قـراطـيـس مـبـعـثـرة والأمـيـر الـقـاتـل - الحلقة الثانية

بقلم الأستاذ: عبدالفتّاح ودّ الخليفة - كاتب إرتري، المملكة المتحدة

صورة المعلّمة الشهيدة (ساب قدى) وهى تتسلّم شهادة إكمال الثانوية فى (أسمرا)

من الأمير القاتل (أسرات كاسا هيلو) حاكم إرتريا حينها ثم صورة أخرى وهى تستلم شهادة تخرج من جامعة (أديس أببا) من يدىّ الملك الجائر (هيلى سلاسى الأول) إستوقفتنى صورة الأمير القاتل وإرتعش جسدى قليلا ومرّت على ذهنى كلّ الخواطر التى لها علاقة بتأريخه الإجرامى فمن منّا فى سنّى وجيلى لا يعرف الرّجل وأفعاله ؟؟

فقد شبعنا خوفا ورعبا من قصص الأمهات عن جرائمه وحياته القذرة وأحاديثه والمخيفة هذا سبب واحد...!!!

أمّا السّبب الثانى كان.. وأنا صبىّ فى العشرة الأولى من عمر طفولتى وفى مدينتى (كرن) قابلته وأنا أحمل علما إثيوبيا صغيرا مثبت على عود خشبى فى حجم مسطرة وأجبرتُ صبيّا آخر من حيّى وسنّى ليرافقنى ففعل لأنّه كان الوحيد الذى حافظ على العلم مثلى ،حيث صرف لنا هذا العلم فى يوم سابق، فى المدرسة ونحن فى الصفّ الثانى فى الأوّليّة، لمقابلة ملك إثيوبيا (هيلا سلاسى الأوّل) قابلت (الأميرالقاتل) أمام منزل (السّيد عبدالله الميرغنى) وإستلمت منه برّا إثيوبيا واحدا لى وآخر لزميلى.. كان قد جاء لزيارة (السيّد الميرغنى) فى داره عندما هرب عمّه الملك خوفا إلى (أسمرا) بعد أن كان فى زيارة قصيرة بمعيّته للمدينة.

صهر الملك (الرّاس - أسرات كاسا هيلو) العربيد كان هو حاكم إرتريا عوضا عن ممثلى الملك وأولهم المجرم والمتعجرف والمتعالى (أندا لكاشو ماساى) ونائبه (خائن وطن الأم) الإرترى الأصل (بيتودّد أسفها ولدى مكئيل).. جاء هذا الرّجل إلى إرتريا بعد أن ضمّت (إثيوبيا) إرتريا إليها قهرا فكان لا بد من تغيير إسم الوظيفة من (مندوب الملك) أو ممثله إلى (حاكم إقليم) لأنّ إرتريا أصبحت المقاطعة رقم أربعة عشر بعد الضمّ الظالم !!!.

الرّأس (أسرات) هو الإبن الرّابع للرأس (كاسا هايلو دارقى) زعيم فرع بيت النّبلاء الأمحرا فى محافظة (سلولو) بالقرب من (دبر ليبانوس) (1) التى كانت تنازع بقيّة عشائر (أمحرا - شوا و(أمحرا - قندر) السّلطة ويقال أنّ الرّأس كاسا هايلو دارقى) كان الأولى والأحقّ بالمُـلك أكثر من إبن عمّه (رأس تفرّى) - هيلى سلاسى لاحقا لأنّ ملك ملوك إثيوبيا (منيليك) هو عمّه مباشرة !!!

كان الرّأس (كاسا هيلوا) أحد قوّاد الجيش الإثيوبى ضدّ الطليان فى الثلاثينيات (معركة تامبين الأولى والثانية فى منطقة جنوب تقراى) وعندما هزم الأثيوبيون فرّ الملك وفرّ الأمير (كاسا هيلو) وقضى معظم سنين منفاه يتعبّد فى مدينة (القدس) فى فلسطين ،وترك أبناؤه الكبار الثلاث فى قوات المقاومة ليقبض عليهم الطليان ويكون مصيرهم الإعدام !!!

الأمير (أسرات) كان والده (الرّأس كاسا) أحد الوزراء فى أواخر عهد الإمبراطور (منيليك - الثانى) شهد له بالحكمة والتّروّى والهدوء، ولكن لأنّ النار تلد الرّماد كان الإبن (أسرات) غير أبيه، فكان سكيرا عربيدا، ومجرما أعمى لا يستطيع رؤية الحقيقة !!!

تلقّى الأمير (أسرات) تعليمه الجامعى خارج إثيوبيا مثله مثل (أكليلو هبتى ولد) منافس (أسرات) وخريج القانون فى إحدى جامعات (فرنسا) بصحبة الوزير الإرترى الأصل ومن مواليد (عدّى قيح) (تأزاز ولدى قرقيس).

الرّأس (أسرات) كان حاكم (شوا) و قبلها (أروسى) (2) قبل تعيينه عام 1964 نائبا للملك فى (إرتريا) وفى كلّ سنين عمره كان منافسه القوّى وندّه فى كلّ شيئ زميل دراسته ووزير خاجية إثيوبيا من العام (1947 إلى العام 1958) ثمّ رئيس وزراءها من العم 1961 وحتّى مقتله فى العام 1974 وهو أحد مهندسىّ قصّة ضم إرتريا إلى المملكة الحبشية الوزير (أكليلو هبت ولد).

كان هناك صراع بين الأميرين (أسرات وأكليلو) أخذ طابعا رأسيّا وأفقيّا حين تعدّى الصراع الحواشى إلى الكنيسة وقسم الحاشية المالكة إلى فصيل محافظ يقوده (أسرات كاسا هيلو) وجناح الإصلاحيين الذى يقوده (أكليلو هبت ولد) ووجد طرفى النّزاع أزرعا وتبعا حتّى فى النظام الكنسى العريق فى إثيوبيا.

ولا يستبعد على رأى بعض المحلّلين، إنّ المنافس الأخطر ورئيس الوزراء (أكليلو هبت ولد) بما كانت له من مكانة عند الملك هو الذى أشار بإرسال (الرّأس أسرات) إلى (إرتريا) إبعادا له من مركز الحكم وليحترق هناك فى البركان الذّى إشتعل لمقاومة الضمّ القسرى المتآمر، وصل (الأمير القاتل) إلى إرتريا فى وقت كان قد تجرّأ وتسلّل الثوار إلى داخل مطار (سمبل) فأحرقوا طائرات وواجه بواسل إرتريا جيشا إثيوبيا عرمرما مسلّحا بأعتى الأسلحة بستّين مؤمن مقاتل فى (تقوروبا).

وعلى جناح السرعة أنشأ (الأمير) قوات الكماندوس بمدرّبين (إسرائليين) كان مركزها فى مدينة (دقّى أمحرى) على بعد 30 كلم من العاصمة (أسمرا) وأنشأ جيشا آخر من الـ (باندا) أو ما (يسمّى نشّى لباس) (3) وفى أغلبهم كانوا من الفلاحيين أبناء (كبسا) المسيحيين.

وكوّن جيوشا من الجواسيس والعملاء والمخابرات وإستعان فى كلّ شيئ بالخبراء الإسرائليين، زاعما ومروّجا بأنّ الثورة والثوار هم حفنة من المارقين تدعمهم بعض الأنظمة العربية بنية السيطرة على البحر الأحمر وجعله بحيرة عربيّة مائة بالمائة، وجعل المعركة إرترية - إرترية إلى حين، حيث أخاف سكّان المرتفعات من الإنصياع إلى الثوّار لأنّ حينها سوف يضيع دينهم ويطمس تراثهم الحبشى - وكأن العرق الحبشى والدين الإسلامى ضدّان لا يلتقيان أو فى خصام.. فإستبسل هؤلاء للدّفاع المزعوم عن (مسيحيّة المرتفعات وتراثها).

وأرسل هذا الأمير القاتل الجواسيس إلى كلّ ضاحية وقرية فى إرتريا لتسميم الآبار وقتل الثوار والثورة وأفراد الشّعب الإرترى المسالم وشجّع الشفتا (قطّاع الطّرق) لسلب بهائم المواطنين الآمنين فى (بركا) و(القاش) و(سيتيت ) و(مرب) على الحدود مع (تقراى) وأصدر هو وملكه العفو عن كلّ (قاطع طريق) حتّى وإن كان قاتلا وسارقا بشرط أن ينضمّ إلى الـ (كماندوس) أو (نشّى لباس) أو الـ (باندا) وكلّ ما نهبه يكون له ولا يحاسبه فيه وعليه أحد فإنضم الكثيرون إلى جيشه لمحاربة (جبهة تحرير إرتريا).

وفى العام 1967 أمر بإحراق الكثير من قرى وبلدات (القاش) و(بركا) (وسنحيت) وقرى شرق (اكّلوقوزاى) و(هزمو) وقرى (قمهوت) و(عايلت) و(عسوس) و(إمبيرمى) فى (سمهر) وفى العام 1968 إستغلّ المهرجان الإرترى السّنوى فى أسمرا (أيكسبو) لتجنيد ضعاف النّفوس ضدّ الثورة بحفنة ملاليم، وكانت تلك أكبر عمليّة تآمر تواجه الثورة الإرترية.

ومع نهاية الستينيات كان قد عجز وسئم حسم المواجهة مع الثّوار، حاول كلّ السبل وكلّ الطّرق طوال الستة سنوات التى قضاها فى حكم البلاد.. فقد نمت وتعاظمت قوة الثورة والثوار وسيطرت على معظم أجزء الرّيف وإلتحم الشعب بالثورة، وخرج المسيحى الإرترى من عباءة إثيوبيا ليلتحق بأخيه المسلم فى الثورة، وتتابعت المعارك والإنتصارات فى (عنسبا) و(دمبلاس) (محلاب) (أدربا) وإشتعل القاش و(بركا) معقل الثورة لهبا و نارا محرقة على الـ(طورسراويت) والـ (الكماندوس) والـ(الباندا) و(قبرى قال ) (4).

الهوامش:

1. (سلولو) هى مخافظة فى إقليم (شوا) الأمحراوى.

2. أروسى هو أقليم من أقاليم إثيوبيا الـ 13 ويقع جنوب (شوا).

3. (باندا) هم (فلاّحوا القرى) مليشيا تابعة لإثيوبيا حملوا السّلاح من قبل إثيوبيا لحماية قراهم وخاصة فى المرتفعات والقاش.. وكان أيضا آخرون متجولون سمّوهم (نشّى لباس) تمييزا لهم عن مليشيا القرى المسلحة، كانوا يتميزون بلبسهم الأخضر (نشْ) تعنى بالأمحرا (أخضر) والكلمة على بعضها تعنى ذوى اللبس الأخضر.

4. العقيد (قبرى قال) هو إرترى من (حماسين) خدم و(عَبَدَ) الملك طوال عمره كان من ضمن (قوات المقاومة) الإثيوبية عند محاربة الطليان وعندما دخل الملك وخرج الطليان رقّى إلى عقيد وأصبح حاكم القاش فكان أكثر حاكما دمويّا و جائرا يعرفه القاش وإرتريا عامة فى عهد الملك البائد.

نواصل... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة

Top
X

Right Click

No Right Click