تحرير مساجين سجن عدي خالا 1975 - الحلقة الخامسة

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

برهانى الذى لم يفارق موقعه بالقرب من الحارس بجانب الباب، فقد اعصابه وحاول فتح الكوة - فتحة يتصل منها الشاويش بالحارس - ليرى ما يجرى فى الساحة الفاصلة. الغريب فى الامر، لم ينهره الحارس كدأبه ولم يأبه بفعلته لانه حتى هو - الحارس - لسبب ما، كان اقرب الى تمثال منه الى انسان. اخيرا.. تمكن برهانى من فتح الكوة مع انها لا تفتح الا من الخارج، واذا به يؤشر لنا بيديه ان مسلحين كثيرين يدخلون ويتجهون باتجاه معاكس للبوابة الرئيسية. ثم اضاف واضعا اصابعه الثلاث على خده (ان من بينهم مشلخين). فسرنا المسلحين بالجيش الاثيوبى واعتبرنا ملاحظته تلك بمثابة تعلق الغريق بالقشة.

دخول مسلحين وتوجههم الى ذلك الاتجاه بديهيا كان يعنى ان الحكومة إما فى حالة فرض حصار على العنابر لتنفيذ عملية الاعدإمات كما اشيع، او فى احسن الاحوال، تقوم بتعزيز دفاعاتها لصد هجوم مرتقب. احتمالان لا ثالث لهما. اما ان يخطر فى بالنا فى حالة الانهيار تلك ان الجبهة التى لم تكن لها حتى الامس القريب اية عناصر متعاونة ناهيك عن عناصر بمقدورها تسليم السجن على طبق من ذهب، هى التى تقوم باقتحام ابيض.. كان ذلك الاحتمال بالنسبة لنا يعنى الجنون بعينه.

لعل هذا الوصف كان ينطبق على كافة افراد المجموعة التى كانت على علم بالاتصالات الجارية مع الجبهة. اما بالنسبة للزملاء الاخرين، يمكن القول ان الحقيقة امامهم كانت واحدة وواضحة غنية عن التفكير والتفسير. الا وهى.. ان الجيش الاثيوبى هو الذى يتحرك فى الساحة وانه خلال دقائق سيقوم بتنفيذ ما جاء من اجله - الابادة الجماعية. جلس الغالبية حيث صادف لا يحسون حتى بانفسهم.. كل يسترجع شريط حياته ويترحم على روحه الطاهرة.

فى الساعة العاشرة الا عشرة دقيقة تقريبا سمعنا شخصا لا يظهر من الكوة الا فمه يكرر بأنفعال ”جاءوا.. جاءوا“ ويضرب بكلتا يديه على الباب. لم يعبأ به احد لان الجميع كان يعلم علم اليقين ”انهم“ جاءوا وبالتالى لم يكن هناك ما يستدعى الاستفسار. مضت لحظات قبل ان يتذكر برهانى الذى كان ايضا متسمرا حتى ذلك الوقت بالقرب من الكوة ان سيوم كان فى المستشفى وانه كان مكلفا حسب الخطة بارشاد جنود الجبهة الى عنبرنا وان ذلك الصوت صوته. تقدم الى سيوم مستوضحا ”من الذين جاءوا“ وكرر سيوم بنفس العصبية ”جاءوا.. جاءوا“ وكرر برهانى نفس السؤال وبحدة مماثلة وتكرر الموقف حتى تنبه سيوم وقال ”الجبهة.. الجبهة“. قال برهانى ”اذاٌ.. افتح الباب“ فرد سيوم ”اصيب الشاويش ودى سنغال بالذعر وهرب ومعه المفاتيح والجنود خلفه يلاحقونه داخل السجن“.

عملية استخلاص المفاتيح من ودى سنغال ثم تجربة عشرات المفاتيح المماثلة لتحديد المفتاح الخاص بعنبرنا استغرقت زمنا اتاح لنا فرصة لالتقاط انفاسنا واستعادة توازننا المعنوى ولو بشكل نسبى لاعلان الخبر على بقية السجناء. بالكاد كنا نسمع صوتنا المبحوح ناهيك ان نسمعه الاخرين الذين بلغ ببعضهم الانهيار حدا يستحيل معه الاستماع الى اى شخص او الى اى شىء. لمحت بالقرب منى صالح عبد الله حبيب وصالح اسماعيل فتحدثت اليهما بحماس لاقناعهما بأن الجبهة هى التى احتلت السجن، واننا سنتحرر وما علينا سوى حمل السلاح. وقلت لصالح عبد الله حبيب ”البرين يا ابو عبد الله.. البرين “ كان صالح مدفعجيا قبل اسره. تأملانى برهة وكأننى شيئ غريب واكتفيا بالدخول الى العنبر بدون تعليق. التفت الى اخرين ثم تذكرت انهما لم يخرجا. رأيت صالح عبد الله حبيب يخرج وهو يحمل كل متعلقاته على كتفه. قلت له ”ما هذا يا صالح“ رد بكل برود ”الم تقل اننا سنخرج.“ قلت له ”ولكن لنحمل السلاح وليس لنحمل الفراش.“ اما صالح اسماعيل فقد وجدته فى مرقده وقد شد عليه ملايته. هززته بعنف فقال لى ”غمتيت انسأتو! (ساخذ غفوة).“ لم يكن معقولا على الاطلاق ان تقنع خلال ثوان معدودة شخصا مقتنعا تماما بأن الذى امامه عدو يتهجمه.. بأنه مجرد صديق جاء لانقاذه!

حسب المهمة الموكلة الي، سارعت فور فتح الباب بالتوجه الى مستودع السلاح. عرّفت احد مسئولى الجبهة الذى سبقنى الى هناك على اسمى وطبيعة مهمتى الا اننى وجدته بلا اية معلومات او تعليمات عما تم الاتفاق عليه مع سعيد صالح، ولاحظت انهم شرعوا فعلا فى نقل الاسلحة الى السيارات. عندما علمت من احد الجنود ان هناك سيارات وباصات جاهزة لنقل السجناء، غيرت مهمتى. خرجت من البوابة الرئيسية الى الشارع لاشاهد الاستعدادات القائمة على الطبيعة قبل توجيه السجناء. لم اصدق عينى لما رأيت. كان المنظر اقرب الى حفل استقبال او كرنفال كبير. مصورون وصحفيون اجانب يحملون كاميرات تصوير فوتوغرافية وتلفزيونية وجمع غفير من الشعب رجالا ونساءا واطفالا يحملون خبزا، ماءا و”فشار“ يصفقون ويزغردون، وطوابير مختلفة من المستجدين فى طريقها للانضمام الى الجبهة وخلفهم رتل من السيارات والباصات. ربما لكانت تلك اللحظة من اسعد لحظات حياتى لو لم ارفع بصرى الى السماء خوفا من ان يتحول كل ذلك المشهد العظيم الى ركام وجثث بفعل سلاح طيران العدو. عدت بسرعة الى البوابة وقد بدأ السجناء يتدفقون وفى مقدمتهم محمد حامد (ابو جمل) وكان عملاقا فارع الطول. رأيته منذ ان عبر الباب الثالث مندفعا صوب البوابة الرئيسية حيث كل الابواب كانت مشرعة على مصراعيها. حاولت استيقافه لتوجيهه ليركب احد الباصات ولكن بدون جدوى. لو لم اتفاداه فى اللحظة المناسبة لحطمنى امامه وفى ثوانى اختفى كالطيف. حسب ما علمت فيما بعد، لقد وصل محمد حامد الى همبول، وهى منطقته، قبلنا باسبوع.

محاولة استيقاف وتوجيه السجناء الذين لم يصدقوا انهم على وشك عبور ذلك السور اللعين وفى عز النهار، حتى لو كان لتوجيههم، كانت فكرة مثالية وساذجة للغاية، وبالتالى لم يأبه الكثيرون بالتوجيه وطار بعضهم الى حيث قادته قدماه دون ان يلتفت لا يمينا ولا يسارا وخصوصا من الفوج الاول. تدارك الجنود الموقف بعمل حاجز بشرى فى محيط البوابة الرئيسية من الداخل وتم توجيه من تبقى الى الباصات والسيارات.

تم توزيع الاسلحة على معظم السجناء وتم تعيين مسئول على كل باص وسيارة. صـادف ان كان معـى فى نفس الباص من المجموعة ارمياس، برهانى، قرماى ويعقوب. انتهـت العملية بسلام. قيل لنا فيما بعد ان الحكومة كانت قد قررت فعلا نقل السجناء السياسيين من سجن عدى خالا فى حدود يوم الخميس اى بعد يومين من خروجنا. لم نعرف بالتحديد الجهة التى كنا سننقل اليها ولا الغاية من ذلك.
بينما كنا نتبادل قبلات التهانى، داخل الباصات والسيارات، ولساننا يلهج بالدعوات الصادقة لمن تبقى من الزملاء فى السجون الاخرى بالفرج العاجل، والموكب على وشـك التحرك، انفعل احد الفدائيين فاخذ يطلق الرصاص ابتهاجا بنجاح العملية وتحية للمساجين. تفاعل معه بعض الجنود فى بقية السيارات والباصات الاخرى وشرعوا فى اطلاق الرصاص بكثافة بحيث اصيب الكثير من السجناء بالذعر لاعتقادهم بأنهم يتعرضون لهجوم اثيوبى فقفزوا من الباصات والسيارات وتفرقوا فى التلال المحيطة. اعيدت الغالبية منهم بعد جهد ومطاردة ولم نر للبعض منهم بعذ ذلك اثرا.

كان واضحا ان الحراس اخذوا على حين غرة ولم يكونوا مهيئين لذلك الموقف. كان بعضهم يودع معارفه من الاهالى المحتشدين ويوصى باهلهم خيرا ثم يصعد الى السيارات لينضم الى الجبهة، ثم فجأة كان يغير رأيه وينزل. بعضهم لحق بالسيارات بعدما تحركت وبعضهم نزل منها فى منتصف الطريق!.

لربما كان الشاويش ”ودى حنزى“ الوحيد الذى احتجزه السجناء من بين الحراس. كان لئيما، بذيئا ومستفزا ايضا. كان معنا فى نفس الباص، ولم يتعرض له احد سوى بالتهديد بمحاكمة عسكرية. وهو ايضا لم يستكن ولم يستسلم فقد بادلهم التهديد ولكن بابنته التى قال انها التحقت بالجبهة قبل اسبوعين! ظل لسانه سليطا الى ان وصل الباص الى بلدة لعل اسمها ”عبى عدى“. بالكاد توقف الباص حتى سمعنا صوتا انثويا ناعـما ينادى ”آبوى.. آبوى.. آبوى رأخيم دو!“ واذا بالشاويش ودى حنزى يلتقط الصوت وكأنه كان على موعد معه. انتفض وسط دهشة محتجزيه واقفا ورد بصوت عال ”ابزى الخو ذا..قوالي ابزى..“. نظر الزملاء الى مصدر الصوت فاذا بفتاة حنطية اللون ممشوقة القوام تسر الناظر وتثير الخاطر، فى زى صاعقة وقد علقت على خاصرتها مسدس وخلفها فدائيان يبدوان حارسين اكثر من كونهما زميلين. نزل ”ودى حنزى“ وعانق ابنته بحفاوة.. خده على خدها وعينه تغمز لحامد بئمنت الذى كان اشد محتجزيه! سألت حامد مازحا ”اين اسيرك يا حامد“ فرد قائلا ”َيَي.. مِى بيى إتا بغل أبا بعلا..يالطيف حَزي تو“. كان حامد مقاتلا وقضى فى السجن عشرة اعوام.

بعد فترة استراحة، توزع الموكب على شكل فصائل وتحرك الجميع مشيا على الاقدام وفى اتجاهات مختلفة. فى ذلك الوقت، كان سلاح طيران العدو يمشط المنطقة بحثا عنا ولكنه كان بعيدا جدا.

من المفارقات العجيبة، كنا نحن نجد فى السير الى همبول، بينما عشرات القوافل من السيارات والجمال كانت تتدافع الى جبهات القتال. كانت الرحلة فرصة اكتشفنا فيها عظمة شعبنا.. الفرق الكبير بين شذف العيش الذى كان يعيشه وبين الحفاوة والكرم اللذين كان يستقبلنا بهما. لم نمر بقرية او بلدة والا قدمت لنا اقصى ما تملك وكأننا اول ضيف مر بها او اخر ضيف سيمر بها. بل اكثر من ذلك، كانوا يتسابقون ليبشرونا بتباشير الوحدة والانتصارات التى سمعوها من اذاعة او اجهزة ارسال مع المسئولين لديهم. تحمس البعض ممن كانوا معنا فرجعوا على ادراجهم املا فى دخول اسمرا مع الفاتحين الاوائل!

اخيرا وصلنا الى همبول حيث كانت اللجنة التنفيذية والمجلس الثورى يعقدان اجتماعاتهما استعدادا لعقد المؤتمر التنظيمى. اقيم حفل فنى احتفاءا بالسجناء والمستجدين. افتتح الحفل رئيس اللجنة التنفيذية الزعيم ادريس محمد ادم بكلمة ترحيبية موجزة. سدح الفنان الشعبى يمانى باريا باغنيته الوطنية المؤثرة (ودبات عدى يرأينى آلو) وكاد يجهش بالبكاء فالهب المشاعر والوجدان. ثم حلق عثمان عبد الرحيم برائعته العاطفية (اب كتما مصوع) التى تمازجت كلماتها مع لحنها الراقى فحلق كل من عرف مصوع مع ذكراه او ليلاه.

استحضرت بدورى ذلك البحر الصافى والشاطىء الدافىء الذى طالما شهد منافساتنا فى الصيد والسباحة قبل ان يتحول الى بؤرة صراع دولى منذ ان نصب الامبراطور هيلى سلاسى تمثاله البغيض وهو على صهوة حصان امام بوابة الميناء مباشرة وهو يشير الى البحر بعصاه مؤكدا ملكيته. وتذكرت رجلا قيل ظلما انه كان مجنونا. كان يقف ذلك ”المجنون“ يوميا تحت التمثال ويخاطبه ”والله انت كذاب يا هيلى سلاسى.. انت كذاب.. من اين لك هذا البحر.. من اعطاك هذا البحر.. هذا البحر حقنا.. حقنا نحن..الخ“. كان يتجمهر العقلاء حول التمثال ليسمعوا ما يقوله ”المجنون“ بالنيابة عنهم!

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click