تحرير مساجين سجن عدي خالا 1975 - الحلقة الثالثة
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
كنا مفعمين بالامل والرضى لسير الامور على ما يرام الى ان صدمتنا معلومات تسربت من داخل ادارة السجن. افادت المعلومات
بأن الرئاسة العامة للسجون فى اسمرا طلبت وبصفة مستعجلة، ملفات السجناء السياسيين ولاسيما ذوى الاحكام الكبيرة ليتم نقلهم الى السجون الاثيوبية. لم نشك مطلقا فى صحة تلك الاخبار التى اعتبرناها منطقية جدا اذا ما تم ربطها بتوغل الجبهة الى منطقة سراى حيث يوجد سجن عدى خالا، وبمدى الاهمية والخطورة الامنية التى يشكلها السياسيون فى نظر الحكومة. فورا، ابلغنا سعيد صالح بالمستجدات وطالبناه بالاسراع فى التنفيذ قبل فوات الاوان. خلال ايام، تلقينا ردا يطمئنا فيه سعيد صالح بأن العملية ستنفذ قريبا وفى عز النهار! تنفيذ العملية فى عز النهار.. كان اخر شىء توقعناه ولم يخطر ببال احدنا كلية. كنا نتوقع تنفيذ عملية كماندو ليلية خاطفة، فتصورنا ان النتيجة ستكون تكرارا لمأساة حلحل المشئومة. سارعنا بالرد بهذا المعنى مستشهدين بوجود عدد من المسنين والمرضى الذين لا يقوون على السير طويلا وبالسرعة المطلوبة امثال الشيخ عمر كراى (الكبير - زميل محمد حامد، على بنطاز وحامد عواتى) وكان عمره فى ذلك الوقت يناهز السبعين، وتطرقنا الى النواحى العسكرية مع ان سعيد صالح كان ادرى بها منا. كم كانت تلك الايام عصيبة وكئيبة جدا.
تقبلنا تنفيذ العملية نهارا كامر واقع وتركز نقاشنا حول ما يمكننا القيام به على ضوء التوقيت حيث اصبح الان بيننا وبين البوابة الرئيسية خمسة ابواب بدلا من ستة فيما لو تمت العملية ليلا. كنا فى عنبر رقم 4. استقر رأينا على ان اقصى ما يمكننا القيام به هو منع الحراس الاحتياطيين الذين يتواجدون فى استراحة داخلية من الوصول الى المستودع لاستلام السلاح. انكب تفكيرنا على الطريقة التى تمكنا من الوصول قبلهم الى قبالة الباب الرابع المؤدي الى مخزن الاسلحة والذى لا يمكننا باى حال من الاحوال اجتيازه. بالتالى، انحصر تفكيرنا فى كيفية تجاوز الباب الثاني والثالث وصولا الى ذلك الموقع. بحكم عملنا كمدرسين كان من السهل جدا ان يتواجد اثنان منا خارج الباب الثاني وامام الباب الثالث ذهابا الى المدرسة او ايابا منها. ولكن اثنان فقط لا يستطيعان تجاوز الباب الثالث، وحتى لو تجاوزاه ووصلا الى قبالة الباب الرابع فانهما لا يستطيعان مقاومة ومنع الحراس الاحتياطيين من الوصول الى المستودع حيث يمكن القضاء عليهما بسرعة وسهولة.
لكن اذا تمكن الاثنان من التغلب على الشاويش المناوب اثناء فتحه الباب الثاني لادخالهما الى ساحة العنبر وسارعا بفتح الباب على مصراعيه امام كافة السجناء الذين يتواجدون فى ذلك الوقت فى الساحة فبامكان بعض المندفعين بشكل هستيرى تسلق الباب الثالث، بالرغم من الاسلاك الشائكة، والوصول الى قبالة الباب الرابع حيث يفترض انهم سيواجهون الحراس الاحتياطيين العزل فى معركة متكافئة بالايدى. استبعدنا احتمال توجيه الحراس المسلحين على السور نيران بنادقهم الينا نظرا لتداخلنا مع الحراس الاحتياطيين ولانهم فى ذات الوقت سيتعرضون الى نيران خارجية من الجبهة. قدرنا الفترة الزمنية التى قد تستغرقها هذه العملية ما بين اربعة وخمسة دقائق.
تطبيق تلك الخطة عمليا، كان يتطلب توافر شرطين متزامنين. اولهما ان تنفذ العملية اثناء دوام المدرسة، وثانيهما ان يتواجد الشاويش المناوب فى الساحة الفاصلة بين العنابر فى التوقيت المطلوب بالضبط. كتبنا الى سعيد صالح بهذا التصور لاخذه فى الاعتبار عند تحديده ساعة الصفر واكدنا عليه ضرورة تأمين تواجد الشاويش المناوب الملقب بـ ”ودى سنغال“ فى المكان المحدد وعمل نفس الشىء مع بديله الشاويش سليمان تحسبا لاى طارىء يعترى سبيل الاول.
المصائب لا تاتى فرادى، كما يقال. كأن خبر تنفيذ العملية نهارا لا يكفى لتحطيمنا معنويا، تحددت صيغة الخبرين السابقين بشكل غريب. اصبح الخبر الاول: ”تتقدم الجبهة الى ضواحى عدى خالا - وضمنيا الى سجن عدى خالا“، واصبح الخبر الثانى: ”طلبت الرئاسة العامة للسجون ملفات السياسيين ليتم اعدامهم“. لا غرو فى ذلك الوضع النفسى السىء ان يطغى الخبر الثانى على الخبر الاول وان يؤدى الى تدهور ملحوظ فى معنويات معظم السجناء لقناعتهم بأن العدو الذى لا يكن لهم الا حقدا، وان العدو الذى بقر بطون الحوامل ورمى بالرضع فى البيوت المشتعلة لن يتورع مطلقا عن تصفيتهم. سلم الجميع بأن عملية الاعدام لا محالة واقعة. حتى نحن لم نحاول بجدية التثبت من صحة ذلك الخبر والتطور الذى طرأ عليه لاننا لم نستبعد وقوع مثل تلك المجزرة عاجلا كان ام أجلا. تفتق خيال البعض من السجناء فزعم ان وفد المجلس العسكرى الادارى المؤقت (الدرق) الذى كان قد زار السجن قبل ذلك بفترة للاستطلاع والاستماع الى التماسات ومطالب السياسيين والذى لم يسمع ولو كلمة واحدة تسر خاطره هو الذى رفع التوصيات بالاعدام. اضاف اخرون ان عملية تغيير مدير السجن الارترى باخر اثيوبى منذ نحو شهر لم يكن الا لنية مبيتة وتمهيدا لهذه العملية. اخذت الاشاعات والتحليلات القاتلة تتدفق وتتطور على مدار الساعة وتنتشر كانتشار النار فى الهشيم.
خفف خبر الإعدامات الوشيكة نسبيا من الضغوط النفسية التى كنا نشعر بها من احتمال فشل العملية ومن هول الخسائر المحتمل تكبدها، لان البديل سيكون الاعدام المؤكد. ارسلنا رسالة عاجلة الى سعيد صالح نذكر فيها خبر الإعدامات الوشيكة وشددنا على امكانية تنفيذها فى اية لحظة استباقا مع تقدم الجبهة الذى بات متداولا على نطاق واسع.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.