المناضل/ محمد نور إدريس في حوار مع الإعلامي الأستاذ أبوبكر عبدالله صائغ - الجزء الثاني
حاوره الإعلامي الأستاذ: أبوبكر عبدالله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي
يواصل المناضل/ محمد نور إدريس حديثه فيقول: حاصرت قوات الجيش الشعبي مدينة نقفة، وقوات الثورة بدأت تنتشر في ضواحي
أفعبت وكرن، وأنا كنت ضمن القوة التي حاصرت نقفة لمدة ستة أشهر متتالية، وبعدها بدأنا معركة ثانية لتحرير مدينة نقفة، خلال فترة الحصار كانت حياة المقاتل صعبة جداً لانفصال البعثة الخارجية عن التنظيم وقلة الإمدادات الغذائية، وأستطيع أن أقول لك اليوم بأننا عشنا لحظات يمكن وصفها بأسوأ من المجاعة، لعدم توفر الغذاء وخاصة في جبهة نقفة، المقاتلين كانوا يعتمدون في غذائهم على ثمار الأشجار ليأكلوها، وكل الخضروات ومختلف الأشجار بالإضافة إلى ثمار التين الشوكي (البلس) عند حلول موسمه، وكذلك الحيوانات البرية التي كانت تتواجد في تلك المنطقة بكثافة كانت هدفاً للمقاتل باعتبارها من أهم الأغذية التي كان يعتمد عليها، كما أن بعض المقاتلين الذين التحقوا بالثورة من الريف كانوا يحفرون جذور الأشجار وعروقها لاستخراجها ومن ثم أكلها، وأن الثروة الحيوانية التي تتواجد في ضواحي مدينة نقفة مثل الغزلان وغيرها اعتمدنا عليها لفترة زمنية محددة في الغذاء، بل وحتى "الحلوف" الذى كان يعيش في تلك الضواحي شكل في فترة ما غذاء للمقاتل، وهكذا استفاد المقاتل من الثروة الحيوانية التي كانت تتواجد في تلك المنطقة، لتجاوز الضائقة الغذائية، لقد واجه الثوار مصاعب أكثر تأثيراً حتى من المجاعة، ولكن بفضل إصرار المقاتل وصموده وعزيمته وبالحب والتآلف تمكنا من التغلب على تلك الظروف، أيضا الملابس كانت شبه معدومة والمقاتل كان يمشى مرتديا ملابس لا تتجاوز مقدار ما يغطى عورته، وأتذكر كان معنا مقاتل في مجموعتنا اسمه ودى تافلا، كان يرتدى بنطال طويل لطول قامته، جمعه من قطع القماش التي كان يجلبها له المقاتلون، وبما أن قطع القماش كانت من مختلف الألوان كان يقوم بترقيع الفتحات الممزقة ببنطاله بتلك القطع الملونة، بحيث أصبح رفاقه يطلقون على بنطاله، (العَلَم العالمي)، كانت معاناة المقاتل في جبهة نقفة لهذه الدرجة، أيضاً الأحذية كانت غير متوفرة ومعظم المقاتلين كانوا يمشون حفاة عراة، وأتذكر في إحدى المرات قيل لي أذهب للقيام برحلة استطلاع حول نقفة لمعرفة أماكن تواجد الحيوانات البرية، وتحركت من نقفة باتجاه ضاحية "معت"، ولم أجد فيها أي أثر للحيوانات، واصلت السير حتى وصلت منطقة "وقريت" ولم أجد فيها أي حيوانات تذكر، توجهت باتجاه "رورا بقلا" ولم أجد شيء اصطاده، سألت القاطنين في تلك المناطق عن أماكن تواجد الحيوانات البرية، قيل لي أذهب لمنطقة "عرت" بعنسبا التي يستقر بها "الحلوف" بأعداد كبيرة، مشيت برفقة المجموعة التي يقدر عددهم بسبع أشخاص ثلاثة أيام حتى وصلنا الى منطقة "عرت"، وفعلاً وجدنا أعداد كبيرة من حيوانات الحلوف، مكثنا ثلاثة أيام في تلك المنطقة لاصطياد أعدادا أكبر من الحلوف، وفي النهاية تمكنا من قتل ثلاثين "حلوفا"، صدقني لوقلت لك إن اليوم الذى كرهت فيه حياتي في الثورة كان هذا اليوم، لأن الجماعة الذين كانوا معي لا يعرفون تحميل الجمال والحمير لأنهم التحقوا بالثورة من المدن وأنا كنت أفضلهم، حملنا الثلاثين "حلوف" على ظهر ثلاثة جمال وتحركنا حتى وصلنا الى نصف العقبة في طريق العودة، العقبة مرتفعة جداً ووعرة ولا يمكن أن تعبرها الجمال وهى محملة باللحوم ولذلك قررنا وضع اللحوم على ظهور الحمير، والجمال دون تقطيعها فقط استخرجنا منها الأحشاء الداخلية حتى لا تتعفن وتصدر روائح كريهة بالرغم من ذلك بدأت اللحوم تصدر رائحة كريهة، وصلنا إلى نقفة بعد مضي ثلاثة أيام في رحلة شاقة وطويلة، وإن الرحلة كانت متقطعة لوعورة الطريق حيث تحركنا باللحوم في البداية على ثلاثة جمال وحين وصلنا العقبة استبدلناها بالحمير حتى وصلنا "رورا بقلا"، وفي بقلا استبدلنا تلك الحمير بحمير أخرى حتى دخلنا نقفة، وحين وصلنا الى نقفة وجدنا المقاتلين في حالة يرثى لها من الجوع، وحين شاهدوا القافلة المحملة باللحوم فرحوا وفوراً حملوا اللحوم التي كانت شبه معفنة وظهر عليها الدود في داخلها ووضعوها على النار وغمروها بالمياه، الحشرات والدود بدأت تطفوا على السطح عندما بدأت المياه تغلى، استخرجوها ثم بدأوا يأكلونها وكأنها لحوم طازجة ذبحت للتو، استمر الحال هكذا حتى نفادها، استدعتني القيادة للسفر مرة أخرى الى "عرت" لإحضار لحوم أخرى، أتذكر كنت مصاب بمرض الملاريا أعطوني الأدوية وقالوا لي لازم تتحرك فوراً لأن الجنود سوف يموتون من الجوع إذا لم تذهبوا لإحضار اللحوم، تحركت برفقة مجموعة أخرى، وكان معنا أيضاً أحد القناصة الماهرين وهو مدفعجى برين معروف، وصلنا الى "عرت" وقضينا بها حوالى اثنى عشرة يوما، حيث بدأنا في تقطيع اللحوم وتجفيفها، ثم شحناها على ظهر الجمال والحمير وتحركنا حتى وصلنا الى نقفة، المعاناة والمآسي التي كنا نواجهها في جبهة نقفة لا حصر لها، أيضاً كنا نعانى من نقص في الأدوية بالرغم من أن المقاتلين كانوا لا يصابون بالأمراض، هذا نموذج من الحياة التي كان يعيشها المقاتل في جبهة نقفة تحديدا، إلا أن الإصرار والعزيمة والصبر حتى تحقيق الأهداف شكل دافعاً قوياً لنا، وكان الهم الوحيد الذى يراود الجميع هو أن النصر سوف يأتي بالإرادة والتضحيات الجسام وسلوك درب التحدي.
إضافة الى ذلك بأن التثقيف السياسي كان مستمراً جنباً الى جنب مع مواجهة العدو، أيضاً دروس محو الأمية كانت مستمرة هي الأخرى، وإن المواطنين الذين كانوا في مدينة نقفة خرجوا مع الضربة الأولى، استقر جزء منهم في ضواحي نقفة وكانوا عوناً للمقاتل بكل ما يملكون وجزء منهم غادر الى السودان واستقر في مختلف المدن، الظروف كانت قاسية في تلك الفترة لعدم هطول الأمطار وانعدام الزراعة والثروة الحيوانية رحلت من تلك الضواحي، وبالرغم من قساوة تلك الظروف إلا أن المواطن كان يقدم كل ما يملكه للثورة وللمقاتل تحديداً، وكان من الصعب معرفة المقاتل من الشعبي في تلك المناطق.
قبل الهجوم على مدينة نقفة بدأ الحصار يشتد ويضيق على قوات العدو التي كانت ترابط في المدينة يوماً بعد يوم، وبعد مرور عام بدأ الجيش الشعبي في تنفيذ الهجوم على نقفة وكان ذلك في سبتمبر من عام 1976م، واستمرت المواجهة لمدة ستة أشهر متتالية ضيق الثوار خلالها الخناق على قوات العدو، والهجوم الليلي كان مستمراً، وبعد الانتهاء من فعاليات المؤتمر التنظيمي الأول قررت الثورة حسم معركة تحرير نقفة بشن هجوم كاسح عليها ودحر فلول العدو وتدميرها مرة والى الأبد، وأتذكر أن المقاتلين كانوا يقولون للشهيد/ على سيد عبدالله لماذا لا ننفذ الهجوم النهائي خلال فترة النهار، وكان يرد عليهم لا تستعجلوا سوف ننتقل الى مراحل أخرى، بعد إجراء تقييم شامل لكل الأوضاع وبناءاً على رغبة المقاتلين والمسؤولين تقرر تنفيذ الهجوم الأخير على مدينة نقفة خلال ساعات النهار، وإن شعار تحرير الأرض والانسان تدريجياً ترجم فعلياً بتحرير مدينة نقفة، وبدأ الهجوم الساعة العاشرة صباحاً من يوم 22 مارس عام 1977م، استمرت المعركة طيلة فترة النهار لأن الضباب الذى غطى المدينة أسهم في تأخير ساعات الحسم، وفي تمام الساعة الرابعة عصراً اكتملت السيطرة على مدينة نقفة، إلا أن الإعلان عن تحريرها كان في يوم 23 مارس.
هناك أحداث لم نتعرض لها بالحديث والتي جرت خلال المعارك الطاحنة التي خيضت لتحرير مدينة نقفة، العدو كان يستميت للدفاع عن مدينة نقفة، باعتبارها منطقة استراتيجية من الناحية العسكرية، وحتى القائد العسكري الذى كان يتواجد في نقفة واسمه مامو كان يقول لجنوده لو انهزمنا في نقفة وانسحبنا من الساحل الشمالي فكأننا فقدنا السيطرة في شمال إثيوبيا، وبالتالي نكون قد قطعنا رقبة إثيوبيا بأيدينا، وحكومتنا سوف لن تتهاون معنا ولذلك يجب عليكم الصمود حتى تصل إلينا قوات الدعم التي تحاول الوصول الى نقفة، كان يقول هذا الكلام لرفع الروح المعنوية لجنوده وهذا ما يؤكد بأن إثيوبيا لم ترغب يوماً ما في التنازل عن نقفة مهما كان الثمن.
يتبع... في الجزء القادم