مشاهد من رمضان.. لا أنساها
بقلم الأستاذ: محمد علي صالح هنتولاي
من مشاهد رمضان التي تختزنها الذاكرة.. وأتذكرها كلما حل هذا الشهر الكريم وكلما شعرت بالحنين إلى رمضان في مدينتنا الوادعة
الجميلة.. قرورا فاقر شاكاتو.. هو مشهد عمنا شريف النفس كريم الخصال.. لم تكن لديه مهنة بعينها.. لكنه لم يكن ليركن إلى الكسل بحجة أنه ليست لديه مهنة أو وظيفة..
كان ينقل الحجارة من الجبل إلى وسط المدينة على حماره الضعيف.. حتى لا يفطر على صدقات أو إشفاقات تأتيه وهو جالس بلا حول ولا قوة.. فبارك الله على كل يد تكد حتى تتعب.. وكل جبين يتصبب عرقاً من أجل لقمة عيش كريمة. كانت تلك وسيلته للعيش طوال أيام السنة.. يطعم منها زوجته وبنته الوحيدة الأرملة بطفلتها اليتيمة..
كان ينقل الحجارة على حماره بسرجٍ خشبي مصمم على شكل صندوق من حاويتين على جانبي الحمار (حويت عجي) كان هذا السرج مخصصا لنقل الحجارة.. فهو مصمم بحيث تكون قاعدته عبارة عن سرج عادي يوضع على ظهر الحمار.. ومن أعلاه حاويتين على الجانبين لوضع الحجارة الثقيلة..
كان عمنا عليه رحمة الله.. يبدأ عمله مع ساعات الصباح الأولى من نهار رمضان.. يقوم بتحميل الحجارة على ظهر الحمار.. ثم يقوم بتنزيلها بعد أن يصل إلى موقع البناء وهذه في حد ذاتها مهمة في غاية الصعوبة لشيخ مثله تجاوز السبعين عاماً يومذاك.. لكنها المروءة وعزة النفس..
لم يكن في نصيبه في هذه الدنيا ولد يحمل عنه مصاعب الحياة بظروفها المعيشية القاسية وحجارتها الصماء التي كان عليه أن ينقلها كل يوم على حماره الصابر المسكين.. مقابل جنيها قليلة جداً.. لا تكاد تفي بالاحتياجات اليومية التي بالكاد تغطي تكاليف حلة ملاح متواضعة جداً.. قوامها لا تجاوز سليقة خفيفة.. من نصف ربع كيلو لحمة.. (لأن النصف الآخر من الربع تدخره زوجته الصابرة ليوم غد) وشوية طحين من الفيتريته أو الحجيري.. لصنع الكسرة.. تجتمع عليه الأسرة لتفطر عليها..
لم يكن يبالي بالظروف.. ولم يكن يشعر بالضجر من شدة الحياة وقسوتها عليه.. كان يوزع تحايا الصباح على كل الذين يمر بهم (سني مويام مامي.. عد كلو نسي تميا؟).. يطمئن على الجميع.. هكذا كان يحي كل من يقابلونه وهو على طريقه من الجبل بحماره المحمل بالحجارة.. أو عائداً إلى الجبل لتحميل الحمار من جديد.. كان لسانه رطباً بذكر الله..
العرق الذي يتصبب من جبينه ذي الخطوط المتجعدة التي أصبحت كالأخاديد.. والعرق الذي يسيل إلى صدره وعلى ظهره فيبلل العراقي.. كانت كميات العرق تلك تتسب في نفاذ كمية المياه من جسمه في وقت مبكر.. وبعد أن يشتد حر الشمس في نهار رمضان.. لا تكاد تسمع صوته من شدة الجفاف.. يواصل عمله دون كلل أوز ضجر حتى تخور قوى الحمار من شدة التعب..ثم يعود إلى بيته.. ليستريح قليلا.. يبلل ثوبه لينام به ساعة أو مثلها ثم يستعد ليلبس ثوبه الأبيض ويتوجه إلى مسجد قرورة العتيق لأداء صلاة الظهر في الصف الأول.
كان عمنا هذا نموذجاً للرجل الشريف النبيل.. لم تغادر صورته تلك مخيلتي.. رحمه الله وأسكنه الجنة.. وجزاه الله خير الجزاء على صبره وعزة نفسه.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.