من الذاكرة مدرسة أغوردات الثانوية الفكرة والتنفيذ
بقلم الأستاذ: عبدالله أسد المصدر صفحة: يوسف كوشي
قبل افتتاح مدرسة كرن الثانوية في الستينيات من القرن الماضي؛
لم تكن في أي من مديريات سنحيت والساحل وبركه أية مدرسة ثانوية!
قد يتخيل المرؤ الصعوبات التي كانت تواجه أولياء الأمور في ارسال أبنائهم وبناتهم في ذلك الزمن العصيب الى مدارس ثانوية؛ أقربها حينذاك، تلك التي كانت في اسمرا، على بعد مئات الكيلومترات من مدنهم وقراهم. كم كان يشُقُ على ولي الامر في ام حجر مثلاً، ان يبعد عنه ابنه المراهق او ابنته ما يقارب الخمسمائة كيلومترات، وينام ملئ جفنيه!
بالإضافة الى ذلك الضيق النفسي؛ كان ولي الامر يعاني من ضيق مادي في ارسال ابنائه الى اسمرا حيث كانت تكاليف المعيشة من ايجار سكن وخلافه باهظة بالنسبة لدخله، كما كانت اجرة المواصلات الى اسمرا عبئً فوق امكانيات بعض أولياء الأمور مما اضطرهم على ارسال ابنائهم للدراسة في مدن سودانية حدودية قريبة من مدنهم، مثل كسلا وبورتسودان. عانى ولي الأمر الكثير من ذلك الوضع وجعل امر مقاطعة ابنائه لدراساتهم في منتصف الطريق، واقعاً مراً ومستفزاً.
بعد افتتاح ثانوية كرن؛ تنفس أولياء الأمور في كرن وضواحيها الصعداء كما تحسن الوضع نسبياً، لأولياء الأمور في المدن القريبة من كرن مثل اغوردات وبارنتو غرباً ومدينة “نقفه” شمالاً؛ و لكن استمرت بعض الصعوبات النفسية و المادية بسبب ضرورة انفصال الأبناء عن أسرهم و بالتالي اضطرار رب الأسرة على توزيع دخله المحدود اصلاً بين عيش الأسرة لديه وبين ابنه او بنته او كليهما، في كرن! أما بالنسبة لسكان المدن الأبعد مثل أم حجر، وقلوج، وتسني، و”علي قِدر”، وهيكوته، فالوضع لديهم لم يتغير كثيراً بوجود الثانوية في كرن؛ فواصل بعض أولياء ألأمور إرسال أبنائهم إلى ألسودان كما استمر انسلاخ بعض الابناء عن الدراسة بعد إتمامهم ألمرحلة المتوسطة!
كان حرمان أبنائنا من التقدم في التعليم، وبالتالي حرمانهم من تحسين أوضاعهم المعيشية وتطويرها، واحداً من اهم أسباب السخط الشعبي المتنامي ضد إثيوبيا في تلك المديريات. كان تأثير الظلم غائراً في نفس كل طالب حُرِم من مواصلة دراسته، كما كان الإحساس بالظلم متجذراً في دواخل كل أب يرى مستقبل أبنائه ينساب من بين أصابع يديه، الى الضياع مع كل يوم ينقضي من أعمارهم؛ وتخيله لضنك العيش الذي في انتظارهم نتيجةً لذلك الحرمان! هذه الظروف التي أدت إلى حرمان الكثير من شباب تلك المديريات، من التعليم وما ترتب عنه من كدر العيش و ”ضمور“ الأمل بالمستقبل واليأس المُقعِد الّح على أبناء تلك المديريات، بالوقوف مع أنفسهم والبحث الجاد، عن أسباب تخلف مناطقهم، ليستخلصوا ان السبب الرئيسي لكل اشكال التخلف كان القصور في أسباب التعليم.
بلغ أليقين مداه لدى أبناء تلك المناطق، بأن العِلمَ هو المحرك الضروري لدولاب الحياة بخطى مثبتة بالإرادة ومكرسة بالتصميم! ذلك العلم الذي يصقل العقل ويصفي الروح وينقي البدن من الشوائب. العلم الذي لا يتوقف، ولا يجوز أن يوقفه أحد عند حد معين، باختلاق قيود تحت أي ذريعة كانت. من هذا اليقين والإدراك ألعميق بأهمية العلم، تحركت حفنة من أبناء تلك المناطق، وبتصميم عال على الا تتوقف مسيرة التعليم في مناطقهم على الاطلاق. وبالتالي قرر المواطنون أن يسارعوا في بناء صروح تعليمية وتطويرها كماً ونوعاً، حسب متطلبات حاضرهم ومقتضيات مستقبلهم؛ فأتت ضرورة افتتاح مدرسة ثانوية في مدينة أغوردات، لبنة لصرح تعليمي نوعي في المنطقة.
كان إنشاء مدرسة ثانوية في تلك المدينة مطلب كل أبناء المنطقة. ولكن كما هو معروف تنشأ الفكرة، أية فكرة كانت، من فرد او مجموعةٍ قليلة ومن ثم يتبناها المتحمسون ويقوموا بتنفيذها. ولم تشذ فكرة إنشاء ثانوية أغوردات عن هذه القاعدة؛ فكانت هذه القلة المتحمسة، والتي قررت تَبَني الفكرة وصممت على إنجازها عملياً، من أبناء المنطقة التالية أسمائهم:-
1. د. جعفر الخليفة أبوبكر كان حينذاك محاضراً في كلية المايا بمنطقة هرر الإثيوبية.
2. السيد/ عمر محمد همد كلفي كان عضواً في مجلس النواب، ينوب عن مواطني المديرية الغربية.
3. الأستاذ/ صالح محمد محمود كان طالباً في عامهِ الأخير بكلية التربية في جامعة هيلي سلاسي الأول. (رحمهم الله جميعاً إن شاء الله).
4. الأستاذ/ عبدالله علي أسد كان طالباً في الصف الثاني بكلية التربية في ذات الجامعة.
كنا الأربعة نجتمع عند كل زيارة يأتي فيها الدكتور جعفر إلى أديس أبابا. وكانت زياراته متكررة لارتباط عمله بإدارة الجامعة في أديس أبابا.
ووضعنا خطة للتحرك، وكانت من شقين:-
الشق الأول: أن يتحرك د. جعفر والسيد/ عمر كلفي في أروقة وزارة التعليم في أديس أبابا لطرح المطلب على المسؤولين في الوزارة؛
الشق الثاني: أن يتحرك الاستاذان/ صالح وعبد الله أسد على ضوء نتائج زيارة وفدنا للوزارة.
لم تكلل لقاءات وفدنا بمسؤولي الوزارة بالنجاح، حيث تحججت الوزارة بعدم وجود بند في الميزانية المالية لتلك السنة؛ لتشغيل مدرسة ثانوية في مدينة أغوردات. بعد تشريح حجة الوزارة، قررنا أن يعاود وفدنا الكرة مع الوزارة مستخدماً كل ما لديه من كروت ضغط! أعاد الوفد طرح المطلب من جديد، ولكن بشكل اقوى.
أكد السيد/ عمر بأن المواطنين الذين يمثلهم يطالبون وبإلحاح بمدرسة ثانوية في مدينة أغوردات، ولو كان ذلك بالاعتماد على إمكانياتهم الذاتية، كما لوح السيد/ عمر وقتها؛ ببطاقته البرلمانية والتي صرح بأنه سوف لا يتردد في تفعيلها لدى أعلى سلطة في البلاد (الإمبراطور) إذا أضطر! وكان لهذا الكرت القدح المعلى كما كان للحجج الدامغة والمقنعة من قِبل الدكتور/ جعفر دورها في رضوخ الوزارة!
استشعرت الوزارة، على ما يبدو، بحساسية ألموضوع، فقررت استقطاع وتحويل مبالغ من بعض بنود الميزانية المالية لذلك العام لتأثيث المدرسة؛ حيث كان ألبناء قائماً بالكامل منذ بضع سنين بعون من السويد! ولكنها، أي الوزارة، نوهت بعدم قدرتها على توفير كادر إداري وفريق للتدريس للسنة الدراسية الأولى!
نحن، من جانبنا فسرنا ذلك التنويه بأنه شرط تعجيزي ليس إلا، أرادت به الوزارة ثنينا عن السير قُدُماً بمطلبنا، كما أكدت الأيام لاحقاً عند بدئ إجراءات افتتاح المدرسة. لكننا حملنا التنويه محمل الجد فبدأنا الاستاذ/صالح وشخصي في رسم خطة عملية بقدرالإمكان تكونت من شقين:-
أ) الكادر الاداري للمدرسة:
ب) فريق التدريس:
أ) أما بالنسبة للكادر ألإداري، فاقترحنا أن يتعاقب أبناء المنطقة التالية أسماءهم في إدارة المدرسة خلال السنين الاولى:-
1. الأستاذ/ عبدالله كرار محمد هداد ركا (رحمه ألله) وكان حينذاك مديراً لمدرسة ثانوية بمدينة “أربا منتش” في إثيوبيا، على أن يُنقل إلى أغوردات كمدير للمدرسة عند افتتاحها؛
2. الاستاذ/ صالح محمد محمود ليخلف عبدالله كرار في إدارة المدرسة بعد تخرجِهِ إذا دعت الظروف لذلك؛
3. الاستاذ/ عبدالله علي أسد أن يخلف الاستاذ/ صالح في إدارة المدرسة؛ إذا اقتضت الظروف.
ب) بالنسبة لفريق التدريس، فقمنا الاستاذ/ صالح وشخصي بحصر عدد الطلاب من أبناء المنطقة والذين كانوا يواصلون دراساتهم ألجامعية بالكليات ألمختلفة في جامعة هيلي سلاسي الأول بأديس أبابا حينذاك؛ مع تحديد تخصصاتهم ألأكاديمية وسنين تخرجهم.
وكان من ضمن ألقائمة، إذا أسعفتني الذاكرة، الطلبة التالية أسمائهم:-
1. الطالب/ محمد حامد شريف – رحمه الله.
2. الطالب/ محمود نجاش.
3. الطالب/ ياسين بادمي.
4. الطالب/ محمد خير عمر.
5. الطالب/ محمود محمد نور.
6. الطالب/ علي محمد إسماعيل.
7. الطالبة/ مليكة شيخ الدين.
8. الطالب/ عثمان بادمي- رحمه الله.
9. الطالب/ بشير إسحاق.
10. الطالب/ عبدالله داوود ركا – رحمه الله.
11. الطالب/ إبراهيم بادمى.
12. الطالب/ برهاني هزقيل.
حولت وزارة التعليم الملف من اديس أبابا إلى إدارة التعليم في اسمرا، وكان ألمدير ألعام لإدارة التعليم في إرتريا حينذاك اتو/أسرات باولوس ألإثيوبي، وكانت للدكتور/ جعفر معرفة مسبقة بهذا الرجل. بعد الاطلاع على تفاصيل خطتنا وخصوصاً الجزء المتعلق بفريق التدريس؛ قال اسرات باولوس معلقاً، للدكتور/ جعفر بان الوزارة في أديس كانت تشك في مدى جديتنا، وكانت تجارينا فقط لقناعتها بعدم قدرتنا على تجاوز العقبات؛ وراهنت كثيراً على عقدة توفير كادر التدريس!
ألمهم تم افتتاح المدرسة وبدأت الدراسة فيها في العام 1972 تحت إدارة الاستاذ/ صالح محمد محمود.
ولكن كما ألمحنا أعلاه، ما كان تنويه الوزارة إلا لإرغامنا على التخلي عن الفكرة، وليس لعجزها عن توفير الكادر الضروري لسير المدرسة، والدليل استبعاد الوزارة فكرة الاستعانة بفريق التدريس من أبناء المنطقة، وحرصها على إرسال طاقم تدريس متكامل من ألإثيوبيين لأسباب قد لا تخفى عن الكثيرين من القراء! وهكذا، لم تُنفذ خطتنا كما تمنينا لها، ولكنها في النهاية أدت غرضها ألأساسي وهو إحراج وزارة التعليم وإرغامها على فتح المدرسة!
أدار الاستاذ/ صالح محمد محمود المدرسة باقتدار، لأكثر من عامين دراسيين، متمنياً أن يجعل منها ثانوية نموذجية على مستوى ألوطن! ولكن شاءت الاقدار أن تحل بمدينة أغوردات، المظلومة دوماً، تلك المذبحة ألمشهورة (ألأحد ألأسود) في 9 مارس 1975 لتتعطل الدراسة فيها إلى ما بعد التحرير.
أقوردت - الاحد الاسود ”الاحد الأسود“…
بات عنواناً لبندرنا قتلونا ظلماً…
واحرقوا دورنا وديارنا سال الدم انهار…
وكسى السماء دحان و”شكمتيت“ الباكية..
تساقطت احزان..
هجرت الطيور اوكار.. والدواب اوطان
وبات شعبي شريداً.. فآواه شقيقه السودان
حتى يسترد أنفاسه.. ليرد الصاع صيعان
”اقوردت“ هو اللفظ الصحيح ل”اغردات“ حسب ما ينطق به اهل المدينة الأصليين.
”شكمتيت“ هي ثمرة الدوم ”عكات“ قبيل استوائها.
جمع ”صاع“