعة أقناع زوجها السيد عثمان هداد، وابن عمها ادريس همد، و12 من الشيوخ والأعيان، لمعارضة قرارات أخيها بشدة... إما تيار المفارقة والقطيعة الكلية مع إيطاليا، كان يقف علي قيادته كنتيباي محمود بنفسه، ومعه (29) من الشيوخ و الأعيان، وهذا التيار يملك قوي عسكرية ضاربة، وأسلحة نارية قاتلة، ولهم أصدقاء ومؤيدين في سواكن...و يستندون علي آيدلوجية الخصومة السياسية البينة مع إيطاليا، باعتبارها عدوة وظالمة ومحتلة لأرض الحباب... وبعد مرثون من المفاوضات، والإجتماعات، بإشراف السلطات البريطانية والإيطالية، والسيد محمد عثمان تاج السر، لإقناع كنتيباي محمود، بالسماح، للذين ابدوا رغبتهم بالعودة إلي النفوذ الإيطالي... وعدم استخدام القوة العسكرية المفرطة ضدهم... وفي النهاية نتيجة التفاوض العسير تفضي إلى انقسام الحباب... ارضا.. وشعبا... وسلطة.
إلى اللقاء... في الجزء القادم