تحرير مساجين سجن عدي خالا 1975 - الحلقة الرابعة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

رد سعيد صالح مفيدا بأن العملية ستنفذ خلال اسبوع وتحديدا يوم الثلاثاء الموافق الثالث عشر من شهر فبراير من عام 1975 فى تمام

الساعة التاسعة والنصف صباحا وان الشاويش ودى سنغال وبديله سليمان سيتواجدان فى الموقع المحدد وانهما سوف يتعاونان معنا بالشكل المطلوب. تنفسنا الصعداء بهذا التطور الدرامى الذى وفر لنا فرصة المشاركة فى ذلك الحدث التاريخى، مع اننا لم نقتنع باكتفاء الاثنين بالتعاون الشكلي فى مثل تلك اللحظات المصيرية. بناء على تلك المستجدات بدأنا فى تحديد دور كل منا على النحو التالى:

طبقا لبرنامج حصص التدريس اليومى المعتمد، يتوجه كل من ارمياس وقرماى الى المدرسة فى تمام الساعة الثامنة والنصف. يتحركان من المدرسة الى باب العنبر فى تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة حيث سيفتح لهما الشاويش ودى سنغال (او بديله سليمان) فيعاجله قرماي بضربة (جودو) يقع على اثرها ويغمى عليه - حسب الاتفاق - ثم يبادر ارمياس الى انتزاع المفاتيح ويفتح الباب على مصراعيه امام السجناء.

فى تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة يتأكد يعقوب من خلال شباك العنبر المطل على فناء المدرسة من الخلف من خروج قرماي وارمياس من المدرسة حسب الخطة، خشية ان يعرقلهما الحارس المرابط هناك.

فى تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة يقف برهاني بالقرب من الحارس داخل الساحة لسماع وقع اقدام ودي سنغال ومعه قرماي وارمياس، وبمجرد ما يفتح ارمياس الباب يعلن برهاني على السجناء بأن الجبهة تهاجم السجن وعلى الجميع الاستعداد للمعركة والتوجه الى مستودع الاسلحة.

فى تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة اقف انا بجانب الحائط المقابل لبرهاني مباشرة بحيث يكون باب العنبر من حيث سيخرج يعقوب على يساري وشباك حمام المستشفى من حيث سيطل سيوم على يميني وبهذا انقل ايماءات برهاني الى سيوم بحيث يتابع الجميع مدى تقدم العملية.

بمجرد ما يفتح ارمياس الباب ويعلن برهاني خبر الهجوم نكرر جميعنا نفس الاعلان بصوت عال ونندفع من مواقعنا المختلفة ونتسلق جدار الباب الثالث وصولا الى قبالة الباب الرابع حيث من المفترض سنواجه الحراس الاحتياطيين الذين حتما يكونون قد تنبهوا للجلبة الحاصلة وتحركوا نحو المستودع.

اذا فشلت او الغيت المرحلة الاولى من الخطة لاى سبب كان، ينتظر الجميع فى مواقعهم اقتحام الجبهة وفتح باب العنبر ومن ثم تبدأ المرحلة الثانية بالتعاون مع جنود الجبهة على النحو التالى:-

بحكم قرب المستشفى من منطقة الاقتحام، يتولى سيوم ارشاد جنود الجبهة الى عنبر السياسين كما يرشدهم الى مكاتب الادارة والعيادة لنقل الاشياء المهمة.

فور فتح باب العنبر اتوجه انا الى مستودع الاسلحة واتولى عملية توزيع الاسلحة على السجناء المدربين بمن فيهم السجناء الغير سياسيين حسب كشف تم الاتفاق عليه مسبقا خوفا من ان يقع السلاح فى يد عناصر يمكن ان تستغله فى غير محله.

يرشد برهاني وقرماى الجبهة الى المستودع لنقل محتوياته.
يرشد ارمياس ويعقوب الجبهة الى موقع جهاز اللاسلكى والمولد الكهربائي.
يتم التنسيق بين الجميع للتأكد من خلو السجن تماماً من اي سجين.

كتبنا لسعيد صالح بهذه التفاصيل وطلبنا منه تزويدنا بمسدسات ان امكن كما طلبنا منه موافاتنا باسماء المسئولين الذين ننسق معهم بعد الاقتحام فى هذا الشأن. كان ذلك قبل ثلاثة او اربعة ايام قبل العملية.

صدق من قال وقوع البلية خير من انتظارها. بدأنا نعد العد التنازلى بالدقيقة. تملكنا القلق والتوتر والشرود الذهنى ولولا ان الجميع فى العنبر كان مصابا بنفس الداء - مع اختلاف التوقعات - للاحظوا مدى التغيّر الذى طرأ علينا. لم يكن الانتظار للخروج من السجن فحسب بل ومن تفادي الاعدام ايضا!

قبل يومين من يوم التنفيذ تلقينا تأكيدا من سعيد صالح بالالتزام الكامل بالخطة وبساعة الصفر. فى اليوم الموعود - يوم الثلاثاء - فى تمام الساعة الثامنة والنصف صباحا تحرك قرماي وارمياس الى المدرسة بشكل طبيعى. فى الساعة التاسعة وخمسة وعشرين تحرك كل منا الى موقعه المحدد حسب الخطة. دخل يعقوب الى العنبر ليتأكد من خروج قرماى وارمياس من المدرسة، ثم خرج مؤكدا بايماءة متفق عليها انهما خرجا فعلا. أومأت انا لكل من برهانى وسيوم انهما خرجا. بعد لحظة اومأ برهاني انه يسمع وقع اقدام ودي سنغال - انه قادم - فنقلتها بدورى بايماءة مماثلة لحظها سيوم ويعقوب. بعد دقيقة سمعنا قرقعة المفاتيح فى الباب فتأهبنا للانطلاق اذا بنا.. نفاجأ بقرماي وارمياس يدخلان الى الساحة مطاطئي الرأس من شدة الانكسار واقفل ودي سنغال خلفهما الباب!. صعقنا تماماً.

خروجا على الخطة، وجدنا انفسنا مجتمعين حولهما نستفسر عن سبب عدم تنفيذهما للخطة. قالا الشاويش ودى سنغال احضر معه مرافقا وبالتالي رأينا ان اية حركة ضده لن تفيد بقدر ما تنبه بقية الحراس وتكشف الخطة فاستحسنا الدخول وترك الموضوع للجبهة.

لم تتجاوز تعليقاتنا او ملاحظاتنا على ما قالاه تمتمات مبهمة. تذكر احدنا انه لم يتبق من ساعة الصفر سوى ثوان تقريبا فرجع كل منا الى موقعه مشدودا لسماع دوى القذائف والانفجارات. حانت ساعة الصفر ولكن.. لا شيئ يسمع. حاولنا تبرير التاخير بتقدم الساعة التى اعتمدنا عليها. تماسكنا حتى الساعة العاشرة الا خمسة وعشرين ثم عشرة الا عشرين ولا حياة لمن تنادي. فلتت الاعصاب ولاول مرة انتابتنا مخاوف حقيقية.. إذاٌ. ماذا واذا.. تساؤلات سريعة متداخلة ومتناقضة لم نستطع تحديدها ولا الرد عليها ولا حتى كبحها.. هل خاف ودي سنغال ام خان؟، وهل ابلغ الحكومة ام لا ؟، واذا كان كذلك ماذا ستكون ردة فعل الحكومة وماذا سيكون موقف الجبهة؟، الجبهة! آه.. الجبهة ذاتها لماذا لم تهاجم؟، هل لانها غيرت ساعة الصفر ام الغت العملية نهائيا؟، واذا تم التغيير او الالغاء فلماذا لم تبلغنا بها فورا؟، وماذا كانت ستكون النتيجة لو نفذنا خطتنا ضد ودي سنغال الخ؟ يستحيل ان تقدم الجبهة على مثل هذا الاستهتار والاخلال بالقوانين العسكرية البديهية لما يترتب عليه من مخاطر، نعم لا يمكن ان تقدم الجبهة على تغيير ساعة الصفر او تلغي الخطة من جانب واحد. ولكن.. الا يؤكد مضي اكثر من عشرة دقائق على ساعة الصفر فعلا اخلالا، اللهم الا اذا كنا نتعامل مع جهة اخرى غير الجبهة؟. جهة اخرى..! جهة اخرى.. غير الجبهة.. من؟ ..من؟ فى الحقيقة نحن سذج واغبياء.. بل واغبياء جـدا. منطقيا، كيف صدقنا انه من الممكن ان تنفذ الجبهة عملية اقتحام بهذا الحجم وبهذه الخطورة فى عز النهار وعلى مرأى ومسمع من العدو وتحت رحمة سلاح طيرانه حتى نطالبها بالالتزام بساعة الصفر؟. نعم كيف..! اليس عدم تزويدنا بالمسدسات التى طلبناها خير دليل على اننا كنا نتعامل مع غير الجبهة؟.

كيف انطلت علينا فكرة ان سهلي يمكن ان يتحول بين عشية وضحاها من مرشح فى البرلمان الاثيوبي الى وطني مناضل يطلع على ادق اسرار الجبهة؟ هل من المعقول ان يقبل ودي سنغال فى نفس اليوم وبمجرد ان طلب منه، التعاون مع الجبهة وبدون اية علاقة سابقة؟ كيف تغاضينا عن هذه الحقائق…؟ انه الخوف.. قاتله الله. نعم.. لولا الرغبة القاتلة فى الخروج من السجن والهلع الذي اصابنا من خبر الإعدامات لما عمى بصرنا وعميت بصيرتنا الى هذا الحد ولما وقعنا فى هذا الفخ القاتل وكدنا ان نوقع فيه الاخرين وارتكاب جريمة نكراء. نعم.. كفاية مغالطة الواقع وخداع الذات ولابد من الاعتراف بأن العملية برمتها من تدبير المخابرات الاثيوبية ليس الا. وقعنا ضحية تلهفنا وتهورنا. نعم من المؤكد انها مكيدة من مكايد المخابرات الاثيوبية.. طبعا.. طبعا.. بدون شك.

ولكن.. اذا سلمنا فرضا ان الامر كله من تدبير المخابرات الاثيوبية.. اذاٌ، لماذا لم تتركنا ننفذ خطتنا ضد ودي سنغال لتمرر هي بدورها مخططها الرامي الى تصفيتنا جسديا حسب ما افترضنا؟. وكيف تضيع على نفسها فرصة العمر هذه وخصوصا اذا كانت فعلا هي التى خططت لها؟.. كيف! كيف! فى الحقيقة.. على ما يبدو، حتى المخابرات الاثيوبية لا علاقة لها بالعملية. اذا لم تكن العملية من تخطيط الجبهة ولا من تدبير المخابرات.. اذاٌ فمن الذي وراؤها؟ من الذى كلف سهلي، ومن الذى اتصل بوالدة محمد قيتو، ومع من كانت كل تلك الاتصالات؟ مع من؟ بدأنا نتصبب عرقا وكلما امعنا فى التساؤل تزايدت الحيرة وزادت سرعة خفقان القلب حتى كاد ينفطر مع الاحساس بالاختناق. تبلد الذهن وفقدنا القدرة على التركيز.. وساد بيننا صمت مطبق.

فى العاشرة الا ربع ضجت الساحة الفاصلة بين العنابر بأصوات صاخبة: ادخله، اقفل الباب، ارجع، قرقعة المفاتيح ،واصوات المزالج هنا وهناك واردتداد الابواب مع وقع اقدام كثيرة وسريعة تطايرت من جرائها الحصى. لاحظنا ان الحارس على السور فى الجهة اليمنى يتطاول الى الخارج مشدودا ويتنقل بنظره تارة الى يمناه واخرى الى يسراه ممسكا ببندقيته فى حالة استعداد غير عادية. الى ماذا ينظر ذلك الحارس؟ يبدو ان هناك شيئا ما يحدث.. ترى ما هو هذا الشىء؟ ايضا فى الداخل تجري تحركات غير عادية، هل هما نفس الشىء ام شيئان مختلفان، ماذا يجرى هنا وماذا يجرى هناك؟ ..ماذا؟ ..ماذا؟ تمنى المرء لو كان له هدهد ياتيه بالخبر اليقين!

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click