أغردات عراقة الماضي وأصالة الحاضر - الجزء الاول
حاوره الأستاذ: محمود عبدالله أبو كفاح - إعلامي وكاتب ارتري
تبعد مدينة أغردات عن العاصمة أسمرا 172 كيلومتراً من الجهة الغربية ، وتشير الوثائق التاريخية
إلى أن البقعة التي أنشأت فيها هذه المدينة كانت في العصور القديمة مرعى للبهائم ومكاناً غير مأهولاً بالسكّان ، وقد وُضِعت أولى لبنات عمرانها في العام 1887م حيث قام الإيطاليون ببناء قلعةٍ وموقعاً محصّناً لقواتهم العسكرية على الربوة المرتفعة شرقي مدينة أغردات الحالية ، ليزداد عمرانها تدريجياً مع مرور الوقت وتصبح فيما بعد من المدن الإرترية الكبرى التي يشير اليها بالبنان ، فموقعها الاسترايجي المطل على نهر بركة ساهم في إزدهار النشاط البستاني والحيواني على أطرافها، ومكنها من ان تصبح مركزاً تجاريا هاماً يؤمه الجميع للتزود بما يحتاجونه من مواد إستهلاكية ، وفوق هذا وذاك كانت اغردات البقعة التي إختمرت فيها فكرة إعلان الكفاح المسلح وذلك بفضل الحس الوطني العالي الذي كان يتميز به قاطنيها آنذاك ، كل تلك المزايا وغيرها تجعل من أغردات مركزاً سياحياً ينبغي التعرف على تفاصليه الموغلة في القدم ، للحصول على المزيد من المعلومات عن خلفية نشأة مدينة أغردات والمعالم التاريخية التي تحتضنها والموروث الثقافي والنضالي الذي تفخر به دوماً ، وغيرها من الموضوعات السياحية المتعلقة بالمدينة كنا قد التقينا بالسيد محمود محمد صالح حالي - مسؤول جمعية مقدمي الخدمات السياحية بإقليم القاش بركة ، فإلى مضابط الحوار:
متى تأسست مدينة أغردات ،ومن أين أتى الأسم الذي تحمله الآن،وكيف تطورت من بلدة صغيرة الى واحدة من المدن الإرترية الكبرى ؟
تأسست مدينة اغردات في العهد الإيطالي ، ويحكي ان أحد الأيطاليين الذين أرسلتهم إيطاليا لتحديد موقع ملائم لتأسيس مدينة في منطقة بركة ، قد مر على البقعة التي توجد بها اغردات حاليا والتي كانت عبارة عن غابة تغطيها الاشجار الضخمة ، وبينما كان يتحسس ذلك الموقع ومدى ملائمته لإنشاء مدينة تصبح حاضرة لتلك المناطق وجد رجلاً من قومية التقرى بأبقاره فسأله عن طبيعة المنطقة فقال له الرجل بلغة التقرى "إلا أكان قردت بديبا" أي أن هذه المنطقة فيها حشرة القراد ،فظن الإيطالي انه يخبره بإسم المنطقة ومنذ ذلك اليوم اطلق الإيطاليون على ذلك المكان إسم أغردات ، فبسبب كثرة تلك الحشرة كان الناس لايحبون تلك المنطقة ومعظم السكان كانوا يتركزون في منطقتي دقا وعدعمر حيث مقر إدارة دقلل الاهلية في تلك الآونة ، وبعد إختيارهم بشكل مبدئي للمنطقة شرع الإيطاليون في إزالة الأشجار منها وتأسيس النواة للمدينة الحالية ، حيث بنوا بالإضافة الى القلعة على الربوة المرتفعة شرقي مدينة أغردات الحالية منزلين في فروبيا تابعة لهيئة السكة حديد.
وفي العام 1934م كانت هنالك إمراة تدعى "عائشة كبير" تقطن بالقرب من المركز الحالي للبوليس وفي إحدى الأيام شب حريق هائل في منزلها لينتقل الى باقي منازل البلدة التي كانت مبنية من القش ويحولها الى رماد ، وإثر تلك الحادثة وجد الايطاليون فرصتهم واعلنوا انهم بصدد تخطيط هذه البلدة وقيل للسكان من يريد ان يسكن داخل هذه البلدة ان يبحث عن مكان آخر لثروته الحيوانية ، ومن لم يستطع فعليه ان يسكن في اطراف البلدة ، وبالفعل قاموا بإعداد خارطة سكنية للمدينة حيث كانت مساحة الأرض السكنية المخصصة للأسرة الواحدة "400 متر مربع" وعلى ضوءها تم تخطيط أقدم احياء أغردات الثلاثة "حلة قمروت ، حلة حبش ،حلة جبر" ، ولكن لضيق هذه المساحة فقد رفضها البعض لاسيما اولئك الذين كانوا يمتلكون عدداً من قطعان الماشية وقرروا الإنتقال الى اطراف البلدة في حي حلة قصب.
وبعد ذلك بدأت البلدة في النمو رويدا رويداً حيث بنى فيها مقر الكهرباء وعمارة "باخشب" بطابقها الارضي المشيد بسيقان أشجار الدوم وغيرها من المباني وبهذه الصورة استطاعت البلدة ان تحصل على خدمات الكهرباء والماء ، وفيما يتعلق بنظام الحكم الاهلي فقد كان نظام حكم الدقلل هو السائد في تلك المنطقة حتى نهاية الاربعينيات وبعده تغير الوضع لتنفرد كل قبيلة بإدارة شؤونها بنفسها.
صف لنا الحياة الإقتصادية التي كانت سائدة في أغردات خلال العقود السابقة ؟
كانت بلدة اغردات سوقاً للماشية يأتي اليها الناس لبيع بهائمهم من معظم المناطق المجاورة "مناطق الماريا - كركبت - بارنتو... وغيرها ، ويذكر ان شركة انكودا الاسرائيلية للحوم كانت تشتري الابقار من اغردات وتنقلها الى اسمرا ليتم تعليب لحومها وتصديرها الى الخارج ، أضف الى ذلك فقد كان مالكي الأبقار والعاملين في بيع وشراء هذه الحيوانات يجمعون الأبقار ويأتون بها الى أسواق أسمرا وبيعها في اسواق عداقا حموس وعداقا عربي للحصول على أسعار عالية لاسيما وان سكان العاصمة أسمرا كانوا يفضلون لحوم الأبقار عن غيرها ، وان هذه الميزة لازالت تلازمها حتى الآن فالمدينة الآن أيضاً بها سوق للماشية يعمل بشكل يومي دون توقف ، ومن المعلوم ان الإنجليزعند قدومهم الى اغردات أعطوا تراخيص لزراعة فاكهة الموز في البساتين المطلة على نهر بركة وبدأ المواطنون يجلبون شتلات الموز من السودان خفية في الجوالات ويغرسونها في بساتينهم ، ويذكر ان السيد محمد الحسن ود الانصاري هو اول من بدأ زراعة الموز في بساتين اغردات وتبعه بعد ذلك المزارعان عبد الرقيب و عثمان حالي ، وكانوا يستخدمون في ري مزارع الموز ما كان يعرف بالساقية التي تجرها الجمال او الثيران لجلب الماء من الآبار ، واستمر الوضع بهذه الصورة لتشتهر المنطقة في فترة الستينيات بإنتاج كميات كبيرة من الموز والتي كانت تقوم بشراءها شركة دنداي مع شركة شربتلي السعودية بهدف تصديرها الى السعودية وإيطاليا ، ومن المعلوم ان هذه الشركات كانت تعطي قروض لأصحاب البساتين وتشجعهم على الإنتاج مما ساهم ذلك في إزدهار النشاط البستاني لاسيما في إنتاج فاكهة الموز ، فالموز كان يأتي في المرتبة الثانية بعد البن في تمكينه المستعمر الأثيوبي من الحصول على العملات الصعبة.
وفي فترة السبعينيات بدأت زراعة البربروني بكميات كبيرة في بساتين اغردات ، فقد كان سعرها عاليا وتصدر في هيئة شحنات الى ألمانيا ، واستمر الوضع على تلك الشاكلة حتى مجزرة سنبت ظلام ، أي مجزرة الأحد الأسود التي إرتكبتها أثيوبيا بحق أهل المدينة ، لتتحول مدينة أغردات بفعل تلك الجريمة النكراء الى مدينة أشباح ، وتضعف فيها وتتقهقر كل الأنشطة الإقتصادية الى الوراء.
وماذا عن البناء العمراني الذي مرت به المدينة ؟
بخصوص البناء العمراني فقد كانت أغردات تزخر بالعديد من المباني الحديثة التي تعود ملكيتها لبعض الإيطاليين واليمنيين فضلاً عن بعض الإرتريين ميسورى الحال ، اما البقية فقد كانت منازلهم مبنية من المواد المحلية بالرغم من ان تكاليف البناء الحديث لم تكن باهظة في ذلك الوقت ولكن معظم الناس في المدينة كانوا يركزون جهدهم في إمتلاك أكبر قدر من قطعان الماشية كنوع من التفاخر ولايعيرون مسألة المباني والعمران أي إهتمام.
وما اود ان أشير اليه هنا ان معظم المباني القديمة التي تزخر بها أغردات في الوقت الحالي نجدها مبنية على الطراز المعماري التركي ولكن الذين قاموا ببناءها هم الإيطاليون ، صحيح ان الاتراك وصلوا الى هذه الأصقاع إبان غزوهم لتلك المناطق ولكنهم لم يتركوا آثاراً تذكر.
صف لنا آثار مرحلة النضال التحرري التي تحتضنها مدينة أغردات سواء المعنوية منها والمادية ؟
مدينة اغردات هي المدينة التي شهدت بدايات الحراك الذي سبق إعلان الكفاح المسلح ، فقد كان عواتي يحمل فكرة التريث قبل إعلان الثورة حتى تكتمل التجهيزات ولكن الشيخ محمد داؤود إبن سيدنا مصطفى ، من قرية عد سيدنا مصطفي إحدى قرى أغردات هو الذي أصر على عواتي ان يتولى مهمة إطلاق الشرارة الاولى للكفاح المسلح واعداً إياه بتوفير كل مايحتاجه ، وهذا ما حدث في نهاية المطاف ومنذ ذلك اليوم أضحت أغردات بيئة ملائمة للثوار وتحركاتهم ، ومن اهم العلميات التي شهدتها أغردات في بداية الستينيات أي في الثاني من يوليو 1962م العملية الفدائية التي رمي فيها الشهيد آدم قندفل قنبلة في إجتماع جماهيري كان يعقده أبى أببي وكيل هيلى سلاسى في إرتريا وزوج إبنته مع الشعب للدعوة الى الوحدة مع أثيوبيا بحضور أسفها ولدميكائيل رئيس الحكومة الارترية انذاك وحامد فرج والشيخ صالح وغيرهم من الاعيان ، وبشكل عام فإن مديرية إغردات لاسيما المنطقة الممتدة من تكرريت وحتى إنقرنى كانت ساحة لتحركات فدائيئ الثورة الذين كانوا يبثون الرعب في قلوب وكلاء العدو الاثيوبي وعملاءه في المنطقة ، فالشعب هنا كان يقف بكل ما يملك مع أبناءه الثوار سواء بدفع الإشتراكات لصالح الثورة او الإنضمام في صفوفها ومقارعة العدو وجهاً لوجه ، وكنوع من العقاب على تلك الوقفة الشجاعة مع الثوار ، إرتكب العدو الاثيوبي كما أسلفنا في التاسع من مارس 1975م بحق اهل مدينة اغردات مجزرة بشعة راح ضحيتها خلال سويعات قلائل أكثر من ستمئة شهيد وشهيدة من أطفال ونساء ورجال عزل تم دفنهم في قبور جماعية بسبب كثرة عددهم ومضايقات العدو فيما يعرف الآن بمقبرة سنبت ظلام والتي تحظي بإحترام الجميع تقديراً لأرواح الشهداء الذين تحتضنهم ، اضف الى ذلك تحتضن مدينة اغردات الموقع الذي اعدم فيه الشهيدين محمد حسنو وعبدالرحيم محمد موسى شنقاً بتهمة انهما من رميا القنبلة في اجتماع أبي أببي بالشعب في وسط اغردات ، واتذكر في تلك الآونة هتافات الشهيد محمد حسنو إثناء تنفيذ حكم الاعدام بحقه وهو يقول تحيا إرتريا ، يحيا الشعب الإرتري ، ولحفظ ذلك التاريخ كان هنالك مقترح لإقامة منتزه بأسم الشهيدين في تلك البقعة "امام محطة أجب" ولكنها وبكل أسف وزعت الى المواطنين لتشيد فيها المحال التجارية رغم تنبيهنا للإدارة بخصوص الاهمية التاريخية للبقعة.
نواصل... في الجزء القادم