الشعبية والحزب وصناعة الديكتاتور
بقلم المناضل الأستاذ: أحمد صالح القيسي - قيادي سابق بجبهة الشعبية لتحرير إرتريا
برزت في الاونة الاخيرة ظاهرة غريبة قليلا، وهي ظاهرة الحديث عن الحزب السري الذي كان يقود الجبهة الشعبية ودوره في كل
الذى حدث ويحدث.
هناك اصدار جديد لكتاب حول الحزب قام بتأليفه أحد كوادر الجبهة الشعبية. وشخصيا لم أقرأ الكتاب. ولست مهتما كثيرا به لأن لدي قناعة شبه تامة. بأنه يستحيل أن يتناول اي شخص كان تاريخ هذا الحزب بعمق وشمولية مطلقة بااستثناء قيادته التاريخية من المؤسسين أو الذين أعلنو وفاته. وذلك لسبب بسيط جدا، هى الحالة السرية والكتمان التى طغت على هذاالحزب. بحيث ان اي كادر على أي مستوى لايمكن أن يُلم بكل شئ إلا على مستوى المحيط الذي يعمل فيه. أما ما ينقل من هنا وهناك، يظلفي اطار معلومات متضاربة تحمل من الاشاعات اكثر من الحقائق.
وللأمانة التاريخية فإن هذا الحزب لعب دوراً محورياً ومركزياً في الحركة التحررية والثورية. وفي بلورة واقع كان قادراً على خلق قوة قادرة على مواجهة العدو الاثيوبي، في مرحلة دقيقة من عمر الثورة.
وفي الحفاظ على توازنات القوى المؤسسة للجبهة الشعبية. وان هذا الحزب قدم الالاف من أعضائه شهداء فى كل مراحل الصراع
وكان أعضائه الحقيقين نموذجاً يصعب تكراره بسهولة. نموذجٌ انساني واخلاقي... وتضحية. ولكن الحزب شأنه شأن تنظيم الجبهة الشعبية شأن الشعب الارتري كان ضحية. وخدع كما خدع الاخرون. بل الأسوء من ذلك ان التصفية والاغتيالات… والاعتقالات ركزت علي من تبقى من الرموز وكوادر هذا الحزب. وهذا موضوع آخر سوف نتحدث عنه بتفصيل أعمق في مناسبة اخرى.
السؤال المركزي والمهم، في موضوعنا اليوم، إن كنا نريد تلمس الحقيقة : يجب أن نبدأ بتعريف ماهي الجبهة الشعبية!!و ليس ما هو هذا الحزب السري ؟
ان الاجابة علي هذا السؤال المركزي قد يقود الى شئ ما من الحقيقة الضائعة فاالجبهة الشعبية أو قوات التحرير الشعبية هي عبارة عن تحالف بين أبناء المرتفعات التجرينية وأبناء البحر الاحمر مع خليط من أبناء الساهو والعفر.
وكلا القوتين انفصلاتا عن جبهة التحرير الارترية لأسباب لا حصر لها. فالأخوة المسيحيين تعرضوا لنوع من التصفية وعدم الثقة من قبل القوى التى كانت مهيمنة علىجبهة التحرير حينها. اما ابناء البحر الاحمر فقد تعرضوا الي الاعتقال والاقصاء ولو أن حقيقة الأمر أن القيادة العامة لجبهة التحرير كانت تستهدف بالدرجة الاولى المرحوم عثمان صالح سبي الذي كانالمهيمن على العمل السياس في الخارج.
والامكانات التى تأتي من هذه المصادر. اما الشخص الاخر فهو الاخ محمد على عمرو وهو القائد الميداني ذو الثاثير الفاعل على أبناء الشرق.
هاتين القوتين هما العصب والعمود الفقري لما سمي لاحقاً الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا. وبين هاتين القوتين كانت هناك مجموعات تعد على أصابع اليد تتطلع الى توحيد أداة الثورة ضمن مفاهيم وطنية.
وتسعى الى القضاء على مفاهيم ورموز المرحلة السابقة. وللتاريخ فقد لعب الاخ محمد علي عمرو دوراً رائداً في إفساح المجال لهذه العناصر كي يكون لها دورا فاعلا في اطار التجمع الذي كان تحت سيطرته. ومن الوهلة الاولى بدأت هذه المجموعات في تأكيد وجودها عبر تأسيس مدرسة للكادر. وبدأت في تأطير الشباب الحاصل على مستوى معين من التعليمأوالاخرين الذين يجدون فيهم ميلا
أو استعداداً لقبول التوجهات الوطنيةواليسارية.
أما الجانب الاخر فقد كان لغزاً محيراً لا يعرف عنه إلا شخص واحد، وهو الحلقة في الاتصال مع الرئيس اسياس افورقي. وقد لعبت العلاقات الخاصة بين أسياس أفورقي ورمضان محمد نور دورا كبيرا في التقارب بين الجانبين. ومع تراكم العقد التى مروا بها في تجربتهم في جبهة التحرير الارترية، فقد كانت علاقة الجانبين فيها من النفور أكثر مما يمكن أن يتفقوا عليه.
ومن جانب أبناء البحر الاحمر. وبالذات القوى الديمقراطية الصغيرة التى بدأ أن يكون لها شأن. كانت ترىفي هذا التحالف عامل قوة ورادع لجبهة التحرير الارترية، وأرضية لتوسيع قاعدة القوى الديمقراطية. بينما القوى الاخرى... الجانب الثاني، كانت مهوسة ببناء قوتها الذاتية كمرحلة اولية.
ومدخلها في بناء هذه القوة هو الجانب الآخرالمدعوم من قبل عثمان صالح سبي، والذي بيده المال والسلاح. ضمن هذا المناخ تأسس الحزب الثوري ولم يكن أي تمثيل للجانب الثاني باستثناء أسياس أفورقي. اما وجود شخصين من التجرينيه وهما مسفن حقوس والشهيد معشو انبايي في عملية التأسيس، فهذا يعود الىانهم محسوبين علي الجانب الأول اذ كان كلا الشخصين اعضاء قيادة قوات التحرير الشعبية سيدوحا عيلا.
عند التأسيس كانت هناك نقاط ثلاث اساسية:-
اولا: المرور بمرحلة بناء الثقة بين الجانبين من خلال اللقاءات المنتظمة بين الكوادر.
ثانيا: القيام بتوفير السلاح والذخيرة وباقي الاحتياجات للجانب الثاني.
ثالثا: ان تكون قيادة الحزب المنبثقة من الاجتماع هي التى توجه كلا الجانبين.
وهكذا كان الا مسالة اللقاء بين الكوادر فقد تعنت أسياس أفورقيحول هذه اللقاءت بعدها بزمن طويل بررها الشهيد ابراهيم عافة، بأننا لم نكن نعرف معاناة الرجل مع جماعته والواقع انني لم أقتنع بهذه الاجابة وحتى اللحظة أما موضوع السلاح والذخيرة، فقد كان يتوقف على مدى التقارب بين الجانبين والإ فلا سلاح. وهكذا مات نصف الحزب، خاصة بعد ان غادرت القيادات التجرنية في الجانب الاول الى الجانب الثاني. وهكذا ساءت العلاقة بين الجانبين.
في الافق كانت هناك نذور توحي بتغيرات كبيرة علي المشهد كله استعدادت جبهة التحرير لعقد مؤتمرها الوطني، والذي قد تتخذ قرارا بالتصفية إن لم تقبل بالانخراط الى التنظيم الام؟
تنامي قوة الجانب الثاني التجرينيةاذ بدأت اعداد ضخمة بالالتحاق بهذه القوة.
بوادر أزمة سياسية بدأت تتبلور في اثيوبيا.
وهكذا استمرت القطيعة، ولكن الجانب الأول استمر بصورة حثيثة. وبقيادة اصحاب فكرة الحزب الثوري، وعلى رأسهم المناضل الشهيد أبو بكر محمد حسن في جمع شمل الشتات ضمن رؤية جديدة. فجرت محاولات لمد الجسور مع تجمع اخر من أبناء الساحل، كانت يوما ما قوة مؤسسة لقوات التحرير الشعبية وعرفت بجماعة أبو طيارة وتم ضمها عبرمؤتمر كما تم التخلص من الوجوه التقليدية في القيادة.
واصل هذا الطرف العمل بروح الحزب ولكن دون حزب اما الجانب الثاني فعقد مؤتمره وانتخب قيادة جديدة، وبدا خطوته الثانية بتجاوز حلفائه والذهاب الى بيروت للقاء عثمان سبي. بينما الطرف الاخر حمل مقررات مؤتمره بتحجيم الجهاز السياسي وسافر ايضا الي بيروت.
وهكذا اصبح مؤسسئ الحزب في حضرة المرحوم عثمان صالح سبي.
اما مشروع الحزب ومنطلقاته السياسية والفكرية فقد وضعت في الثلاجة. وهنا يجب ان نتنبه، ان هذا الحزب كان وليد الحاجة لمعالجات الازمات، وليس قناعة تمتع بها بعض المؤسسين الاوئل في بيروت توصل المجتمعون الى صيغة ان يعملوا علي توحيد الجانبين ومن سخريات القدر أن الجهة الاكثر الحاحا للوحدة كانت الجهاز السياسي للمرحوم عثمان صالح سبي. وقد يكون مرد ذلك هو الاستشعار المبكر من الحرب التى كانت تعدها قيادة جبهة التحرير الارترية.
لم يمر وقتا طويلا حتي اندلعت الحرب الاهلية. فقد كانت استراتيجية جبهة التحرير الارترية تقوم على تصفية الجانب الأول في البداية ثم معالجة قضية الجانب الثاني مع اشتداد عمليات القتال انخرط الجانب الثاني الى جانب الاول واصبح الاحتكاك بينهما مباشرا، وتعمقت المعرفة بينهما. وازالت معاناة الحرب واهوالها الكثير من الاشياء العالقة واصبحت القضية مسالة وجود نكون او لا نكون.
ولذا فان السبب الاول والرئسي في توحيد الجانبين يعود الفضل فيه إلىجبهة التحرير الارترية وحربها الاهلية. واستمرت المعارك حتى معركة قرقر السودان والتى كانت فاصلة باستحالة التصفية. وصادف ان دخلت قوات الشعبية في معارك مع الجيش الاثيوبي في منطقة الساحل ولمدة ستة عشر يوما.
اضطرت فيها قوات العدو على الانسحاب عندها تاكد بصورة قاطعة ببروز قوة لا يستهان بها قوامها الاساسي من الناحية العددية ابناء المرتفعات التجرينية وتم دمج القوات، واختيرت قيادة واحدة يرأسها إسياس أفورقي لم يدم استقرار هذا التشكيل طويلاً فقد بدات تحركات مجموعة من المثقفين من ابناء التجرينية بسحب البساط من القيادة ومن تشكيلة التنظيم ومن الأسس والمنطلقات السياسية
والفكرية التى يقوم عليها ورفضا للقيادة وتحديداً عناصر محددة منها اولهم اسياس افورقي، واتهم حينها بأنه ديكتاتور عرفت الحركة بحركة ثلاثة وسبعين أو المنكع والتى تعني الخفافيش.
حركة المنكع، هي حركة خاصة باابناء قومية التجرنية. ولا علاقة لها من قريب اوبعيد بالتجمعات العرقية الاخرى. ويعود السبب انها كانت تعبيرا عن البنية الاجتماعية المتطورة وعيا ودينامكية وهكذا اصبحت الحركة معبرة عن الفئات الاكثر تقدما وتطورا من المثقفين والطلاب وذلك في بدية انطلاقها. اما المناؤئن لها من ابناء التجرينيه فكانوا الاكثر تخلفا وقلة في الوعي ومعظمها من اصول فلاحية أو على شاكلتها المشكلة والقضية المحزنة في هؤلاء والتى ادت الى نهاية حركتهم. ان البداية لم تكن تنسجم نهائيا مع سارت عليه الامور والنهايات... ويعود السبب انهم غفلوا الواقع وحقائقه والتجربة واشكالياتها واهمالهم الى العنصر المسلم المكون معهم لهذا التنظيم اذ كان حكمهم على هؤلا انهم ليسو افضل حالا من المكون المتخلف للتجرينية. وهكذا ودون وعي منهم توسعت الجبهة المناؤئة لهم.
وحينها ادرك البعض منهم المنزلق الذى سقطوا فيه فبدوأ تحالف مناطقي علي اساس ان معظمهم من ابناء اكلي قوزاي ونتيجة لذلك انسحب البعض من ابناء حماسين المثقفين منهم وهنا يكمن ذكاء اسياس افورقي فقد اعتمد منذ البداية على العناصر الاسلامية وتحديدا تلك التى كونت معه الحزب الطليعي يوما ما.. والتى خذلها يوما ما ايضا. واظهر نفسه وسوقها على اساس أنه ضد الكل ضد حركة المنكع من ناحية وضد المناؤئين لها. لاانهم جميعا اما خطرا على الحركة الوطنية أو عناصر مناطقية دينية متعصبة وهكذاميز السيد اسياس نفسه عن الكل ووجد من المتعاطفين الكثير ولا سيما الجانب الاول كله... فهو الشيطان الذى يعرفونه، ولا يجب المراهنة على الملائكة المجهولين.
وهكذا فشلت حركة ثلاثة وسبعون، ولكنها تركت اثار وندوب امتدت لسنوات طويلة واستخلصت منها عبر ودروس.
اولها: و اهمها تاكد بشكل قاطع للمنتصريين انه لايمكن قيادة هذا التنظيم، والذى توسعت قاعدته بصورة كبيرة جدا بدء من عام ثلاثة وسبعين. كنتيجة لسقوط نظام هيلي سلاسي ومجيء نظام ذات صبغة يسارية الا بوحدة الاداة الثورية للقوى الديمقراطية وكان ذلك اعلانا بااحياء الحزب الطليعي ودوره.
ثانيا: ادت الاضطرابات السياسية.. وسقوط هيلى سلاسي، ومجئ ضباط الجيش ممن يحملون افكار ذات صبغة سياسية يسارية، الى اهتزاز الطبقة الاقطاعية المسيحية ذات الولا الاثيوبي. والى جانبها طبقة رجال الدين الكاهنوتية. مما ادى الى نزوح واسع لقومية التجرينية الىصانع الثورة.
نستخلص من هذا السرد ولو انه قصير ومغتضب ثلاثة نقاط اساسية، في تاريخ الجبهة الشعبية وكيف صنعت طاغيتها وديكتاتورها.
هذه الحقائق الثلاثة هى اللبنة الاولى والاساس الذى قامت عليه الثلاثية التي صنعت تاريخنا: الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا الحزب الثوري السري طغيان عنصر التجرنية علي التنظيم كلها مجتمعة صنعت الديكتاتور اسياس افورقي.
الحقيقة الاولى الحرب الاهلية التى قادتها جبهة التحرير الارترية هي السبب الاول والاساسي في وحدة الجانب الاول والجانب الثاني. المؤسسين للجبهة الشعبية لتحرير ارترياء. والا لا اخدت زمنا طويلا هذا ان حدثت الحقيقة الثانية : حركة ثلاثة وسبعين المنكع في الشعبية وضرورة ضبط التوازنات للقوى المكونة للشعبية هي الاساس الذي ادى الى اعادة خلق للحزب السري وليس لقناعة راسخة لدى معظم المؤسسين.
الحقيقة الثالثة: الانقلاب الذي جرى على نظام هيلي سلاسى. ومجئ نظام ذات توجه يساري، واستهداف الاقطاعية الاثيوبية والارترية. وحملات التصفية الذى قادها النظام الجديد ادى الى نزوح كبير لسكان المدن وتحديدا قومية التجرينية الى الثورة. وتحديدا الى الجبهة الشعبية. كما ساعدت الحملة التى قادتها جبهة التحرير ومجموعات عثمان سبي ضد الجبهة الشعبية الى عزوف المسلمون من الانخراط فيها. مما جعل الشعبية هى المستقطب الاول للتيجرينية.
هذه الثلاثية هى اللبنة الاولى التى صنعت الطاغية اما ماعداها فهى تفاصيل قاموا بها حملت المباخر والانتهازيين والمنافقين حتى كتابة هذه السطور.