زاجل في حوار مع قيادي سابق بجبهة الشعبية لتحرير ارتريا المناضل أحمد صالح القيسي
حاوره الإعلامي الأستاذ: باسم القروي المصدر: وكالة زاجل الأرترية للأنباء - زينا
• النظام الأرتري مازال قوياً ويدير لعبته بكل ذكاء بخلاف خصومه.
• أقف احتراما لتضحيات قومية التجرنية.. ولولا جهد المسلمين لما تحقق الاستقلال.
• في تناقض غامض النظام يقلل من شأن المعارضة استخفافا وهو يبطش بها عند المقدرة.
• النظام ليس طائفيا بل كل الديانات عانت من بطشه خاصة طائفة الجهوفا.
• لا أتوقع تغيير النظام إلا بيد أصحاب التجربة مع الجبهة الشعبية أنفسهم.
مشكوراً وافق على حوار زاجل معه بأريحية، وهو يعرف قد تكون أسئلتها مرة المذاق، لكنه صاحب فكرة راسخة؛ يريد الدفاع عنها برد شبهات خصومها، كما يسره نشرها، والترويج لها وسط قطاع من الأرتريين؛ لا يرى خيرًا في كل ما يتصل بالجبهة الشعبية من حصاد، وشخوص، وتاريخ، وحاضر، ومستقبل.
ضيفنا عضو مؤسس للجبهة الشعبية، وأصيل فاعل، تقلب في مقاعد قيادية وميدانية، وكان يحلم مثل غيره من المناضلين بوطن حر؛ يبنيه مواطنوه في وئام تام، وتجانس أصيل؛ يؤسسون دولة القانون. لكنه وجد نفسه بعد التحرير مهمشاً ومجمدا فاستقال عن مناصبه، ولم يأت الرد حتى اليوم بقبول الاستقالة، ولا رفضها من طرف رأس النظام، وعندما رأى أصحابه يغيبون عن الحياة واحدًا واحدًا؛ دون مبرر يذكر، ولا محاكمة تعلن، اختار الهجرة خارج الوطن، وهو الآن في اليمن.
قلت له: لم اخترت اليمن ولم تختر غيرها مثل كثيرين من معارضي النظام الذين انتهت بهم أقدامهم الهاربة إلى الدول الأوروبية حيث الملاذ الآمن؟
فقال: في اليمن أهل وعشيرة.
فقلت له: ماذا أنت تفعل الآن.
قال: عاطل عن العمل، وأتعاون مع المنتدى (مدرخ) في الجانب الإعلامي معارضاً.
أتت الأسئلة إليه وهي غير مراعية أنه هارب من النظام وبعيد ومضيق عليه لكنها راعت أنه الجبهة الشعبية أي خصم تاريخي لكل القوى الأرترية شعباً ومعارضة إنه خصم سرق الاستقلال وذهب به بعيداً عن أماني الوطن والمواطنين، وطن طرد الشعب، وحارب الدين، وأفسد الأخلاق، وضيع المستقبل.
ضيفنا لم يكترث بخصومة الأسئلة له، وإنما أجاب بهدوء مصطنع؛ على الرغم من أنه أدرك استفزاز بعض الأسئلة، و لم يجب بصراحة مباشرة في كثير من الأسئلة، وإنما نحا برفق إلى الإجابات التي تبرئ الجبهة الشعبية، وتبشر بأن المستقبل أيضا لها؛ مثل ما كان التاريخ لها في استقلال الوطن، وينفي ضيفنا أن يكون هو ومن في شاكلته لهم أهداف مرممة للنظام، وإنما هم في مسعى جاد لإسقاطه، ويصفه بأنه غادر، ويعبر عن ثقة كبيرة أن النظام قوي، وذكي، ويمسك بخيوط متينة، وإن تغييره لا يكون إلا عبر أصحاب التجربة أنفسهم؛ من مدرسة الجبهة الشعبية، ويشير إلى خلافهم بسيوف خشبية ومن أحسن ما قال الأستاذ أحمد القيسي إنه يدعو إلى تقييم التجربة الأرترية برمتها للخروج بمشروع وطني موحد.
1. الشعبية.!! خمسة وعشرون عاماً قضيتها في خدمتها أنت جزء أصيل في شجرتها تاريخاً ومشاعر فلما رأيت السفينة تغرق قفزت.. لِمَ لَمْ تصمد؟ وهل تُسلمُ بمقولة يرددها كثيرون باشتهاء: أن النظام في حافة الانهيار ولذلك يخذله أنصاره ومؤسسوه؟
في البداية اتقدم بخالص شكري لكل الاخوة العاملين في وكالة زاجل وللفرصة التي أتيحت لى من خلال هذه المقابلة للإسهام في توضيح الصورة المبهمة لتاريخ محوري في نضال الشعب الإرتري... من خلال المساهمة المتواضعة في صناعة هذا التاريخ، صحيح أن خمسة وعشرين عاماً ليس بالزمن القليل وما جرى خلال هذا الزمن لم يكن كله ورديًا أو طريقًا سالكاً دون عوائق أو نزهة تتخللها ما يفسد المتعة بل لا أغالي إن قلت كانت رحلة عذاب لشعب بأكمله.
لجأت إلى هذه المقدمة كى أكون منصفاً بما يمليه ضميري الشخصي أولاً وما يجب أن يصل إليه القارئ من رؤية موضوعية تساعد وتسهم في تعميق الوعي الناضج وإن ما نواجهه أبعد بكثير مما يعتقده الكثيرون، بأن المسالة هى مجرد إسقاط نظام وإحلال نظام توازياً مع حالة الشعارات والأماني التي ترفع هنا وهناك.. إن كانت هناك من جريمة ارتكبها هذا النظام ويستحق مواجهته والسعي لإسقاطه إنه أعادنا إلى المربع الأول في صراعاتنا السياسية، وأشعل حريق فتنة إن لم يتدارك العقلاء منا في محاولة تلافي هذا السقوط إن كان النظام أوصلنا إلى هذه الحالة.. فإن الواجب يقتضي أن نتعلم العبر من التاريخ... ونستخلص منه العبر والدروس وأن لا نصبح لقمة سائغة نحو السقوط للهاوية.
جاءت الجبهة الشعبية إلى الوجود كتحصيل حاصل لواقع التناقضات التى عصفت بالساحة حينها.. وليس كما يحلو للبعض بأنها اختراع تم هندسته من قبل هذا أو ذاك... وذاك تاريخ طويل بحاجة لمجلدات، ولكن من باب التذكير لعل الذكرى تهدى المؤمنين.
أعود لسؤالك... صحيح إنني ممن قاموا بتأسيس الجبهة الشعبية ولعبوًا دورًا محورياً في بناء هذا التنظيم وأوصلوا التنظيم إلى مستوى مقارعة كل القوى في أدق مراحل الثورة وأكثرها صعوبة... ولكن ليس العبرة والقيمة تقف عند هذه المسالة.
قيمة الجبهة الشعبية هى في إشاعة روح القيم الثورية والإنسانية وروح التضحية من أجل مبادئ نبيلة في بناء وطن وخلق مجتمع ولكن هناك الوجه الآخر للعملة كما يقال : وهى إن أي نشاط وفعل إنساني لابد وأن يحمل وبنسب متفاوتة الكثير من الأخطاء والتجاوزات.. وهذا قدر يتجاوز قدرات البشر، فالعمل الخالي من الاخطاء هو فعل رباني وليس أعمال بشر، ومن انخرطوا في الجبهة الشعبية وتقدموا الصفوف وصنعوا القرار ليسوا ملائكة.. وأناس زاهدون، هم بشر شانهم شان الآخرين يحملون في داخلهم عواطف ومشاعر وأحلام وطموحات... أضف إلى ذلك أن التنظيم نفسه لم يسقط من السماء فجأة ليصنع معجزة للشعب الإرتري... هو تنظيم نبع وتأسس بشرعية رفض من سبقوه… وفي هذه الحالة هو وريث شرعي لمجمل المشاكل التى كانت سبباً لوجوده، وبناء عليه أن يقوم بمعالجتها أو يزيدها تعقيداً.
هذه الحقائق هى ما يجب أن نرتكز عليها عندما نصدر الأحكام، أو نحاول أن نستوعب أحداثاً ومواقف التاريخ، إذا كان الهدف هو في كيفية رسم طريق للمستقبل. أعود إلى السؤال ماذا تقصد بالسفينة التى تتهاوى نحو الغرق... أن كنت تقصد النظام فاعتقد أنك مخطئ أم إن كنت تقصد المعارضة فاعتقد أنه ليس هناك سفينة بالأصل، النظام حدد توجهاته، واختار نهجه، وطور تحالفاته... واستغل إلى حد بعيد كل الوسائل والطرق ليتحكم بكل التوجهات المناوئة له آخرها كانت مهزلة أن أرسل أحد رجال أمنه، ليبلغ المعارضة العتيدة بانها مخترقة. ثم تأتي يا زميلي لتعلن بان سفينة النظام في طريقها للغرق... أمنية كلنا نتمناها.. ولكن المأساة أن مجمل الوقائع والحقائق توكد أن النظام مازال قوياً ويدير لعبته بكل ذكاء بينما الآخرون في عالم آخر يصعب تسميته.
السؤال: سوى عن الصمود والتحدى التى تطلبها ممن عاشوا وصنعوا هذه التجربة، وأنهم ارتضوا هجرة السفينة قبل الغرق... ألم تصل إلى مسامعكم أن من وقفوا باستبسال في وجه الطاغية هم قيادة وكوادر الجبهة الشعبية، وانتهى بهم المطاف قتلاً واعتقالاً وتشريداً ولكن الطامة الكبرى حين حاولوا مشاركة الآخرين في نضالهم. كانت هناك مدرسة سياسية وجدت من وحي عالم الحركة الوطنية الإرترية، ومقاهي كسلا وجدة تشكك في الولاء بل والتجريم عند البعض ثم تزعم أن سفينة النظام في طريقها إلى الغرق أما سؤالك حول الصمود؟ لا تعليق لي سوى حسبنا الله ونعم الوكيل لقد جاء زمن نتهم فيه بأننا كنا مستمتعين في أحضان أمهاتنا... وبحمد الله تم تحرير البلاد والعباد من خلال هذه الأحضان الدافئة والحنونة.!!
2. توجد آراء تحليلية تقول : إن أبناء المسلمين من قادة الجبهة الشعبية لم يأخذوا العبرة من الزمن فقد غدر بهم النظام فأصبح كثير منهم بين مغتال أو سجين أو مهمش يخدعونه بمهمة وضع أكاليل على قبور الشهداء في المناسبات أو الجلوس على المقاعد الأمامية في منصة الاحتفال ورمضان إمام زعماء الأكاليل المخدوعة هؤلاء ومع ذلك لا زلتم توالون النظام بإخلاص وتتقاسمون الأدوار لصالحه حتى في معارضتكم ينتهي بكم المطاف إلى تقوية النظام أو مد طوق النجاة له عند الغرق ! أنتم وجه آخر للجبهة الشعبية يا استاذ أحمد القيسي !. كيف ترد؟
توجد حملة شرسة على قيادات وكوادر الجبهة الشعبية بالذات العناصر الإسلامية وقد تكون الدوافع معروفة لكن وصل بالبعض التندر والسخرية و ومع إيماني الراسخ بأن ما يحرك هذه المسائل هو عقد.. وأحقاد موروثة منذ زمن. إلا أن المسالة تجاوزت الحدود.. فوجب التنويه فقط أما التفاصيل فسوف يتم نشرها في الكتاب المزمع نشره في القريب أن أعطانا الله عمرًا قبل أن نموت نكدًا وقهرًا من منظري التاريخ والسياسة، وحملة سيوف إسقاط نظام أسياس ودعني أوجز لك الموضوع في نقاط توضيحية لحساسيته:-
اولاً: إنني أقف احتراماً واعتزازا بالدور العظيم والتضحيات والعزيمة والإرادة القوية لما قدمه أبناء قومية التجرينية في حرب التحرير عامة، وفي الجبهة الشعبية. ومن الاجحاف والخطأ الذي لا يغتفر أن نخلط بين هذه التضحيات وبين بروز ظاهرة نظام أسياس، ونخلط بينهما، فهذا العطاء قدم لأجل إرتريا وليس لصناعة فرعون. وأي خلط هى جريمة مكتملة أمام كل وطني غيور علي وطنه وشعبه.
ثانيا: إن دور القوى الإسلامية المنخرطة داخل الجبهة الشعبية أبان حرب التحرير كان المرتكز الاول في تأسيس وتطور الجبهة وصناعة تاريخ هذا التنظيم ومن خلاله صناعة الانتصار.. ولولا هذه القوى لما كانت الجبهة الشعبية كما عرفناها وفي اعتقادى لانتهى الموضوع إلى تشرذم وانكسار.. ولا اصبح التحرير حلماً بعيد المنال.. أقول كلامي هذا و أتحمل مسؤوليته.. دون أن أقلل من دور الآخرين. وهذه القصة بحاجة إلى فصول لشرحها وتحليلها، ولكن أرجو أن تكون رسالتي قد وصلت.. لمن يحملون السيوف الخشبية.
ثالثا: هناك فرق أن تعتز بتجربة عشت كل تفاصيلها وبين نظام قام غدرًا علي حساب هذه التجربة ويجب أخي الصحفي أن لا تغيب عليك هذه الحقيقة فطنة الصحفي حين يعرف كيف يفصل مواضيعه، أما الموقف السياسي الذي أعد برمجته مسبقاً فله مجاله آخر، ولم يعد يثير الاهتمام.
رابعا: حسب علمى أن كان هناك من شيء يخيف النظام... فهم أبناء التجربة الذين يدركون حقائق القوة والضعف في النظام والذين يحظون باحترام وتقدير لتاريخهم النضالي، أما من يعارضون من خارج تجربة الشعبية. فليس لدي علم بصورة دقيقة، ولكن يمكنني القول وعندما كنت في أسمرا كانت هناك ظاهرة غريبة تحكم رؤية النظام لهؤلاء المعارضين... من ناحية نظرة ازدراء وتقليل لشانئهم.. ومن ناحية أخرى خوف ومتابعة وإجراءات قاسية تجاه من يقع في يديه منهم وهذه مسالة متناقضة كيف تفسر.. هى بحاجة الى دراسة ذهنية النظام.. أكثر من أنهم يمثلون خطورة أم لا.
خامسا: النظام ذا طبيعة خاصة يصعب مقارنته مع الكثير من الأنظمة المعروفة بأنها ديكتاتورية الطابع. إن هاجس الخوف العميق لكل من يحمل رأيًا أو موقفاً مخالفاً بغض النظر عن الأهمية فلا بد أن يزاح ويقصى بل أبعد من هذا التخلص منه. ومجمل حماقات النظام وجرائمه تعود لهذه الذهنية المريضة.
سادسا: إن كنت تقصد الجبهة الشعبية في الميدان أقولها لك صراحة.. نعم. وإن كنت تقصد الحكومة الارترية والتى تحاول أن تستمد شرعيتها من هذا التاريخ فاسمح لي أن أبشرك: لا أنا.. ولا غيري ممن تحسبونهم علي االشعبية قادرون في ترميمها أو محاولة إعادة الحياة لها.
3. أنت من المتحدثين بشجاعة عن نقد تجربة الجبهة الشعبية ولا يأتي حديثك في سياق الندم وإنما تعتز بتجربة يعدها غيرك وبالاً على الشعب الأرتري لماذا التشبث بالفشل في حين أن الشعب الأرتري ذاق على يدكم مر العذاب وهان عليه ما فعله الاستعمار مقارنة بما فعلتم أنتم؟
أشكرك على هذا الإطراء... الندم على ماذا؟ بالعكس أنا اعتز بهذا التاريخ والصمود العظيم للشعب الأرتري، أما ما نتج عنه فتلك مصيبة ليست لنا بل لشعب كامل. أما ما يراه الآخرون فكلي احترام لآرائهم، ما يهمنى في وضع كهذا هو أن أكمل رسالتى النضالية بوضع الحقائق وتمكين الجيل الجديد بقدر المستطاع أن لا يكرر الأخطاء وأن تكون بوصلتهم سالكة لوطن وشعب بكل عزة وكرامة.. أما الندم أو الانشراح بالماضي العتيد، لا مكان له لمن يريد أن يناضل بشرف ويعتز ويفخر بنضال وتضحيات شعبه.
وبالرغم من طبيعتي الشخصية بعدم التهاون في القضايا المصيرية… إلا أنني أعذر الجميع وأتقبل نقدهم الجارح والخارج عن المألوف.. لقناعتي العميقة بحجم المأساة وحجم الخديعة التى أوقعنا فيها هذا النظام ومهما قيل فكلنا نتحمل بدرجات متفاوتة مسؤولية ما يحدث. ما أرفضه أن نخلط بين الأمور، لان الخلط كارثة.. والمستفيد الأول منها هو النظام لذا وجب قول الحقيقة.. ولكن بمسؤولية عالية وللمعلومية؛ التاريخ لايعيد تكرار نفسه وان حدث صدفة يصبح ملهاة.. وكوميديا هذه حقيقة تاريخية لذا فالعناصر المحسوبة علي الشعبية وكي أسهل الفهم… والرؤية. والجدل البيزانطي حولهم.. يمكن تصنيفهم إلى ثلاثة أنواع:-
النوع الأول: من رضي بالأمر الواقع وفضل العيش بصمت.. حاملاً مرارته في داخله.
النوع الثاني: ممن ارتضوا بالعمل مع تنظيمات المعارضة وبدلاً من الاستفادة منهم..وتطويع معرفتهم بوضع النظام انتهى بهم الحال في تبرير مواقفهم وأصبحت معاناتهم مضاعفة، بين التزامهم الأدبي والأخلاقي والسياسي تجاه رفاق قضوا جل عمرهم معهم من أجل وطن وشعب، وبين تنظيمات لا ترى إلا لونين في الحياة السياسية أما أبيض أو أسود وهو المعيار حتى تمنح من خلاله صك الغفران.. حتى جاءت المحاولة الأخيرة من مجموعة.. المدرخ.. بطرح جديد.. وهو توحيد المعارضة على قاعدة حد أدنى بحيث يكون هذا الثقل السياسي الجامع عاملاً فاعلاً في إسقاط النظام... وهى دعوة تستحق التقدير سيما وإن مؤسسي هذا التجمع وأصحاب هذا النهج لا يتوقفون في تبرير موقفهم بانهم زاهدون ولا يرون لأنفسهم دوراً قيادياً في المستقبل.. حتي يشيعوا الطمانئنة في نفوس الآخرين، ولا زالت المحاولات قائمة... ولكن وبالرغم من ذلك وفي ظل غياب الاجماع في تشخيص علة الحركة الوطنية، ووضع المشروع الوطني المستجيب لحقائق الواقع و التجربة الوطنية، أخاف أن يعتري التجربة الفشل كسابقاتها.. فمعظم قيادات العمل الوطني في أرتريا انتقلت إلى جوار ربها وهى تحلم بوحدة فصائل العمل الوطني.. وربما يتصدر القائمة الشهيد/ عثمان صالح سبي.. وغيره رحمهم الله جميعا.
أما النوع الثالث فيرى ضرورة المراجعة السياسية لمجمل الحركة الوطنية بما فيها تجربة الجبهة الشعبية والنظام الذي أتت به بموضوعية وعلمية.. وبناء عليه خلق التنظيم الوطنى وبمشروع سياسي مستجيب لتطلعات الشعب الإرتري، وليس إسقاط النظام فحسب… وأجد نفسي مع هذا النوع الأخير... إذا كان هذا هو الواقع فأين هم أولئك المنتحرون الذين يسعون لإعادة إنتاج النظام... النظام تجاوز كل الحدود للمساعدة على إعادة إنتاجه.أو ترميمه.. إلا إذا ظهرت معجزة إلهية.
4. كنت جزئاً من النظام الأرتري قبل أن تحملك قدماك إلى خارج الوطن فما شهادتك عن استهداف النظام للمعاهد الإسلامية ومعلميها بين مسخ المنهج واعتقال وتغييب المعلمين منذ فجر الاستقلال وهل كان لكم برنامج معادي للمؤسسات الدينية؟
في البداية أود أن أوضح نقطة مهمة بعد المهمة التى أوكلت لى بعد الحاح في مفوضية الأراضي، قدمت استقالتى بصورة رسمية لرئس النظام بأن دوري قد انتهى مع التحرير.. وهذه قصة طويلة.. المهم في الموضوع.. أنني تمسكت بالمعنى الحرفي للاستقالة، ورفضت بعض الوساطات الشخصية بأن أتراجع.أما من ناحية الرئيس فلم يرد علي الاستقالة لا رفضاً ولا قبولاً.. واعتبرت مجمدًا من العمل.. ويبدو أن تجميد الأعضاء بدأت بي.. وطالت الكثيرين حتى أصبحت أهم ركن في سياسة الدولة، أما قصة المعاهد الدينية وغيرها من المؤسسات الدينية بكل أنواعها.. سوى الإسلامية أو المسيحية بمذاهبها المختلفة.
فموقف الدولة واضح وهذا ما لمست أن الكثيرين يجهلونه... الموقف يتلخص في أن لا تكون لهذه المؤسسات رأي أو دور في الحياة السياسية.. وأن تحصر وظيفتها فى الشؤون الدينة والروحية، وأن تكون ممتثلة لتوجيهات السلطة، وهلم جراً… ويمكن تلخيص المسالة.. ببساطة بأنها حالة فوبيا نفسية وخوف متأصل داخل نفوس وعقول هؤلاء الحكام وأجهزتهم الأمنية، دعك من المعاهد.
سوف أقص عليك ما واجهني شخصياً في آخر الأيام عام 2007م هناك ضريح لشيخ جليل في ضواحي مدينة أسمراء معروف للكل في عموم أرتريا بشيخ جميل وتعود بى الذاكرة ونحن أطفال، زياراتنا المنتظمة ولاسيما كل يوم اثنين لأن العادة جرت أن الزيارة تتم في هذا اليوم.. والغريب لا أحد يعرف بالضبط لماذا اختير هذا اليوم بالذات، واستمرت العادة طوال هذه السنين، حتى جاءت حكومتنا الجليلة.. كان أحد الأصدقاء من الميسورين قد تعهد بأن يقدم كل يوم اثنين.. نذرًا.. كما كان يفعل والده، وذلك بذبح بقرة أو عدد من الخرفان.. ويتم إعدادها علي شكل وليمة مطبوخة مع الرز وتقدم للفقراء والزائرين والغريب لا يقتصر الزائرون على المسلمين.. بل هناك الكثيرون من الشباب المسيحيين ذكوراً وإناثاً.
وقد لفت نظري الموضوع.. مما دفعني باستفسار هؤلاء الشباب عن الهدف من هذه الزيارة، وماذا يعني لهم. ولماذا الشباب هم الزائرون وليس بينهم كبار السن وكانت الإجابة أكثر غرابة من وجودهم.. كانت الإجابة موحدة تقريباً... بأنهم جاؤا للتبرك بضريح الشيخ لأن معظمهم مقدمون على الزواج وبعضهم لهم أمنيات خاصة يريد تحقيقها.. حينها شعرت كم العالم قد تغير بعدنا.. وكم من معاناة مرت بهذا الشعب.. حتى أخلت بالكثير من المقاييس والأعراف.. والحقيقة كنت سعيدًا بما رأيت.. وكم من هوات ردمت بصورة عفوية.
ولكنها سعادة لم تدم.. فقد شاهدت صديقي قد غض الطرف عن ممارساته الأسبوعية، ولم يعد يهتم.. وسألته عن السبب في مقاطعة عادة هي امتداد لما كان والده يقوم به.. ثم إن الموضوع فعل خير، وقد تعود الفقراء علي ذلك، وفجاة اغتاظ غضباً ووجه حديثه لي قائلا: أي صنف من البشر أنتم؟ هل حررتم هذا البلد من أجل ان تحرموا أبناء ه من عادات وتقاليد ورثوها عن آبائهم وأجدادهم؟ وقد ذهلت من حديثه.. لأنه لم يحصل بالمطلق أن تحدث معي بهذه اللغة إطلاقاً.
وسألته ما الذي حدث؟ فقال.. لقد تم استدعائي قبل عشرة أيام إلى مكتب الأمن وبعد تحقيق قصير طلب منى كتابة تعهد أن أوقف تلك العادة والمناسبة التى
أقوم بها لأنهم رصدوا بأن المكان والعادة المتبعة هناك قد أصبحت وكرًا لتجمع المتطرفين… وعندما حاولت أن أشرح لهم بان الذين يجتمعون هم في العادة من فقراء المدينة نعرفهم جميعا والمسالة لا تقتصر على المسلمين بل هناك أعداد كبيرة من المسيحيين.. وأردف قائلاً: لم يعطوني الفرصة للاستمرار في شرحي واختصروا المسالة، أنت لا تعرف نحن نشاهد ما لا تشاهده.. ونرى ما لا تراه.. كل مافي الأمر لقد كتبت التعهد.. وإن حدث مجددًا سوف تسال قانونيا.
لم استوعب ما قاله… وقررت أن استفسر بطريقتى لعلي أجد شئاً منطقيا في الموضوع أو مقنعاً لى... ومرت الأيام حتى جاءت فرصة جمعتني بأحد رجالات الأمن وهو صديق ومستقل في مواقفه وطرحت المسالة معه وكيف تبنى القرارات لديكم في مواضيع كهذه.. لخص لي الزميل رأيه في هذا النقاط:-
1. أكثر الطوائف معاناة من هذا النظام هم طائفة… الجهوفاء المسيحية كل الذنب الذي حملوه، أنهم رفضوا التجنيد لأنهم لا يؤمنون بالعنف ويرفضون حمل السلاح.
2. الكنيسة الارثدوكسية.. هى السند التاريخي لأي سلطة بحكم أنها تمثل الغالبية المسيحية، فرض على البابا المنتخب من المجمع الكنسي الإقامة الجبرية لأنه رفض تدخل الحكومة في شؤون النشاط الكنسي. تم تحديد إقامته، وتعين بديل عنه على الطريقة العسكرية، حتى أطلق عليه تسمية جنرال الكنيسة الارثدوكسية
3. أنت تعلم والكل يعلم.. أن الكنيسة الكاثولكية تملك من الإمكانات الكبيرة.. ويعود الفضل لهذه الكنيسة في تقديم الدعم للشعب، سيما في مجال الادوية تحديدًا ودعم بعض المعوزين وإن اقتصر الأمر أحيانًا على اتباعهم، فقد طلب منهم أن يتم التوزيع عن طريق الحكومة، وحين رفضوا الفكرة، بدأت المتاعب بفرض ضرائب ورسوم جمركية على المساعدات. وكان يمكن اتخاذ إجراء اسوأ من هذا لولا الخوف من رد فعل الفاتيكان.
4. تبقى مسالة المسلمين… وهذه مسالة كبيرة ومرتبطة بالمسالة الوطنية برمتها، فإن لم تحل في الإطار الوطني العام.. فالأسلوب المتبع من خلال عقد هذه الحكومة سوف تكون كارثة على البلد كله.
وختم حديثه مستغرباً لماذا أنت مستغرب من المنع لزيارة ضريح الشيخ؟ المغزى والمعنى الحقيقي للمنع هو منع التجمع والتجمهر هكذا ببساطة، وربما بلغتهم أخبارية من هم الذين يترددون ويكفي أن يذكر اسمك إلى جانب آخرين فالتفسير الوحيد هو سياسي. كيف فاتت عليك هذه المسالة. أنصحك اأن تبتعد ولا تأخذ الأمور بهذه البساطة. هذه الملاحظة كانت مفاجأة بالنسبة لى ومن حينها أدركت بقناعة تامة بأننا نواجه صنفاً لم نسمع عنه من قبل في العمل السياسي، ويصعب قولبته ببساطة بالمفاهيم التى درجنا عليها.. ومن حينها كرست بشكل مركز في دراسة السلوك السياسي لهذا النظام.. والعقد النفسية التى تحكم رأس النظام باعتباره صانع القرار.. والهدف من ارتكاب هذه الحماقات غير المبررة.. في حق أناس كان يمكن استيعابهم، أو تحييدهم، دون اللجوء إلى العنف والاعتقال. وإنهاء حياتهم في السجون.. كان يمكن الاستيعاب من خلال بناء مؤسسات الدولة وكان يمكن… ويمكن… أحياناً تتملكني الحيرة... ماذا يريد هولاء بالضبط... أما نعتهم بالطائفية فهى حجة واهية… فلم يسلم منهم أحد… إن رأس المال الذي تم خروجه من البلاد ومعظمه يعود لأبناء التجرينة الذين جاؤا من الخارج.. هو المحرك حاليًا لاقتصاد الكثير من البلدان الإفريقية مثل جنوب السودان أو اوغندا أو أنجولا.. وإلى حد ما في كينيا. وهذه مسألة مهمة.. يجب أن تثار في وسائلكم الإعلامية.
5. أطروحاتك الحالية مثل مسيرتك التاريخية لا تحمل ما يتفاءل به المسلمون في إتاحة فرصة للعامل الديني أن يكون له دور إيجابي في حلحلة مشكلات الوطن فهل تخفي ثيابك الأنيقة حقداً دفيناً تعززه توجهات فكرية علمانية مغايرة ممزوجة بأحمد القيسي اعتنقها فترة بريق النضال أو فترة نشوة الانتصار؟
سوف أتجاوز الاستفزاز من أجل المصلحة العامة، ولا تتوقع منى أن أنفعل، لأنني أدرك تماماً حجم المعلومات والحقائق التى تملكها. وأنا لا ألومك وأدرك ذلك وبوعي وبكثير من الثقة حجم اللبس في تشخيص مسائل التاريخ.. وتفسير وقائعه مسيرة الجبهة الشعبية لا يمكن اختزالها بشوية اتهامات المسألة أكبر بكثير هذه تجربة استكملت مهمة تحرير بلد، ودفعت قوافل من الشهداء يفوق ما هو معلن أضعاف الأضعاف. ولم يكن التحرير من أجل طائفة، حتى تتشاءم طائفة أخرى هذا أولاً وثانيًا: لم تطرح مسالة الدين كقضية في كل مراحل الثورة بل هناك عوامل وقضايا أخرى.. كالعامل الثقافي.. والتنوع العرقي.. والتفاوت في مستوى التطور الاجتماعي.. والتجربة السياسية للحركة الوطنية وخلافه.
ولكن السلاح الاكثر فعالية في التوظيف السياسي.. كان الدين لما له من مكانة روحية في عمق وجدان الشعب الارتري... أكان مسلماً.. أو مسيحياً.. وهكذا يتم توظيفه سياسياً بكل سهولة... هذا إن كنا منصفين دون عقد ودون دوافع أخرى.
تقول أطروحاتك... أي.. أطروحات.. أنا لم أتناول بالمطلق مسالة الدين… ودوره في العملية السياسية. شيء واحد كررته ولا زلت مرارًا وبصوت عال. بأن النظام ليس طائفياً بالمعنى التقليدي.. النظام يحمل مشروعاً ماهو اسوأ من الطائفية، والغريب أنه يستهدف الجميع مسلمين و مسيحيين. في عملية صياغة تتجاوز قدرة وإمكانات الشعب الارتري، شيء أشبه بما قام به ستالين في التجربة السوفيتية وهذا هو الواقع والاتجاه الصحيح ونحارب طواحين الهواء، والمستفيد الاول والأخير هو النظام … والخاسر ليست حالة الغوغائية والضبابية التى نعيشها. بل الشعب الارتري كله.
هذه اللغة... وهذا النوع من الخطاب السياسي خطير. وأتمنى أن لا ننجر إلى هذا الاتجاه. ولو أن بوادر تفجير صراعات لا معنى لها قد بدأت في البروز… وآخرها أحد التافهين (فسهازين) بحديثه عن وضع المسلمين في معسكرات على شاكلة وطريقة تعامل عساكر.. بورما... مع المسلمين هناك... المهم... هذا التافه قد لا تكون له قيمة، ولكنه مؤشر في ظل حالة الضياع التى نعيشها.
أنا ما فتئت أطرح أن لا بديل سوى المشروع الوطني المتجاوز لكل كليشهات الماضي، وبالطبع لا يتاتى ذلك إلا من خلال التقييم الموضوعي للحركة الوطنية الارترية.
في هامش المقابلة:
السيرة الذاتية:
الأستاذ أحمد صالح القيسي
1. تاريخ الميلاد: 1954م.
2. الدراسة: المرحلة الأولية، أسمرا، مدرسة الجالية العربية + كامبوني كالج.
3. المرحلة الثانوية الأخيرة باليمن.
4. درس حتى السنة الثالثة آداب في جامعة دمشق، تخصص فلسفة وعلم اجتماع.
5. التحق بالثورة 1971 م وتواصل نضاله حتى 1996م.
6. قدم استقالته لرأس النظام عندما رأى انحراف النظام عن المسار الطبيعي فلم تجد استقالته قبولاً ولا رفضاً حتى اليوم.
7. ظل مهمشا ومجمدا منذ عام 1996م.
8. غادر البلاد عام 2007م عندما أدرك ان مكائد تحاك ضد سلامته.
9. عمل:
مسؤول الإعلام في التنظيم 1971–1977م
مسول التوجيه السياسي 1977–1979
الإعلام: مع بداية البث الإذاعي 1979–1987
الإرشاد السياسي 1987–1993
شغل ضمن وظائفه بعد التحرير مسؤول مفوضة الأراضي قبل أن يستقيل منها.
الآن يعمل في قسم الإعلام بالمنتدى (مدرخ) معارضاً سياسياً.