رمضان الستينيات وبداية السبعينيات في مدينة أسمرا
بقلم الأستاذ: محمود درع - كاتب ارتري
وليك يا صايم
محمد نبيك يا صايم
فطورك يا صايم
مشبك صمبوصة أكل العروسة
تمر ولله الأمر
حاجة رخيصة وطعمها لذيذة
الله وليك يا صايم
لا أدري هذه النداءات والدعايات الشفهية لحاجيات رمضان موجودة أم هاجرت مع أصحابها، فإني لم أزر البلد منذ أن تركته.
فبعد العصر الأسواق كانت تدب فيها الحياة وتكتظ بالباعة الجوالة والمتبضعين وأسواق الخضار تظهر فيها أنواع خاصة لم تكن موجودة طيلة شهور السنة إلا في هذا الشهر الفضيل كالفجل مثلا والبامية والرجلة والملوخية والأجواء تتعطر برائحة الجوافة الكرناوية والموز البركاوي والباباي واليوسفي القندعاوي والخيرات (على قفا من يشيل) والأسعار ملاليم. ومع قرب ساعات الإفطار تسمع في الحواري إيقاعات محببة للنفس كأصوات دق البن إعداد القهوة (الجبنة) التي تنبعث من المنازل المفتوحة على بعضها (دق دق دق) ورائحة البن المخلوطة برائحة قلي اللقيمات تغطي الأرجاء وتفتح شهية الصائم.
المدينة برمتها كانت لها نكهة خاصة في شهر رمضان. فالمساجد عامرة بالمصلين والعلماء والوعاظ يتبارون في شرح ماهية رمضان وخصائصه وصوت شيخ عبد المؤذن رحمه الله يجلجل بنداء الحق ليل نهار بدءا بالترحيم الذي يسبق آذان الفجر (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله) حتى يسمع صوته أسمرا من أقصاها إلى أقصاها.
والشيخ الدمرداش المصري مدير المعهد الديني الإسلامي وقتئذ يؤم المصلين بصوته العذب في صلات التراويح، والشيخ صالح مدير مدرسة الجالية العربية رحمه الله والذي توفي مقتولا بأيدي الدرق يلهب بخطبه مشاعر المصلين في مسجد الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ عبد القادر الزولاوي رحمه الله الخطيب المفوه والمغرم بقراءة سورة الرحمن قبل بدء آذان الجمعة بأسلوب فريد وبصوته الجميل ولسانه الفصيح حتى يجزم المستمع أن هذه اللكنة للسان عربي مبين، أسأل الله أن تشفع له هذه السورة بقدر ما كان يحبها يوم يكون الأمر لله وحده، والشيخ عبد السلام رحمه الله والذي إذا غاب عن مجلسه يوما في الجناح الأيمن من مسجد خلفاء الراشدين يشعر الصائم أن البهارات الرمضانية تنقصها مادة مهمة وهو بحق كان شيخ الشباب إذ أن معظم الشباب كانوا يحضرون مجلسه من بعد صلاة الظهر حتى آذان العصر والذي لا يخلو من بعض الفكاهات حيث أنه كان يقرص الخياطين ببعض العبارات (تتطنققوا نزن أوالد كدان كتعقنون كلخوم هسس مبال نصومكم باطل إيو زقبرو).
كما أن هناك فرجت الذي كان يأتي دوره بعض صلاة العصر حيث يبدأ بعبارة (ياربي فرجا.. فرجت) ثم يتبعها ببعض الأبيات الشعرية بالتغري (الدنيا تأتعصي ربي لقبأ ديبا خيانيت وطلاميت قلول بدي ديبا) أو (حمدكوكا مولاي حمدي تستأهل وشكر - أنتا تتطعم من ولاد من ود داقم وبكر - أنتا تتطعم من نبرا ومن حليب وأكل - دلا أنت هبكاهو نوسو ركبا لأمسل) ثم يلحقها بعبارة أخرى (إذا زاد عندكم الخير فلا تنسونا... فرجت... يا ربي فرجا).
وبعد صلاة التراويح يأتي دور الشباب الذين كانت تكتظ بهم المقاهي.
فهناك كانت قهوة حسن مبروك يرتادونها الشباب الذين كانوا يكبروننا سنا آنذاك حيث يطربون بالإستماع إلى الأغاني المحلية والسودانية كأغاني الأمين عبداللطيف (أقبليني سراي وخاتم حظي زابيكو) وعثمان عبدالرحيم (فقري عوور أميني) وتولدي ردا (ناي فطرتنا يقرمني) وجابر محمود (توبا حقو الا يئفتي) ووردي (ما تخجل وصدفة) ومحمد الأمين (الجريدة وقالوا متألم شويا) والكابلي (سكر وحبيبة عمري) ثم كانت هناك قهوة (هطياوي) لصاحبها بشير والتي تحولت لاحقا إلى الأخوين سعيد وإبراهيم والتي يمكن الإستماع فيها بعض أغاني عبدالحليم حافظ (على حسي وداد ألبي يابوي رح اأول للزين سلامات سلامات.. ضيعت عليه عمري يابوي أنا ليا معاه حكايات حكايات).
كما كانت هناك قهوة دالول المتخصصة في الأغاني الهندية للأفلام التي كانت مشهورة آنذاك (جانقلي، وكت، جانوار، مازر إنديا، هامراز ..الخ).
حقيقة لا أدري هل أقول كانت أيام حلوة... أم كانت النفوس حلوة... أم كنا بسطاء نفرح لأشياء بسيطة... أم أن العمر له دور في الحكم على الأشياء.
وكل رمضان وأنتم بخير