الموت يغيب السفير الإريتري السابق بباريس نافع حسن كردي
بقلم الإعلامي الأستاذ: محمد طه توكل - صحفي ومدير قناة الجزيرة بإثيوبيا
هي حياة قصيرة مهما امتد العُمر بنا، ولكنها مثل إستراحة محارب يغفو، ولا ينام إلا ب(عين واحدة)،
لتظل الأخرى صاحية ترقب شروق شمس جديد في درب النضال الوطني الطويل، فيما تظل تلك العين الغافية تحلم بأن يصبح الوطن بستاناً لزهور متفتحة، ولآمال بوطن يسع الجميع، يحلق في الآفاق ويعلو بسماوات الحرية والعدالة والديمقراطية.
وأخيرا ترجل السفير نافع حسن كردي، صوت الثورة، حيث تعود جذور الراحل إلى أسرة اريترية عريقة، لينضم الراحل الى الثوار والثورة في وقت مبكر ملتحقا بصفوف جبهة التحرير الإريترية، ثم الى قوات التحرير الشعبية قبل أن يكون جزءا من الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا حتى اصبح من أبرز كوادرها وقادتها متدرجا في العمل القيادي حتى سار سفير لبلاده في فرنسا بعد التحرير.
وبرحيل السفير نافع كردي في غرة شهر رمضان المبارك بمدينة جدة السعودية، ينطفئ نجما سيظل (تاريخاً) هاماً لرجل اعطى وطنه وشعبه أغلى (زهرات عمره)، وما تراجع ولا انتكس في مسيرة حياته حين كان يمثل أحد أصوات الثورة الاريترية في بداية النضال من أجل التحرير الوطني، وقاد المعركة الإعلامية بكل جسارة واقتدار وذكاء.
مثل الراحل المقيم نافع كردي، بلده سفيرا في عاصمة النور (باريس) واستطاع أن يفتتح اول مكتب لقوات التحرير الشعبية في أوربا عام 1972 وكان مقره باريس، وتجلت نجاحاته ومستوى تميز الراحل في أنه كان مقرباَ وصديقاً شخصيا للرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، وناشطا بارزا في الأحزاب اليسارية الأوربية، وويعود له الفضل في إقناعه الفرنسيين بدعم الثوار الارتريين في ثمانينيات القرن الماضي حين تدخل الاتحاد السوفيتي لقمع الثورة مستخدمة السلاح الكيميائي ضد الثوار، فقدمت فرنسا للثوار الإريترييين الأقنعة الواقية من ذلك السلاح الفتاك، بحسب ما كتب عن الراحل ونقل عنه مساعده عمر محمود الذي رافقه في مسيرته الطويلة بباريس.
ليكون قرار تعيينه في منصب سفير إريتريا بفرنسا الحدث الأبرز آنذاك، لذلك المناضل الفذ الذي ابلى في منصبه بلاء حسنا، كما عرف الراحل كردي بقربه الي القائد الشهيد عثمان صالح سبي، متماهيا ومتوافقا مع أطروحاته ورؤيته في تحرير الوطن ودعم ثورته.
واستطاع الراحل كردي، بعلاقاته الشخصية التي كونها في بلدان الاغتراب متنقلا بين باريس التي درس بها وتزوج منها وعمل بها، وبيروت التي كون بها صداقاته مع أبرز الصحفيين والإعلاميين آنذاك، مستغلا صفحات الصحف والمجلات التي تصدر في باريس وبيروت مثل مجلة (الحوادث) التي أسسها الصحفي سليم اللوزي، ومجلة (اليوم السابع) التي كان يرأس تحريرها بلال الحسن، داعما القضية الارترية بكتابة مقالات راتبة فيها مستعرضا مراحل ونضالات الجيل الأول من الثوار الإريتريين.
واصل نافع جهده وعزمه بجد وإخلاص رغم ثقل تبعات المسئولية، مدافعاً عن قضايا شعبه ووطنه الذي نذر لهما حياته، وصب الكثير من الجهد والعرق والدموع، فما أصابه رهق، ولا تراجع عن نضاله الذي بدأه في سهول إريتريا، ووهاد جبالها، وديانها المخضرة دوما، واضعاً نصب عينيه شعار الثورة حين اندلعت (نموت... ويبقى الوطن).
عرفت المناضل عن قرب في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ووجدته عالما ومثقفا وبارعا في وظيفته، كنت قد سمعت الكثير عن نضاله بالكلمة والفكر والرأئ، وعندما ألتقيته وجدت كل تلك المعاني تتجسد في شخصيته كرجل محب لوطنه قادر على تقديم أفضل وأجمل وأروع من أجل عيون شعبه ووطنه.
وبعد عقود من النضال والكفاح لشعبه ووطنه كدبلوماسي ناجح يجيد العديد من اللغات على رأسها الفرنسية والعربية والإنجليزية، وبعد أكمل فترة عمله ومسئوليات الوظيفة العامة، إستقر به المقام بأرض الحرمين الشريفين (السعودية)، مواصلا عمله في قضايا وطنه وشعبه، ومشكلا حضورا بفكره وجهده وعطائه وسط أبناء وطنه، منضما الى الجالية الإريترية في السعودية والتي تعد من أكبر الجاليات الإريترية ويعود لها الفضل في دعمها للثورة الإريترية أيام النضال، وأصبح أحد اعضائها ضمن المناضلين الثائرين من أجل تحقيق أحلامهم وتطلعاتهم بوطن يبني بأيديهم، وعرقهم وجهدهم كما فعل اسلافهم ممن رفعوا راية النضال طويلاً، قدموا أرواحهم ودمائهم وعرقهم فداءً لهذا الوطن الغالي!.
رحم الله تعالى الأخ العزيز المناضل نافع كردي، بقدر عطائه وبذله، وانزله في جنات الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. ومد الله في عمر شقيقه المناضل مثله سليم حسن كردي الذي يعد من الرعيل الاول وكبار المناضلين والذي مثل الثورة في عدة عواصم عربية، وبذل الكثير من أجل وطنه وشعبه.
بارك الله في ذريته وأبنائه، واحبابه وأصدقائه وصبرهم على رحيله وفقده المفجع، ولكنا لا نقول الا ما يرضي الله تعالى (إنا لله وإنا إليه راجعون)