لقاء مع القامة العملاق الانيق الفنان العريق البليغ الفصيح ابراهيم محمد علي قورت - الجزء الأول

بقلم الصحفى الأستاذ: قاسم أحمد

ولد عملاق الفن الغنائي الارتري في منطقة دماس عام 1955، وتبعد من العاصمة اسمرا

ما بين خمسين وستين كيلومترا، ومن ثم انتقل الى لؤلؤة البحر الاحمر مدينة مصوع بحكم ابيه كان يعمل في تلك الفترة في محطات القطار، وبدأ دراسته الاكاديمية في مدرسة الشيخ الامين ودرس فيها الابتدائية، بعدها عاد مع اهله الى منطقة دماس وواصل دراسته ايضا هناك، ولم تكتفي تنقلات الفنان ابراهيم مع اسرته الى هذه المناطق المذكورة فقط، بل رحل ايضا الى منطقة ماي اتكموم، وبعدها الى منطقة نفاسيت، وبعد ان اكمل الصف الثامن التحق الفنان العريق ابراهيم محمد علي الى صفوف المقاتلين سنة 1969، وبعد ان مكث فترة طويلة يقارع العدو الى جانب المقاتلين الاشاوش حاملا البندقية من جهة ومن جهة اخرى يناضل الى صفوف المبدعين الفنانين يقدم اروع وارق كلمات والحان تمجد الثوار والثورة الارترية وترفع معنويات الابطال لمواصلة قتالهم بشراسة للعدو الغاشم، وجه بوصلته الى المملكة العربية السعودية، وهنا يقول الفنان المبدع ابراهيم قورت ان منطقة ماي اتكموم كانت منطقة مفتوحة وحرة، وكانت بعيدة كل البعد عن القيود المجتمع، فكان المواطنين ايضا منفتحين تماما، يتركون الحرية ليمارس المواطن الغنى والرقص او ممارسة اي مجال فني، وهذا الانفتاح والحرية المطلقة دفعهم لتعزيز ابداعاتهم في مجال الفن الغنائي، واذا لاحظنا نجد ان معظم الفنانين المبدعين في الغنى بلغة التقرايت كانو من ابناء منطقة سمهر من دماس وقندع وايضا ماي اتكموم، وهذه الحرية المطلقة لن تكون متحصرة في الرجال فقط بل حتى الفتيات كن يمارسن هوايتهن الفنية من الرقص والغنى بحرية، ولم تكن حواجز تفصل بين الاباء والابناء، مما ساعد ذلك الى خلق روح عالية للابداع وصقل المواهب.

كما واصل هوايته الفنية في الممكلة العربية السعودية الى جانب الفنانين الذين يشاركون في حفلات ثورية ومناسبات وطنية وحملات توعوية، وكان يشارك حتى تحرر البلاد في عام 1991 في هذه النشاطات، وبعدها قام بزيارة الى ارض الوطن مرة واحدة، قبل ان يعود النجم اللامع الفنان الموهوب صاحب الصوة الرائع الى البلاد مرة والى الابد، وهاهو يشارك حتى هذه الفترة فنانين مخضرمين، قدموا ولازالو يقدمون اغاني رائعة من ابان الكفاح المسلح وحتى الان، وخير نموزج للفنانين النشائين، فجميعهم يقدمون اروع ما عندهم من الفن الغنائي.

وحول متى وكيف استهل الفنان المخضرم ابراهيم قورت الفن الغنائي يقول: في تلك الفترة لم تكن فرص متاحة لمجال الفن، والتحاق بالفرق الفنية التي تكونت في اواسط عام 1976 في الساحة، وبدأت ازاول الغنى منضويا تحت رعاية هذه الفرقة، اما الهواية كانت موجودة من الصغر، حيث كنت اغني قبل التحاقي بصفوف المقاتلين في المناسبات كحفلات الاعراس، فكانت عام 1976 سنة بدايتي في مجال الفن بشكل واسع، ومن ثم اصبح الفن الغنائي مثل الارث بالنسبة لي، خاصة بعد الاقتراب الى المملكة العربية السعودية، حتى استطعت اصدار عدد من الالبومات، فقد قدمت العديد من الاغاني الوطنية عندما كنت في الثورة من اهمها، "لولتنا ناضلت اندي كريت فستانا، رافعت هليت كلاشين ثابت انتي ايمانا"، فكانت هذه اول اغنية قدمتها في الميدان، واخرى بعنوان قدمنا لنادلا افيات أتى ايتهممو ولاد ازيما عوتي اقلناتو، اقتبست هذه الاغنية من تاريخ الجزائر، وايضا اغنية ثانية بعنوان "حنا وشعبنا ايوجبنا اقل لحمكنا درقي لافاشل"، وعندما اقتربت احسست بان الشعب الارتري يوميا يعيش المآسي واللجوء وخوض المعارك الطاحنة ضد العدو، والمشاكل التي تواجههم في المعسكرات للاجئين، فحاولت ابعاد هذا الشعب تلك المعاني والمآسي التي يعيشها يوميا، واسلك طريق آخر الا وهو الطريق العاطفي، ومباشرة اتخذت هذا الطريق كتجربة، وشجعني على ذلك صاحب الاستيديو الذي كان يتعاون معي في اصدار الالبوم، قال لي ان كثيرين من الفنانين ظلو يسجلون اناشيد واغاني وطنية، انت حاول تغير تكون تجربة من ذلك المسار الى مسار عاطفي، واخذت بهذه النصيحة الا انني وكمناضل لابد علي ان ادخل اغنية او اغنيتين في الالبوم، لكنه وافق على اغنية وطنية واحدة فقط، وكانت بعنوان "ارتريا حبر سعر كرم ابايي وابايكي لترايم" وكان الالبوم بعنوان "لبيي" وذلك كان في عام 1986، وقد نجحت التجربة نجاح باهر، ووجد الالبوم اقبال كبير من الجماهير، وحتى انا انبهرت بذلك الاقبال الجماهيري على اقتناء الالبوم، وقد طالبوني باصدار البوم مماثل في اسرع وقت، وانا بدوري لم أتخر كثيرا لاصدرا البوم جديد بعنوان "مرعاوي" سنة 1988 تلبية لطلبات ورغبات الجماهير العريضة، وهذا الالبوم ايضا وجد صدى رهيب بين اوساط الجماهير، ولم اتوقف على ذلك فحسب بل قمت باصدرا البوم آخر بنفس المسار العاطفي وبادخال اغنيتين وطنيتين "ارتريا" و"شعبنا تستاهلا قندالي" في وسط تلك الاغاني العاطفية، وقد صدر هذا الالبوم بعد التحرير مباشرة بعنوان حول " قيسكو"، ايضا شهد اقبالا كبيرا من الجماهير مثل الالبومين الاول والثاني، ومن ثم قمت باصدار البوم آخر بعد ان عدت الى ارض الوطن بعنوان" دقينا" وكل الالبومات لها صدى رهيب وسط الجماهير في الداخل والمهجر، وكنت اقوم بطبع هذه الالبومات كلها بامكانياتي الذاتية في المملكة العربية السعودية، وانتهز هذه الفرصة لكي اقدم شكري لكل الاخوة الذين ساندوني ووقفو معي وقفة صلبة في تلك الفترة.

يقول الفنان الكبير ابراهيم حول الكلمات والالحان والتأليف: جميع الاغاني التي قدمتها كانت من تأليفي وألحاني، وهناك بعض الناس يقولون ان الحان الفنان ابراهيم تشبه بعضها البعض، هنا علينا ان نعرف امر واحد، الانسان اذا لم يعرف الموسيقى يقول ان الالحان متشابهة، في بعض الاحيان ممكن جزء من الاغاني يشبه انه متجانس، اذا كان الفنان يغني الاغاني بلحن واحد فانه يستخدم سلم واحد، لا يمكن ان يكون اللحن واحد، لان الاغاني تختلف تماما في الالحان والاداء والطبقة الصوتية، فمن حق الانسان الذي لايعرف الموسيقى ان يقول مثل ذلك، ان الا الشخص العايش مع الموسيقى او الموسيقار بصفة عامة يعرف انها تختلف كل الاختلاف، وعلى الفنان الغنائي ايضا ان يكون له المام ببعض الآلات الموسيقية، والاتكالة على الموسيقيين في كل شيئ تعد لحد ذاتها مشكلة تعيق تقدم الفنان وجودة الاغاني، اما انا فاستطيع العزف على عدد من الآلات الموسيقية مثل آلة العود والارغن وكذا البيز غيتار، واقول لكل فنان وخاصة فنانو التقرايت الالمام على الاقل بآلة معينة، مثلا يأتي شخص ما يطلب منك جلسة بالعود او بالربابة، فاذا لم تجيد العزف فيها تضطر للوقوع في الاحراج بلا شك، ثانيا اذا عندك المام بآلة معينة تقوم بتلحين اغانيك بنفسك ومن ثم تأتي الى الفرقة وتقدم لها ما عندك وما عليهم الا ان يقدمو لك مقترحاتهم سواء اكان من الاضافيات او الحذف منها، عدا ذلك تضطر لمساعدة عازف في التلحين والموسيقى، واتمنى من كل الفنانين الإلمام بآلة معينة من آلات الموسيقى.

نسمع العديد من الناس في ارتريا يقولون ان آلاة العود هي آلة غريبة في البلاد، بالعكس كان يعزف على هذه الآلة في العهد الايطالي في الكنائس وحتى في مدينة كرن كانت سائدة، الا ان الجيل الحالي في ارتريا لا يعرفون قيمة العزف في هذه الآلة التي تعبر صديقة الفنان، ولو كانو يعرفون هذه الاهمية لكان قد اجادوها، وبالفعل تعلمها صعب جدا، لان العزف فيها ينبثق من الشعور والاحساس الداخلي وليس مثل باقي الآلات الموسيقية تتنقل فيها كما يبدو لك، وان تمكن العزف في هذه الآلة يعد التمكن على اصعب آلة موسيقية، واتمنى من الشباب تعلم هذه الآلة خاصة فنانو التقرايت، لان التقرايت احلى بكثير عندما تغنيها بالعود.

اما بخصوص الايقاع الذي يستخدمه وصعوبة تقليد اغانيه يقول الفنان ابراهيم استخدم ايقاع التقرايت وما اختلف عنه، الا انني استخدم الايقاع القديم الذي كان يعزف ياليد كالدلوكة وليس الايقاع الحالي السريع الذي يعزف عبر آلة تسمى "درام ماشن"، لان تلك الايقاعات الى الان موجودة في اذهاننا وافكارنا، حتى اذا استخدمنا الآلة الحديثة الدرام كذلك نستخدمها بنفس الايقاع القديم.

اما صعوبة تقليد اغاني ابراهيم قورت، انا اقول هي ليست صعبة بالنمط الذي يقال بل هي صعبة بكثرة ابياتها وطول القصيدة، وتحتاج الى طول التنفس، وايضا تتطلب مثل اي اغنية الى الاتقان في حفظ الابيات واجادتها، فالنسان يصعب خفظها، حيث كنت اغني على الاقل اربع ابيات في اغنية واحدة، فيضطر بعض الفنانين لحفظ مطلع الاغنية وختامها، وعلى هذا السياق تمشي الاغنية، ولدي فكرة للتخلص من هذه الاشكالية، في الماضي في السودان كانت فقرة خاصة وظيفتها تقديم اغاني فنان واحد خلال شهر كامل تسمى "زهرة الفنان"، تقدم من خلالها على الاقل عشرة او اكثر من اغني فنان واحد، فهذه ساعدت العديد من الفنانين الناشئين لحفظ الابيات الشعرية للفنانين الكبار، وتساعد في اداء الاغنية بشكل جيد بالنسبة للناشئين.

ويقول عن السلم الارتري هو ليس سلم سباعي كما يعتقده البعض وانما هو السلم الخماسي، مثل الدول المجاورة كالسودان واثيوبيا وجبوتي والصومال، وغيرها من الدول الاخرى، الا انهم يزيدون عليه نبرة " تون" او نصف "تون" مثل الموسيقى اليابانية التي تعرف بالسلم الخماسي والمضاف عليها "التون"، ام السلم السباعي فتستخمه الدول العربية وخاصة الخليجية كالكويت والمملكة العربية وغيرها من باقي الدول العربية.

اما عن تأليف القصائد وكتابة الابيات الشعرية الغنائية يقول الفنان المحترم والموقر ابراهيم محمد علي قورت: اتعقد انها موهبة آلهية، مثلا واضافة الى ما قدمته من البومات سواءً قبل الاستقلال او بعده، قدمت ايضا بعد التحريرعدد من الاغاني في المناسبات الوطنية، حيث لم يمر عيد استقلال وانا لم اقدم فيه اغنية، كما قدمت اغاني اخرى بمناسبة الفاتح من سبتمبر وبمناسبة ذكرى تحرير عملية "فنقل" وايضا بمناسبة الاحتفال بمهرجان الشباب السابع الذي يقام في مدينة الشباب ساوا، كما استغل الفرص المتاحة لي وانا في البيت للاطلاع على الكتب العربية التي اعتدت الاطلاع عليها باستمرار وهذه الاطلاعة ايضا تلعب دورا ملموسا في تعزيز ثقافتي الفنية سواء في مجال كتابة الابيات الشعرية الغنائية او تطور ثقافتي ومعلوماتي، وتفيديني ايضا لمعرفة المثقين والفنانين الذين قدموا العديد من الاغاني التي تفيد الجماهير، وكذلك اقتبس من الافكار التي يطرحها المواطن سواء كان في المقاهي والطرق والمناسبات، فهذه العوامل تساعدك في تطورك وتقدمك ورفع امكانياتك، ثاليا يجب على الفنان ان يكون ملما باللغات، واذا كان الفنان محصورا في لغة واحدة لا يمكن ان يبدع مثل الفنان الملم بعدد من اللغات، ومن العوامل الممهمة الاستماع الى عدد من اغاني الفنانين الكبار لعدد من الدول مثل اغاني عربية كويتية اماراتية لبنانية مصرية وغيرها، واقرأ كما ذكرت سابقا كتب مفيدة، فمن خلال الاستماع والقراءة استنبط امور فاتت مني ولم انتبه اليها، حتى يكون لي منطلق اساسي قوي يساعدني الى بلوغ الهدف المنشود، وهناك كتاب كبار شهادتي تكون قليلة عليهم او تجرح ما قدموه من كتب قيمة ومفيدة مثل الكاتب والشاعر السعودي عبده يماني، ولا زلت اواظب على القرائة، حيث اطلب من اصدقائي في المملكة العربية السعودية ارسال كتب عريقة استفيد منها في تطوير مقدراتي، والقراءة طبعا في المقام الاول تفيد القارئ ومن ثم هو ايضا بدوره يفيد بها الاخرين، أتساءل، كيف يمكن مساعدة الفنان الغنائي والممثل والروائي والرسام والكوميدي وجيمع الفنانين نشر عمل مفيد للمواطن، لان كلمة الفن لذاتها تبين ان الفنان هو شخص متميز ورائد يقود المواطن، كما ينبغي على الفنان خاصة الفنان الغنائي ان تكون له فلسفة تساعده في تطوير اعماله الفنية، مثلا انا استفدت كثيرا من الفنانين السودانيين العباقرة مثل الفنان محمد وردي، محمد الامين، احمد المصطفى، الكابلي، ابن البادية وغيرهم من العظماء، ورغم ان الشعراء السودانيين هم شعراء كبار ومبدعين الا ان الاغنية السوداينة لم تنتشر كما ينبغي او بمايتماشى مع عظم ومكانة الاغنية السودانية والسبب يعود الى استخدام الاغنية السودانية السلم الخماسي، فان انتشارها كان يتيح لنا فرص واسعة لانتشار اغانينا، واذا رجعنا الى فلسفة الفنان التي بدورها تلعب دورا بارزا في تطوير الفنان وتوسيع الفن الغنائي، مثلا يقول الفنان الراحل المقيم عثمان حسين "كنت فاكر ألقى عندك الحنان تامر بيهو" فاذا انت فنان غنائي تتمتع بفلسفة تستطيع قلب هذه العبارة الى لغتك بما يتماشى مع ثقافة المجتمع الذي تنتمي اليه، فعلى الفنان الاستفادة من العمالقة الذين سبقوه في المجال، وهذا يتطلب ان يكون مطلعا وقارئا بارعا ومثقفا ورعا، واحبذ انا في نفسي قرائة القصص خاصة الواقعية، حيث قرأت آخر مرة كتاب للكاتب الدكتور عبده يماني بعنوان "اليد السفلى، ويتكون من 700 سفحة، فاحسست انني عايشت هذه القصة، وادركت من خلالها ان الدكتور عبده يماني كان عاشق، لكن على الواقع لا اعرف تماما هل كان عاشقا ام لا، وقد تأثرت كثيرا من خلال معاشرتي للفنانين الكبار الذين عايشتهم وايضا قبل ان اعايشهم قد تركوا علي اثرا كبيرا من ضمنهم الفنان عبد العزيز المبارك ومحمد وردي وعثمان حسين والطيب عبد الله، فهم اي الفنانين السودانيين والشعب السوداني عامة يتميزون بالتواضع الى ابسط درجة، لكن اكثر الفنانين الذين تأثرت بهم وتاثر علي اغانيهم وخاصة اغنية "السنين" هو الفنان الطيب عبدالله، لانه من خلال تجاربه كلها لم يوفق على الحب، ويقول مطلع الاغنية" قالو لي انساه وامسح من خيالك ذكرياتو انسى كل الماضي، وابعد عن طريقو وعن حياتو، فات وخلاك لزمن راحت امال لك في السودان.

نواصل... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click