كيف كان الشاب القندعاوي يختار شريكة حياته
بقلم الأستاذ: إدريس إبراهيم أيم (أبو بلال) كاتب إرتري - لندن، المملكة المتحدة
يوجد عامل مشترك بين كل المدن الإرترية فيما يتعلق بالأحوال الاجتماعية والأسرية
ومن ضمن ذلك المصاهرة والمزاوجة.
وأحببت هنا أن أشارك الآخرين وأعود بكم إلى ذكريات الزمن الجميل، عن ذكريات طفولتي في مدينتي المحبوبة قندع، بصفة عامة المجتمع الإرتري مجتمع محافظ في أصله، ومتمسك بدينه وعاداته وتقاليده.
ولذا كان لديه طرق وأساليب للتقريب بين الأسر بغية المصاهرة والتزويج بين الطرفين الرجل والمرأة.
من دون الإخلال بالآداب المتعارف عليها وعدم الخروج من المألوف لدى المجتمع منذ عشرات السنين، فلقد كان لقندع خصوصيتها مثلها مثل اي مدينة إرترية أخرى.
في حقبة الاحتلال الإثيوبي، فقد كان المجتمع الإرتري يرى نفسه مستهدفا ومضطهدا، وكانت تحيط به الأخطار من كل حدب وصوب.
ولذا كان حريصا كل الحرص على الدفاع المستميت لعقيدته وإيمانه بها، والذود عن عرضه بأي ثمن كان.
فكان عليه لزاما أن يأخذ كل الاحتياطات وتجنب الشبهات، وما يغزوه من خارج محيطه من قبل أفكار الآخرين من خارج بلاده.
قندع المدينة الصغيرة الوديعة، والتي لم يتجاوز عدد سكانها العشرين ألفا من البشر، كانت تقع بين قاعدتين عسكريتين، قاعدة دونقولو (كوماندوس طورسراويت ونيفي البحرية)، وقاعدة امات كلات قاعدة أخرى للبحرية.
في نهاية عطلة الاسبوع من مساء كل الجمعة، وايام السبت، والأحد كان جند الجيش الغاصب يأتون إلى قندع للترفيه كان هؤلاء الجنود يكونون في حالة من السكر، وتصدر منهم تصرفات غير لائقة والتي تتنافى مع عادات وتقاليد المجتمع، في نفس الوقت كان هذا الوضع مصدر قلق للأهالي مما كان يزيد من خوفهم على تربية أولادهم، حتى لا تكون لهذه الأفعال المشينة من آثار سلبية على الجيل الجديد.
ومن المعلوم في مجتمعنا عندما تصل البنت للرابعة عشر من عمرها لا تختلط بالأولاد أثناء اللعب، وتمنع من الخروج من البيت، حتى للذهاب إلى المدرسة أو الكتاتيب، فهي لا تخرج إلا لبيت الجيران أو لزيارة صاحبتها، أو إلى أقاربها، مثل بيت جدها، أو أعمامها، وعماتها، وكذلك خالاتها وأخوالها، أو لغرض حضور عرس أحد أقاربها أو صويحباتها.
يكون معها أخوها الأصغر الطفل الذي لم يظهر على عورات النساء، بحيث لا يسبب لها الحرج عندما تجلس مع صاحبتها، والطفل يكون مصاحبا لأخته الكبيرة حتى لا تتعرض للمضايقات في الشارع أو لأي مكروه لا قدر الله تعالى، في هذه الفترة العمرية، يطلق عليها شمبريب، تكون ممنوعة من الإفراط في شرب الشاهي، أو أكل التمر والسكريات بصفة عامة، لا تتسلق الجبال ولا تعمل عملا ًشاقاً ولا تصافح الرجال أو تجلس في سرير والدها أو إخوانها، تلبس ملابس فضفاضة، والمعروف ب(الدرع) لكي تستر جسدها حتى من إخوانها ووالدها ولا ترفع صوتها عالياً اثناء الحديث ولايسمح لها بالمبيت خارج منزل ابيها وامها تحت اي ظرف كان.
(الشمبريب)! هذا السن العمري يعتبر عمرا حساسا، وفترة تحول في حياة البنت، وهنا يبرز دور الأم في التربية لأن أية خطأ أو تقصير في تربية البنت ينعكس سلباً على سمعة العائلة على وجه العموم، وعلى سمعة الأم على وجه الخصوص، ولذا الأم تراقب بنتها في كل حركاتها وسكناتها، وتعلمها كيف تحافظ على نظافة جسدها وملابسها، وكيفية استخدام المزيلات الشعبية ضد العرق حتى لا تفوح منها رائحة العرق، وتعلمها آداب الأكل، وتدربها على كيفية إعداد الطعام والطبخ ونظافة وترتيب البيت وكوي الملابس.
وإذا لاحظت الأم من بنتها تصرفا غير لائقا (مثل الإفراط في تناول الطعام والسكريات، أو الضحك بدون سبب) أشارت إليها بنظرة قوية لتشعر البنت بغلطتها وتحذرها من عدم تكرارها مرة أخرى وإلا سوف يكون مصيرها العقاب أو تشتكيها عند والدها عندما يتطور الأمر، وأحيانا تقوم الأم بمعاقبة بنتها بواسطة القرص في الكتف أو الفخذ وتكون موجعة حتى تشعر البنت بألم القرصة وتعتذر وتعد بعدم تكرار الخطأ مرة أخرى في المستقبل.
وعندما تتجاوز البنت السابعة عشر تكون مهيئة نفسيا ومعنويا ومستعدة جسديا لتكوين العش الزوجي.
بالنسبة للأولاد فيكون الأب مسؤلا عن تربيتهم، وإعدادهم حتى يكونوا رجالا يتحملون صعاب الحياة وتعقيداتها.
أولا وقبل كل شيئ فالأب هو القائد الذي يقود سفينة الأسرة، ولذا يكون المثل الأعلى في الاستقامة، والالتزام الديني، ويبعد نفسه عن المحرمات والشبهات، ويحافظ على صلواته الخمسة في الجماعة، ويصوم ويزكي ويحج إذا استطاع سبيلا، ويربي أبناءه أحسن تربية. وقد جرت العادة تقديم التوجيه على شكل نصائح وقت تناول الوجبات حيث تجتمع الأسرة، الأب والأبناء الذكور يجلسون على مائدة الطعام، والأم وبناتها على مائدة طعام أخرى.
وفي أثناء تناول وجبتي الغداء والعشاء يقوم الوالد في تربية أبناءه ويعلمهم آداب الأكل، والبعد من المحرمات التي تغضب الله تعالى، ويحافظوا على سمعة العائلة، واحترام الكبار، وعندما يسير الولد مع أبيه في الطريق دائماً يكون الولد متأخر عنه بخطوة لا يتقدم عليه أو يكون بمحاذاته والده في المشي، وكان من ضمن أساليب التربية الجادة للأبناء بأنه عندما يخطئ الابن خطأ عيناً بيناً يتم ضربه وتوبيخه بأشد العبارات من قبل الأب.
والابن لا يستطيع أن يرفع رأسه ولا ينظر في وجه أبيه، بل يطأطأ راسه ويظهر الندم والاعتراف بما بدر منه، وفي نهاية الأمر سمحتي أمام الأب ويقبل يديه ورأسه ويتصالح معه.
وأيضاً كان للمجتمع دور هام جدا في تربية الأولاد، فعندما يخطئ الولد ويتصرف تصرفا غير لائق خارج المنزل، يقوم بالنصح والإرشاد وتصحيح المسار وإذا كانت الحاجة ماسة قام بدور الأب كاملا بموافقة الأب وتصريح منه، دون الرجوع إليه لأخذ الإذن منه.
وقديما كانوا يقولون تربية الأولاد يقوم بها أهالي قرية بأكملها.
وعندما يصل الابن العشرين من عمره يهيئ لتكوين الأسرة، عادة يقوم الأب ببناء غرفتين مستقلتين في داخل حوش الأسرة، وعادة ما تبنى البيوت في قندع من الخشب وأوراق الأشجار القوية (تعرف الشجرة بشجرة تسس) وتغطى او يتم كساء المنزل بالطين المخلوط بروث الأبقار ثم يتم طلائه بالجير الأبيض حتى لاتفوح رائحة الطين المخلوط بروث الحيوان، ويغطي من فوق بالزنك. هذا نوع من المنازل تكون دافئة في أيام البرد و في أوقات الشتاء وباردة في اوقات الصيف.
وفي نفس الوقت هناك من يبني منزله بالحجر، والاسمنت أو الطوب الأحمر، الطوبة كانت تباع ثلاثة ملاليم.
وكان الطوب الاحمر يصنع محلياً في مصنع بروموتال.
في البداية أحب أن أصف المجتمع الإرتري المسلم مقارنة بالمجتمعات في الدول الإسلامية المجاورة بأن المجتمع الإرتري له خصوصيته ويختلف عن الكبت الموجود في مجتمعات الدول العربية من أصول البداوة المتشددة، والتي تعتبر صوت المرأة عورة، وكشف وجهها حرام، بل لا يجوز التحدث معها إلا من وراء الحجاب، أيضاً هو يختلف مع المجتمعات العربية المنفتحة نوعا ما حيث تسافر الفتاة لوحدها إلى مدينة أخرى لكي تدرس الجامعة، وتحضر اجتماعات مطولة مع زملائها من الطلبة وتناقش فيها المواضيع الفكرية والسياسية، وتصاحبها الضحكات والمصافحات بين الفتيان والفتيات.
شروط الزواج عند مجتمعنا لم تكن صعبة بل كانت سهلة وميسرة، ولذا البنت لا تصل السن العشرين وإلا تكون في بيت زوجها.
المجتمع كان دائماً يخاف ويتردد إعطاء بنته من شخص مجهول الهوية وغير معروف في قندع أو في منطقة سمهر، ولكن الشخص الذي يعيش بينهم بغض النظر عن انتماءه القبلي أو القومي حتى من أصول خارج البلد يزوج بكل سهولة.
عندما يصل الشاب سن الزواج ويكون جاهزاً لتحمل المسئولية يكون التفاهم بين الأم والأب ويتخذ القرار بتزويجه، تنشط حينها والدته وأخواته في البحث عن شريكة الحياة، فتاة تتوفر فيها ميزات العقل المتزن، والأدب الخلقي والجمال الخلقي.
وكانت الأولوية دائما تكون لزواج الأقارب بنت العم، الخال،العمة والخالة في حالة توفر بنت الأقارب، وأم الولد تقوم بالزيارة وتكون المصارحة في الموضوع بين أم الفتاة وأم الفتى، وتعد أم الفتاة بأنها تنقل المطالب إلى والد الفتاة (هنا في هذه الحالة بحكم صلة قرابة الأهل تكون لديهم معروفة وخلفية عن الفتاة والفتى) ولذا تكون الأمور سهلة وغير صعبة.
أما في حالة عدم توفر زواج الأقارب فتنشط الأم وتحاول أن تجد لابنها شريكة حياته عن طريق سؤال معارفها من النساء الثقات، وفي حالة وجود النصيب واليقين، تقوم الأم بزيارة منزل الفتاة والتعرف عليها عن قرب.
في حالة حصول الاختيار على البنت المناسبة للخطوبة، تقوم أم الفتى بمصارحة الأب وتشرح له مواصفات البنت، هنا ينتهي دور الأم، ويتولى الأب المسئولية ويقابل والد الفتاة، في حالة القبول المبدأي يتخذ أب الولد الخطوة الأولى والرسمية، ويطلب يد البنت لابنه،ويتم إعلان الخطوبة اما في حالة الرفض وعدم نجاح الخطوة يكون الموضوع في طي الكتمان والسر من الجانبين وينتهي الموضوع.
بعد الإتفاق المبدئي بين أهل الطرفين، يقوم كل طرف منهم بتبشير أهله وأقربائه، ويتم تحديد موعد الخطبة حسب الاتفاق المبرم سالفا، عادة تكون الخطبة محصورة على نطاق محدود بين الأهل والأقارب والجيران، يتقدم فيها أب الابن طالباً يد البنت على سنة الله تعالى ورسوله، ويكون الرد بالقبول، ثم تقرأ سورة الفاتحة والدعاء والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . يقدم فيها الخاطب هدية رمزية لخطيبته من الذهب (السلسال، الخاتم، والساعة) وحقيبة صغيرة من الملابس او فلوس.
وجرت العادة بأن تستمر فترة الخطوبة سنة كاملة، تكون فرصه كافية لكي يتعرف الأهالي ببعضهم البعض من خلال الزيارات المتبادلة وتقديم الهدايا الرمزية، في هذه الفترة تسابق المخطوبة الزمن لكي تخيط وتطرز أكبر عدد ممكن من الملايات، تساعدها صاحباتها وعماتها وخالاتها، فقد كان من المشين بأن تتزوج البنت بدون أعمال يدها أو أن تشتري الملايات من السوق، بل هذا يعتبر إنتقاصاً من مكانتها، وبعد ثمانية أشهر تقريبا من تاريخ الخطوبة يتم اللقاء بين أهل الخطيبين ويتم تحديد موعد للفرح والعرس، عادة يكون في فصل الربيع أو فصل الصيف.
كلما يقترب موعد العرس كلما تزداد الضغوط على العروسين، فلكل واحد منهما مهام يجب أن ينجزها قبل موعد العرس، وأم العريس دائماً تكلم العريس عن خطيبته، وأدبها وعقلها الراجح واحترامها للكبار، وجمالها دون التعمق في وصف دقيق، حتى العريس يشتاق اكثر لرؤية عروسته ولكن الخطيبين عادة يعرفان بعضهما عندما كانا صغارا، كانت تجمعهم المدرسة أو الكتاتيب.
قبل الزواج بأسبوع تبدأ أجواء الفرح، أول خطوة تكون شرب العروس السنو أو سنى مكة لمدة ثلاثة ايام متتالية مع صاحباتها، ثم تحضر صاحبات العروس ويقمن بغسل الملايات وكويها، ثم توضع في الشنطة، وأول حفلة تكون حفلة البنات صاحبات العروس، والمعازيم فقط من البنات والعرايس الجدد بعد تناول وجبة الغداء يبدأ الرقص والفرح.
وفي اليوم التالي ويعرف بيوم الخروط، يتم تسريح وغسل شعر العروس وتصفيفه وتلبس العروس الفوطة وتعطر وتبخر وتجلس على سرير الزوجية، ولا تنزل من السرير إلا للحاجة، تجلس في السرير حتى يوم ذهابها إلى بيت زوجها، في هذه الفترة تأكل العروس أكلات خفيفة.
اليوم التالي يكون يوم وعلو تحضر فيه الأمهات بعد تناول وجبة الغداء ويبدأ الرقص والغناء وآخر يوم هو يوم العقد تكون في الفترة الصباحية بعد انتهاء من العقد تقدم فية لقمة القاضي والشعيرية والشاي بالحليب، ثم الناس ترجع إلى بيوتها وترجع بعد الظهر لتناول وجبة الغداء.
قبل العقد يتم تقديم ماي عشل ماي مخلوط بالحنة والذرة للعروسن، ويتم رشهم أو غسلهم ثم يلبسون الملابس الشعبية، الرجل يلبس عمة، سماديت وثوب ويمسك بيده السيف بحضور أصحابه لكي يشجعونه، ويذهب بصحبة أصحابه وأعمامه وأخواله وأقربائه والجيران إلى مكان العقد، الأيام الثلاثة التي تسبق يوم الفرح أو العقد يكون بيت العريس كله أفراح وطرب وغناء ورقص الرجال.
يرقصون لوحدهم سعسعيت ومرقدي، والنساء وحدهن دون الخلط بين الذكور والإنات سعسعين ويوليلا وليلا شعر بصوت شجي عادة تنشده عمة أو خالة العريس أو العروس، يغنون فيه العروسين وآبائهم وأمهاتهم ويصلون على النبي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
وجبة الغداء تكون الرز باللحم والانجيرا بطبيخ البطاطس، ويقوم الناس بمباركة وتهنئة العريس ووالدين العروسين، وفي العصر يأخذ العريس زوجته إلى بيتها الجديد.