زاجل تحاور البروفيسور الدكتور جلال الدين محمد صالح - الحلقة الأولى

أجرى الحوار الأستاذ: باسم القروي المصدر: وكالة زاجل الإرترية للأنباء

• لا يلزم الوفاء ببيعة استحالت جماعتها إلى جماعات.

جـلال الدين محمد صالح

• أنا سلفي عقيدة، وإخواني فكراً وسياسة، وأعرف منهجية الاجتهاد الشرعي.

• سلوك الإسلاميين المستفز نفرني عنهم تنظيمياً، وتواصلي مع غيرهم تواصل حوارٍ وانفتاحٍ.

• لم أرث القلم عن أسرتي، وأتوقع أن ترث قلمي ابنتي ابتهال - تخصص ”جينات“.

استهلال:

أ.د. جلال الدين محمد صالح داعية أكاديمي أرتري باحث وهو من القلة الذين يمثلون وجه الوطن المسلم في سعة ثقافته و فصاحة لسانه وجمال هيئته وحسن هندامه وتبنيه القضية بالوضوح في حين يتوارى كثيرون بسبب ظروف لم يتعرض لها هو بحكم إقامته في مساحة حرة غير مضايقة سياسياً وقد اغتنمها بذكاء وهمة حتى سطع نجماً وزاحم بشرف ممثلا ً لأرتريا في منابر إعلامية وأكاديمية وسياسية.

لم يحدث أن أجريت مقابلة مثل هذه في هدوئها وسلاستها حيث اكتملت دون مهددات بالنسف والتدابر ومع ذلك يظل البروف جلال الدين محمد صالح يحافظ على آراء وسلوك خاص يتكلف له - في رأيي - الاستنباطات القلقة من النصوص الشرعية فهو لا يرى بأساً أن يتحلل من قيود البيعة ومواثيق الجماعة إذا انشق بعضها عن بعض الأمر الذي يجعله غير قادر على معرفة المحق والمبطل عند البلاء والفتن.. ولا يرى حرجاً أن يكون ضمن جماعة اليوم وغدًا في غيرها بحجة البحث عن التجدد وهو سلفي عقيدة وإخواني فكرًا وسياسة ويضيق به الماعون التنظيمي في الطرفين، وتنشرح مسيرته التاريخية لغير الإسلاميين تواصلاً، ويحب توحد الإسلاميين في كيان يحكمه المواثيق، ويرى تفرق العمائم لا مبرر له؛ دون أن يعيب على نفسه سلوكه في البعد عن الكيانان الجماعية الإسلامية متى شاء، والخروج عليها متى شاء، ويتهم في حديثه أن الجماعات تستخدم فقه البيعة سوطاً على مخالفيها مستدلة بنصوص نقض البيعة التي تلاحق الناكثين بالطرد من رحمة الله !! ويبالغ أ.د. جلال الدين مبالغة تتعارض مع مستواه العلمي الشرعي في القول: إن الجماعات تعتبر الخارج عليها خارج عن الله ويتهم من ينتقد بعض المبادرات الأرترية المناطقية بدعاة هيمنة الطائفة أو التنظيم ويسهب في شرح رأيه.. وهذا استنباط ظالم لأن الجماعات السياسية كلها لم تدعِ التفرد بالرأي ولا بالتنظيم ولا بالساحة.. ولم تتبنَ في أطروحاتها السياسية أنها الوحيدة الأحق بالسيطرة والحكم وإدارة البلاد والعباد..

ومع كل هذه الملاحظات يظل البروف جلال الدين الباحث الناجح والرقم المهم بين صفوف الإسلاميين خاصة والمعارضة الأرترية عامة ولو صبر على كدر الجماعة وأطاع في المعروف وحبس نفسه في الأطر التنظيمية إدارة وولاء وتقيد بها وابتعد عن الهواجس التي أخذت تفسر سلوك الآخرين تجاهه تفسيرًا سلبياً - قد لا يوافقه الواقع - و رضي بوضع الجماعة له مكاناً ومكانة لو فعل ذلك لأصبح قائدًا للإسلاميين بلا منازع نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله.

قلت له:

أنت مشهورٌ في الإعلام صوتاً وصورة ً حاضرٌ قلماً وفكرًا لكني أنظر إليك ؛ أنك مضنى، عاكف بين بطون الكتب، حاني الظهر، ساهر العينين مُجْهَد، شارد عمن حولك، تناجي السابقين واللاحقين صامتاً.. فهل تشهد أنك ناجح في بيتك؟ ألقِ الضوء عن أسرتك الصغيرة، يا بروف وبرنامجك اليومي معها، وهل ورثَ القلمَ سابقٌ لخالفٍ ؟

في البدء تحية لك أخي الدكتور باسم القروي، وشكرًا لهذه المؤسسة الإعلامية الرائدة، في ميدان الإعلام الإرتري، التي أتاحت لي هذه السانحة المباركة بإذن الله، أطل عبرها على القارئ الإرتري الكريم.

غير خافٍ لديك - الأخ الدكتور باسم القروي - أن النجاح نسبي، ولا بد أن يكون لي قدر من هذا النجاح النسبي، إلى جانب قدر من الإخفاق؛ ومن ثم لا أشهد بأني ناجح، أو فاشل مطلقاً، ولكن أشهد بأني حققت قدرًا من النجاح في حياتي الأسرية، فأنا على وفاق كبير مع زوجتي وأبنائي، وإخواني، وقد مَنَّ الله علي بابن بار بي وبأمه، هو الآن يحضر الماجستير في جامعة لندن، في العلاقات الدولية، وببنت بارة أيضاً، ومتفوقة، هي في الفصول النهائية من المرحلة الجامعية، تخصص (جينات) في جامعة (وستمنستر) لندن، وتقدمني ابن ثالث هو الأصغر، أسأل الله أن يشفعه في، يوم ألقاه، ويبارك لي فيما أبقى من النسل والذرية.

كثيراً ما يشغلني العمل العام عن شؤون الأسرة، إضافة إلى العمل الأكاديمي، ومع ذلك أحاول قدر الإمكان أن تكون لي جلسات، فأنضبط أحياناً، وأنفلت أحايين كثيرة، ومن هنا لم يكن برنامجي مع الأسرة ثابتاً على نسق واحد، إلا أن من أهم ما فيه الجلوس معاً، سؤال الأبناء عن الإنجاز المدرسي، مراجعة التلاوة القرآنية؛ حيث كانت ابنتي تحرص على مادة القرآن في المدرسة، يوم كانوا معي في الرياض؛ ولهذا جاءت إجادتها للتجويد حسنة، كذلك ابني قراءته للقرآن جيدة.

وبخصوص وراثة القلم، فإني وحيد الأسرة في الاشتغال بالكتابة، لا أعلم سابقًا لي فيها، وأتوقع أن تكون ابنتي ابتهال هي الوريثة لي في هذا المجال، فقد حازت على جائزة أفضل إنتاج أدبي باللغة الإنجليزية، وهي في مرحلة تعليمها المتوسطي في لندن؛ لعل هذا يجعل منها وريثة قلم سابق، قلم أبيها، كذلك الابن مصعب حفظهما الله معًا، مجال تخصصه علاقات دولية، له الملكة الكتابية، إن تابع ذلك واهتم به، طبعاً باللغة الإنجليزية.

لا توجد الشيعة في أرتريا فما الذي جعل منك خصما للشيعة تناطحهم في الرسائل العلمية وفي المنابر الإعلامية ؟ هل تعيش معركة بلا مبرر جابر ؟ أما كان الأفضل للشعب الأرتري أن يتخصص أ.د. جلال الدين في خصوصياته شريعة وجغرافية وتاريخاً وتربية واقتصاداً وسياسةً ؟

نعم لا يوجد التشيع المنحرف في إرتريا، فقد وقاها الله شره، ونعم أنا خصم لهذا التشيع المنحرف، خصومة فكرية، شأن كل من يحفظ للصحابة رضوان الله عليهم جميعاً منزلتهم السامية، عند الله وعند رسوله، وعند المؤمنين، دون انتقاص لمنزلة أهل البيت، رضوان الله عليهم، لا يملك إلا أن يكون خصماً لهذا التشيع، وأنا لا أعيش معركة وهمية، ليس لها من مبرر، ولكن أخوض معركة مفروضة على الأمة، كلنا نرى آثارها في سوريا على نحو أبشع، تذكرنا بخيانة الوزير العباسي الشيعي ابن العلقمي، حين تحالف من منطلق طائفي صرف، مع التتار في اجتياح بغداد، والتنكيل بأهلها، وقتل الخليفة العباسي، إذن هي معركة حقيقية، لها ماضيها، كما لها حاضرها المشاهد الملموس، ولها رؤيتها المستقبلية، يفرضها علي تخصصي، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما هي القاعدة الأصولية.

وحملني على هذا التخصص دون غيره مما ذكرتم، رغبة ذاتية بالدرجة الأولى والأساسية، جاءت من دراسة مقالات بعض الفرق الإسلامية، في (كلية الدعوة وأصول الدين) بالجامعة الإسلامية، بالمدينة النبوية، في المجادلات العقدية، وإعجابي بإلزاماتهم العقلية، وبالردود المتبادلة بينهم، في المسائل الفكرية، ذات الصلة بالجانب العقدي، كما هي في المصادر المتخصصة، (مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين) للإمام أبي الحسن الأشعري، وكتاب (الفرق بين الفرق) للبغدادي، و(الملل والنحل) للشهرستاني، وكتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الظاهري رحم الله الجميع، وحين قُبِلتُ في الدراسات العليا، كانت الثورة الإيرانية بقيادة الخميني قد خلعت الشاه عام 1979م، وأعلنت تأسيس جمهورية إسلامية، ورفعت شعارين أحدهما (تصدير الثورة) والآخر (نصرة المستضعفين) وكان من جراء ذلك حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران من عام 1980 - 1988م، وفي هذه اللحظة وجدت في ذاتي رغبة في تسجيل موضوع عن التشيع، ووجدت تشجيعاً من أستاذي البرفسور سعدي مهدي الهاشمي حفظه الله، وهو عراقي، ووقتها ما كان اختيار موضوع كهذا سهلا؛ لندرة المصادر الأصلية، ولكني اقتحمت العقبة متوكلاً، وخضت المعركة البحثية مقتنعاً، واتصلت بالسفارة العراقية بجدة للسفر إلى بغداد، في رحلة علمية، فلم أوفق على الرغم من أني وسطت الأخ (عجيل) عضو تنظيم (اللجنة الثورية) وممثله في مكتب قوات التحرير الشعبية، الذي كان حينها في كيلو خمسة بجدة، ومع أنه لم يقصر في المساعدة، إلا أني لم أوفق، فسافرت إلى باكستان، وأمضيت فيها شهرين، جمعت خلالها أهم المصادر الأصلية، وأنجزت رسالتي بعنوان (الإمامة عند الشيعة الاثني عشرية) وأجيزت بتقدير ممتاز ولله الحمد، ثم واصلت في الموضوع نفسه، في بحث الدكتوراه، إذ كان بعنوان (المهدي المنتظر عند الشيعة الاثني عشرية).

تخصصي هذا ربطني بهموم الأمة الإسلامية، ولم يعزلني عن هموم الوطن الإرتري، فهو ذو صلة بأكثر من جانب؛ ولأنه بالجانب السياسي ألصق، جعل مني لصيقا بالتدافعات السياسية بموطني، إرتريا، وبالمجادلات السياسية الدائرة فيها، وعمق فِيَّ الاهتمام بالقضايا الفكرية، ذات التأثير السياسي، إذ كنت أقتني وما زلت من الإنتاج الفكري - أيا كان - كل ما تقع عليه عيناي، ما دام له صلة بالفكر الإسلامي السياسي، توافقاً، أو تناقضاً، توالياً، أو تعادياً، وكثيرًا ما كنت أتردد إلى (دار التقدم) بأم درمان في السودان - إذا ما جئت السودان في الإجازة السنوية - لأشتري منها كتباً ماركسية، من نحو (أصول الفلسفة الماركسية) وبعض معاجم المصطلحات الماركسية، فقد كانت هذه الدار بحكم توجهها الفكري، محلاً لترويج المصادر الماركسية، بثمن رخيص، وكلنا يدرك ما كان لليسار الماركسي حينها من نفوذ في الثورة الإرترية، حزب العمل في جبهة التحرير الإرترية، وحزب الشعب في قوات التحرير الشعبية.

ماشاء الله ! تبارك الله !

”بروفيسور“ درجة علمية وصلت إليها بصعوبة، بعد رحلة شاقة، بدأت بأنامل تتراجف عند مسك القلم، وكفٍ يصعب عليها كتابة حرف؛ بخط مستقيم على تراب يتعلق بعضه بعرق يتصبب من الجبين لضخامة المهمة .!! .هل أنت واثق الآن أنك بلغت منزلة الاجتهاد، يا صاحب القلم الأنيق، والثوب الأنيق، والقامة الأنيقة، واللسان الأنيق، وما العوامل التي جعلتك تصعد مراقي شامخات، وأنت من بيئة لا تحتفي كثيرًا بالعلم والعلماء إلا بمقدار ”شرافوت تنتهي بإكرامية تقدم لـــ سيدنا ؟

لا أقول إني بلغت منزلة الاجتهاد المطلق، ولكن في الوقت نفسه أستطيع أن أقول: أعرف منهجية الاجتهاد، لست إمعة، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، وإنما أنا مفكر أبذل قصارى جهدي في تنمية قدراتي العلمية والفكرية، وفي تحديد مواقفي من قضايا الفكر الإسلامي دون تجاوز النص القطعي في ثبوته، القطعي في دلالته.

والذي جعلني أصعد هذه المراقي، هو والدي الشيخ محمد صالح حاج حامد آل شباللا مؤسس مؤسسة أصحاب اليمين التعليمية بكرن، رحمه الله تعالى، وتقبل منه صالح عمله، إذ أخرجني من المدرسة الحكومية بكرن، بعد السنة الرابعة من المرحلة الابتدائية، وأدخلني معهد الدين الاسلامي بكرن، أول وأقدم معهد عرفته مدينة كرن، أسس على يد الشيخ القاضي موسى آدم عمران رحمه الله، أحد مؤسسي حزب الرابطة الإسلامية، ثم معهد أصحاب اليمين، ومن هناك سافر بي عام 1974م، عبر أديس أبابا إلى المدينة النبوية، وألحقني بالمرحلة الإعدادية، في متوسطة الجامعة الإسلامية، وهكذا مضيت في الدرب حتى حصلت على هذه الدرجة العلمية.

الطلاب الأجانب في الجامعة الإسلامية عندما يتخرجون كانت سفارات بلادهم تحتفي بهم وتهيئ مقامات وظيفية مناسبة بخلاف الطلاب الأرتريين.. كيف تصف لنا شعور الطالب الارتري المسلم عندما تنتهي إقامته بالمملكة العربية السعودية بانتهاء دراسته؟

كان وما زال حتى هذه اللحظة، لحظة ما بعد الاستعمار، شعور الطالب الإرتري بئيسًا وحزيناً، وحائراً، لا يدري أين يذهب، إذ لا وطن يحتفي به، ولا حكومة تستقبله، وقد زُجَّ بعدد كبير من الخريجين، في سجون الحكومة الارترية، عقب استقلال الوطن، واندحار المستعمر، ولا أحد يعرف مصيرهم، هل هم أحياء أم أموات ؟ ولا تقر حكومة أفورقي بوجودهم معها، بعد أن أخفتهم قسريا، عكس غيره من الطلاب الذين كانوا يعودون إلى موطنهم، فرحين مستبشرين بما أوتوا؛ يشغلوا وظائف تدر عليهم أرزاقهم، وتعلي من شأنهم المجتمعي.

أرتريا الوطن والشعب والدولة محتاجة إلى الكفاءات العلمية أمثالك..لم أنت تتعلق بأغصان الغربة؟ هل تجري خلف المرعى الأخضر يا بروف ؟

أدري، بلادي في حاجة إلي، وكنت أتمنى أن أعود إليها، ولكن حيل بيني وبينها، إذ باتت إرتريا طاردة لكل من فيها، فضلا من أن تستقبل العائدين إليها، فقد ابتليت بنظام سياسي، جعل منها جحيما لا تطاق، وإني على موعد معها، إذا ما انفرج الضيق، وهبت نسائم الحرية عليها، وزال عنها الكابوس الخانق.

مررت بتجارب في العمل الجماعي إذ كنت أصحاب اليمين وأنصار السنة والاتحاد الإسلامي وحركة الجهاد والفيدرالية والآن رابطة علماء أرتريا... لم هذا التنقل من غصن لغصن ؟ هل يسوقك الطموح الزائد إلى سقف لا زال حلمك البعيد والواقع غير معزز لبلوغه ؟

نعم مررت بتجارب في العمل الجماعي، ونعم أنا من (أصحاب اليمين) ولكن لم تكن أصحاب اليمين جماعة، وإنما هي مؤسسة تعليمية، درست فيها، كما درس فيها غيري، وما زالت حتى هذه اللحظة تقوم برسالتها التعليمية، ولم أكن عضوًا في جماعة أنصار السنة المحمدية، وكانت توجهاتي الفكرية على خلاف معها، وإن كانت توجهاتي العقدية على وفاق معها، بحكم دراستي للعقيدة السلفية في مؤسسة أصحاب اليمين التعليمية بكرن، كما لم أكن عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، من الناحية التنظيمية، ولكني أنا على وفاق مع الإخوان المسلمين في الطرح الفكري، وإلى إنتاجهم الفكري يعود فضل نضوجي السياسي، وتوسع مداركي الفكرية، الجهة الوحيدة التي عملت معها تنظيميا هي: الاتحاد الإسلامي لطلبة إرتريا، حركة الجهاد الإسلامي الإرتري، الحركة الفيدرالية، والآن رابطة علماء إرتريا، وكل هذه الكيانات من المتغيرات، لا من الثابتات؛ لأنها وسائل وليست غايات في ذاتها، والجمود على جانب منها يجافي سنن التطور، والإنسان متجدد بطبعه، ولا بد أن يتجدد، ومن لا يتجدد يتبدد، وحب التجدد وعدم الجمود هو الذي يدفع بي إلى التغير الفكري، وإلى التنقل التنظيمي أيضاً، متى ما دعت الحاجة، دون الإخلال بالثوابت والمبادئ، أما ترى أن النحلة تنط من زهرة إلى أخرى، فتمدنا بعسل مصفى، ولو جمدت على زهرة واحدة؛ لما كان عطاؤها شفاء للأسقام.

العمل الجماعي قيود بالمواثيق والولاء والأنظمة وكلمة وموقف يوجبان الصبر و الوفاء في العسر واليسر والسراء والضراء والمنشط والمكره وأنت تراه وسيلة لا غاية يا بروف وتجيز الخروج لنفسك متى شئت آخذا بشعار ”من لا يتجدد يتبدد“ فكيف تبنى كيانات جماعية دون ولاء وثبات قياداتها معها وكيف تكون قائداً يتبعك السرب وأنت تتنقل بين الأشجار ترعى الخصب و تترك رعية موالية محبة وأنت تبحث عن غيرها ؟

نعم، العمل الجماعي - كما قلتم - عهود، ومواثيق أبرمت، ولكنه ليس قيودًا وأغلالاً، تكبل الإنسان، وتجمد عقله، وترهبه من أن يخالف ويعترض، ويتحلل من هذه الأغلال، بحجة عظم نقض البيعة التي تؤخذ منه للأسف على أساس أنها بيعة الخليفة الراشد، تجب في المنشط والمكره، وأن من اعترض انطرد، يعني انطرد من رحمة الله، ومن انطرد إنما هو من الغنم القاصية، ليس له من مصير سوى الذئاب الكاسرة.

العمل الجماعي ليس هو هكذا، وإنما هو: حراك تكاملي، بين أفراد، على وفاق في قضية ما، يتعاونون في مناصرتها وبلورتها، التزاماتهم نحوها التزامات أخلاقية، ومن يختارون قائدًا منهم هو الآخر عليه الانضباط بما تواطأوا عليه من ضوابط تنظيمية إلى حين.

وفي إطار هذا الانضباط تتلاقح الأفكار وتتلاحق، وتتناسخ الآراء وتتزاوج، وتتبدل، وتتغير الهياكل التنظيمية، وتتطور المشاريع والأطروحات السياسية والفكرية.

وفي مسيرتي الحركية لم تأت تحولاتي تمردًا على المواثيق، ولا نقضاً لها، أو استخفافاً بالعهود، ولا خروجاً عليها، وإنما لأسباب موضوعية، كان منها استحالة هذه الكيانات التي انتظمت فيها إلى كيانات أخرى، غير التي كانت عليها، فالاتحاد الإسلامي لطلبة إرتريا نسخ بحركة الجهاد الإسلامي، حين حل نفسه، معلناً الالتحاق بها، وعلى الرغم من أني كنت أشد معارضة لإرادة الحل، والالتحاق بحركة الجهاد؛ لشعوري بأنها ولدت قبل اكتمال أشهرها، وطارت قبل تكامل أجنحتها، وحاولت أن لا نستعجل الرحيل إلى هذا الوليد الكسيح، إلا أن رغبة الحل والانصهار في الحركة كانت أقوى، فلم يكن أمامي إلا أن أمضي مع الماضين، احترامًا للقرار الجماعي، ووفاءاً بالعهود، والتزاماً أيضاً بالمتفق عليه، من تغليب رأي الأغلبية، واحترام رأي الأقلية، وهكذا أصبحت عضوًا في مجلس شورى حركة الجهاد الإسلامي، ومسؤولاً عن مكتب الإعلام الخارجي، انضبط بضوابطها، وأكون حيث تضعني، ولكن عندما استحالت حركة الجهاد إلى كيانات متدابرة، تتنابز بالألقاب، وفقدت بهذا خاصيتها، وماهيتها، رأيت أن أنبذ كل هذه الكيانات، ربما تقول لي: إن جناح التنفيذية هو الأصل، والبقاء معه هو الأصوب، وأقول لك: نعم هذا صحيح نظريًا، إلا أنه لا يغير من الواقع شيئا؛ لأن تعريف حركة الجهاد الإسلامي لا ينطبق عليه، كما لا ينطبق على المنقلب عليه، فالاستحالة إذن تحققت، إذا ما استعرنا لغة الفقهاء، في إنزال الأحكام بالحل أو الحرمة، على مادة محرمة استحالت إلى مادة أخرى، بفعل فاعل، أو بتلقاء ذاتي.

أما الحركة الفيدرالية فأنا أحد مؤسسيها، وأحد قيادييها الأوائل، وأحد الصامدين في وجه الآراء التشكيكية التي واجهتها، وأحد المنظرين لطرحها الفيدرالي، في حل إشكالية السلطة والثروة، وهو طرحي الذي ما زلت عليه حتى اللحظة؛ ولكن لأن العمل الأكاديمي حال دون الوفاء بالتزاماتي التنظيمية، من حضور اللقاءات لاتخاذ القرارات، ومنها قرارات مصيرية، لا يمكن أن تتحمل مسؤوليتها، ما لم تكن مشاركاً في صناعتها مباشرة، وليس من بعد، طَلبْتُ من عضوية مؤتمر الحركة - وهو آخر مؤتمر بالنسبة لي، عقد في مدينة حمرا - إعفائي عن الارتباط التنظيمي، ووافق المؤتمر، بعد أن تفهم عذري، وبقيت الصلة الفكرية مع الحركة الفيدرالية قائمة على سوقها، وما فعلت هذا إلا تقديرًا للعمل الجماعي، واحتراماً لعهوده ومواثيقه، وخروجي منها كان عبر مؤسساتها التنظيمية، وليس تراشقاً بالبيانات، وتبادلاً للاتهامات.

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click