المناضل/ محمد نور إدريس في حوار مع الإعلامي الأستاذ أبوبكر عبدالله صائغ - الجزء الرابع
حاوره الإعلامي الأستاذ: أبوبكر عبدالله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي
في تلك الفترة أتذكر بأن الساحة الإرترية كان يسيطر عليها تنظيمان كبيران، وهما جبهة التحرير الإرترية والجبهة الشعبية لتحرير
إرتريا، فجبهة التحرير الإرترية كانت قد تمكنت من تحرير عدة مدن إرترية مثل أغردات وتسني ومندفرا ومدن أخرى، والجبهة الشعبية أيضاً حررت إقليم الساحل الشمالي بأكمله وسيطرت على المدن الرئيسية فيه مثل نقفة وأفعبت وقرورة ثم تلتها مدينة كرن، ولم يتبقى تحت سيطرة قوات الاحتلال سوى مدن عدى قيح وبارنتو وجزء من مصوع وعصب والعاصمة أسمرا التي كانت تحاصرها الثورة من كل الاتجاهات، كانت معنويات الشعب الإرتري في الداخل والخارج مرتفعة جداً، أيضاَ الروح المعنوية للمقاتل الإرتري كانت تعانق السماء وكان الجميع على أهبة الاستعداد لدحر العدو عن المناطق والمدن التي كان يسيطر عليها، والمعارك التي ذكرتها لك في السابق كانت محاولات من العدو للسيطرة على المدن والضواحي التي تسيطر عليها الثورة، فمثلاً تحركت جيوش العدو من أسمرا نحو مدينة دقمحرى وتوجهت باتجاه "عدى حوشا" وجيش أخر تحرك من منطقة "سالا دعروا"، العدو حشد أعدادا كبيرة من جيوشه لاستعادة المدن التي سيطرت عليها الثورة، وكما ذكرت لك تواصلت المعارك على سبيل المثال معركة "سالا دعرو" التي كنت أحدثك عنها والتي سيطرت فيها الثورة على دبابتين وتم ملاحقة فلول جيش العدو حتى وصلنا الى مشارف منطقة "عدى قعداد"، ولكن الأوامر العسكرية التي وصلت إلينا كانت تقضي بالعودة الى مواقعنا التي تحركنا منها وهى منطقة تقع بين "سالا دعروا وعدى أب زمات". وذكرت لك بأن القائد الاثيوبي قال حين شعر بمرارة الهزيمة بأن الصراع مع الثورة الارترية لا يمكن حسمه عسكرياً وحينها أطلق عليه منقستو هيلي ماريام عدة رصاصات من مسدسه وأرداه قتيلاً.
المعارك كانت تدور في مناطق "سالا دعروا وعدى حوشا"، وباتجاه الشمال كانت تدور بدءاً من مناطق "بلزا" وحتى "عدى قمبلوا"، ولكن تلك المعارك كانت متقطعة والعدو كان محاصراً في مدينة أسمرا، استمر الحال هكذا حيث انتقلت وحداتنا الى ضواحي عدى قيح ثم قمنا بشن هجوم عليها بعد حصارها، وفي تلك الأثناء كانت تدور معارك عنيفة وشرسة في مدينة مصوع ولذلك تحركت أعدادا كبيرة من وحدتنا صوب مدينة مصوع لدعم القوات التي تحارب هناك، تبقت في ضواحي عدى قيح كتيبتين فقط من وحداتنا، حين شعر العدو بتحرك تلك القوات حشد جيشا كبيرا للقضاء على وحداتنا التي تبقت في ضواحي عدى قيح وقام بتنفيذ هجوم خاطف في تمام الساعة الرابعة صباحاً، حينها كنت ضمن الوحدات التي كانت ترابط في "عدى حوشا "، بدأت المعركة الساعة الرابعة صباحاً من يوم 1977/11/10م، استمرت المعركة حتى طلوع الفجر عبر تبادل الهجمات المعاكسة من الطرفين وأخيراً وفي حوالى الساعة التاسعة صباحاً بدأت وحداتنا تتقدم نحو مواقع العدو التي كانت تنسحب الى الخلف، قمنا بشن هجوم معاكس لدحر قوات العدو في تلك المحاولة تعرضت للإصابة، وفي تلك المعركة أتذكر أن نائب مرشد كتيبتنا استشهد ويطلق عليه ودى بوليس، كما استشهد عدد من قادة الكتائب والفصائل والمقاتلين، في تلك الاثناء كنت أشغل نائب فصيلة وقائد للمجموعة الأولى. وبعد تعرضي للإصابة نقلت الى المستشفى الميداني الذى كان موجوداً في منطقة "كودادو" ثم نقلت الى المستشفى العسكري الكبير الذى كان يتواجد في منطقة "عالا" وهناك بترت ساقي اليمنى.
استمرت المعارك في كافة الجبهات والمحاور وفي تلك الأثناء بدأ التدخل السوفيتي والكوبي لدعم قوات العدو التي أجهدتها ضربات الثورة، وإن العدو تمكن من حسم المعارك التي كانت تدور في جبهة الصومال واستعاد كافة المواقع ولذلك استعان بقواته التي كانت تحارب هناك للقضاء على الثورة الإرترية ولتحقيق نصر أخر يضاف الى تلك الانتصارات، حيث حرك وحدات من القوات التي كان يطلق عليها "كبرى هيلي" لأنها كانت أكثر عدداً مما كان يطلق عليه "طور سراويت" وبدأت مرحلة تدشين الحملات العسكرية.
وإن الحملة الأولى التي قدمت من إقليم تغراي واجهتها قواتنا ودحرتها، ولكن المعارك استمرت وبدأت الأسلحة السوفيتية تتدفق الى إثيوبيا وشوهدت الجيوش المدججة بالأسلحة تنقل الى إرتريا، وأصبحت في الساحة الإرترية قوتين غير متكافئتين من حيث العدد والعتاد والإمكانيات بجانب الخبراء السوفييت الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية الذين استعان بهم الدرق للقضاء على الثورة الإرترية، ونتيجة للفارق الكبير بين القوتين في الساحة الإرترية قررت الثورة الإرترية الانسحاب الاستراتيجي للحفاظ على قوتها بشكل منظم، وذلك باستدراج العدو واستنفاذ طاقاته البشرية والعسكرية، وحين بدأنا الانسحاب الاستراتيجي كنا منتشرين في كافة أنحاء إرتريا، ولذلك تم لملمت قوة الثورة والزحف ببطيء نحو الخلفية التي تم تحديدها لتكون نقطة مواجهة دائمة مع قوات العدو، أذكر في هذه السانحة إن الثورة الارترية كانت تحارب العدو بسلاحه وإن الآليات الثقيلة التي كانت تستولى عليها من العدو كان يتم صيانتها ثم استخدامها في القتال المواجهات العسكرية.
خلال حرب التحرير الطويلة التي خاضها الشعب الارتري وثورته أنجب قيادة حكيمة وكفؤة ومخلصة وصادقة وأمينة، بفضلها استطاع تحقيق الانتصارات ودحر العدو، ولو تكررت الجهود التي بذلت في عهد الثورة لصنعنا المعجزات مرة أخرى في إرتريا في كافة جوانب الحياة، وإن قرار الانسحاب الاستراتيجي الذى اتخذته الثورة كان قراراً حكيماً وشجاعاً، انسحبنا نحو الخلفية ونحن نقاتل العدو في كافة المواقع باستمرار، والمعارك كانت تدور في شمال أسمرا بشكل عنيف وخاصة في الحملة الثانية بالتحديد، انسحبنا من مصوع وضواحيها كما انسحبنا من ضواحي أسمرا والعدو كان يدفع بقوات كبيرة مدعومة بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة التي وصلت إليه من الاتحاد السوفيتي خصوصاً والمعسكر الاشتراكي عموماً، يذكر أن الحرب الباردة كانت مشتعلة بين القوتين العظمتين في تلك الأثناء والتنافس للسيطرة على المواقع الاستراتيجية كان مستمراً بينهما، والسوفييت أوعدوا نظام الدرق بمكافأته بكل ما يملكون ولذلك تدفقت الأسلحة إليه التي لم يسلم منها لا البشر والحجر في إرتريا، حاولت قوات الدرق القضاء على كل شيء ينبض بالحياة في إرتريا باستخدام كافة الأسلحة حتى الممنوعة منها دولياً، الثورة الإرترية بدأت تدافع وتنسحب نحو الخلفية وفي منطقة "عيلا برعد" جرت مواجهات عنيفة خاضها الجيش الشعبي ببطولة لا نظير لها دمر خلالها أعدادا كبيرة من الآليات الثقيلة واستولى على عدد منها، ثم ظهر العدو باتجاه شمال شرق الساحل عن طريق البحر وتحديداً في منطقة "أمعميدى" لقطع الطريق الذى كان يشكل المنفذ الوحيد للثورة عبوراً بأفعبت نحو الساحل لحصار قوات الثورة التي كانت تزحف نحو الخلفية انطلاقا من ضواحي مصوع، وكذا القوات القادمة من ضواحي كرن ليتثنى للعدو محاصرة الثورة ثم القضاء عليها، وإن بطولات المقاتل الإرتري واستبساله سوف لن أجد لها العبارات المناسبة لشرحها، بل ولم أقرأ نظيراً لها في كتب التاريخ، فتصور معي مقاتل يمشي مسافات طويلة سيراً على الاقدام وهو يحمل على كتفه كل ما يملكه من سلاح وعتاد ثم يدخل في معارك متواصلة مع العدو دون أن يأخذ قسطاً من الراحة، بل ولم يتناول حتى الطعام لعدم توفره، وإن المستوى الذى كان يقاتل به المقاتل الإرتري لم يصل إليه أي مقاتل أخر في التاريخ، وهذا ما شاهدته بعيني، تجمعت القوات من هنا وهناك ووصلت الى "أمعميدى" وجرت مواجهات عنيفة تشتت على إثرها قوات العدو بإتجاه البحر، لأن جزء من قوات العدو جاءت عبر البحر عن طريق "مرسي تكلاى" وجزء أخر جاء براً عن طريق مصوع، تم دحر قوات العدو وبسببها اضطررنا الى الانسحاب من منطقة "عيلا برعد"، أيضاً جاءت قوات العدو عن طريق بركة بمنطقة دلك وبسببها اضطررنا للانسحاب من مدينة كرن، استمرت المعارك هكذا، ثم جاءت قوات العدو بشمال شرق الساحل باتجاه "أمهميمي وأوقت"، في محاولة للسيطرة على خلفية الثورة، واجهته قوات الثورة بعد أن تحركت مشياً على الاقدام وتمكنت من إلحاق الهزيمة بقوات العدو التي كادت أن تصل الى مقر قيادة الثورة في منطقة "فح"، ثم منطقة "بليقات" التي كان يتواجد بها أعداد كبيرة من المعاقين ومعسكرات الشعب، تشتت قوات العدو مرة أخر في السهول المنبسطة المحيطة بتلك المناطق، وهكذا اكتمل الانسحاب الاستراتيجي، وبعد أن وصلت الثورة الى النقطة التي حددتها، تكون محور المواجهة مع قوات العدو وهى جبهة نقفة.
يتبع... في الجزء القادم